إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ما عندك يا ثمامة؟

          4372- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) أبو محمَّد التِّنِّيسيُّ قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بنُ سعدٍ الإمامُ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسانَ المقبريُّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا / هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم خَيْلًا) أي: فرسانَ خيلٍ، وهو من ألطفِ المجازاتِ وأبدعها، فهو على حذف مضافٍ، وفي الحديث: «يا خيلَ اللهِ اركَبِي» أي: فرسانَ خيلِ اللهِ (قِبَلَ نَجْدٍ) أي: جهتها (فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟) كذا في الفَرْع كأصله وغيرهما ممَّا وقفتُ عليه من الأصولِ المعتمدةِ، والذي في «الفتح» و«عمدة القاري»: ”ماذا“ بزيادة: ذا، وإعربه _كالطِّيبي في «شرح مشكاته»_ أن تكون «ما» استفهامية، و«ذا» موصولًا و«عندك» صلته، أي: ما الَّذي استقرَّ عندكَ من الظنِّ فيما أفعلُ بك؟ أو «ماذا» بمعنى: «أي شيءٍ» مبتدأ، و«عندك» خبره، فظنَّ خيرًا (فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ) لأنَّك لست ممَّن يظلمُ بل يُحسنُ ويُنعم (إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ) بالمهملة وتخفيف الميم، أي: تقتُلُ(1) من عليه دمٌ مطلوبٌ به(2) وهو مستحقٌّ عليه فلا عتبَ(3) عليك في قتلهِ. وفعلُ الشَّرط إذا كرِّر في الجزاءِ دلَّ على فخامةِ الأمرِ، وللكُشمِيهنيِّ _كما في «الفتح»_: ”ذمٍّ“ بالمعجمةِ(4) وتشديد الميم، أي: ذا ذمَّةٍ، وضُعِّفَتْ لأنَّ فيها قلبًا للمعنى؛ لأنَّه إذا كان ذا ذمَّة يمتنعُ قتلهُ. وأُجيب بالحملِ على أنَّ معناهُ الحرمة في قومه (وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ) بضم الفوقية، أي: فتركه النَّبيُّ صلعم (حَتَّى كَانَ الغَدُ) وسقطَ لغير أبي ذرٍّ لفظ «فتُركَ» (ثُمَّ قَالَ) ◙ له: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فقَالَ(5): مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ) ╕ (حَتَّى كَانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ) له: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي‼ مَا قُلْتُ لَكَ).
          اقتصرَ في اليوم الثَّاني على أحدِ الأمرين، وحذفهما في اليوم الثَّالثِ، وفيه دليلٌ على حذقِهِ؛ لأنَّه قدَّم أوَّل يومٍ أشقَّ الأمرينِ عليه وهو القتلُ؛ لِمَا رأى من غضبهِ صلعم في اليوم الأوَّل، فلمَّا رأى أنَّه لم يقتلْهُ رجَا أن يُنعم عليه، فاقتصرَ على قوله: «إن تُنعِم» وفي اليومِ الثَّالث اقتصر على الإجمالِ تفويضًا إلى جميلِ خُلُقه ولُطفه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أدعى للاستعطافِ والعفوِ.
          (فَقَالَ) ╕ : (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) فأطلقوهُ (فَانْطَلَقَ إِلَى نَجلٍ) بالجيم في الفَرْع أي: ماء مستنقع، وفي نسخة: بالخاء المعجمة (قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ) منه (ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ(6) إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ) أي: فرسانكَ (أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ) ولأبي ذرٍّ ”النَّبيُّ“ ( صلعم ) بما حصلَ له من الخيرِ العظيمِ بالإسلامِ، ومحو ما كان قبلهُ من الذُّنوبِ العِظَام (وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ) لم أعرف اسمهُ: (صَبَوْتَ) أي: خرجتَ من دينٍ إلى دين؟! (قَالَ: لَا وَاللهِ) ما صبوتُ، وسقطَ لفظ الجلالةِ من «اليونينية»(7) (وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صلعم ). وهذا من أسلوبِ الحكيمِ، كأنَّه قال: ما خرجتُ من الدِّين؛ لأنَّكُم لستُم على دينٍ فأخرج منه، بل استحدثتُ(8) دينَ اللهِ وأسلمتُ مع رسول الله صلعم لله ربِّ العالمين.
          فإن قلتَ: «مع» تقتضِي استحداثَ المصاحبةِ؛ لأنَّ معنى المعيَّة المصاحبة وهي مفاعلةٌ، وقد قُيِّد الفعلُ بها فيجبُ الاشتراكُ فيه، كذا نصَّ عليه صاحب «الكشَّاف» في الصَّافَّات. أُجيب بأنَّه لا يبعدُ ذلك فلعلَّهُ وافقهُ، فيكونُ منه صلعم استدامةً ومنه استحداثًا.
          (وَلَا وَاللهِ) فيه حذفٌ، أي: واللهِ لا أرجعُ إلى دينكُم و(لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلعم ) زاد ابنُ هشامٍ: «ثمَّ خرجَ إلى اليمامةِ فمنعهم أن يحملوا إلى مكَّة شيئًا، فكتبوا إلى النَّبيِّ صلعم : إنَّك تأمرُ بصلةِ الرَّحم، فكتبَ إلى ثمامةَ أن يخلِّي بينهُم وبينَ الحَمْلِ إليهم».
          وهذا الحديثُ قد مرَّ في «باب ربط الأسيرِ في المسجدِ» [خ¦462] مختصرًا.


[1] في (ص): «إن تقتل».
[2] «به»: ليست في (ب) و(م).
[3] في (ب) و(س) و(د): «عيب».
[4] في (ص): «بالذال المعجمة».
[5] في (س): «قال»، في (د): «فقلت».
[6] في (م): «الأديان».
[7] قوله: «قال: لا وَاللهِ ما صبوتُ، وسقطَ لفظ الجلالةِ من اليونينية»: جاءت في (د): «قال لا ما صبوت» وسقط الباقي.
[8] في (ص) و(م): «استجديت».