التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه

          ░5▒ باب: مَا ذُكِرَ في دِرْعِ النَّبِيِّ صلعم وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
          قوله: (مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ) أي: به فحذفه كما حُذف في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] و ذكره ابن بَطَّالٍ في التَّرجمة، ذكر فيه ستَّة أحاديث:
          أحدها في خاتمه:
          3106- حَدَّثَنَا محمَّد بْنُ عَبْدِ الله الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بكرٍ ☺ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ النَّبِيِّ صلعم (وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ: محمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ واللهِ سَطْرٌ).
          وقد سلف في الزَّكاة بطوله [خ¦1448].
          3107- ثانيها في نعله: ساقه مِنْ حديث عِيسَى بْنِ طَهْمَانَ قَالَ: (أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ، فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ صلعم).
          ويأتي في اللِّباس مختصرًا [خ¦5858]، وأخرجه التِّرمِذيُّ في «شمائله».
          3108- ثالثها في كسائه: ساقه مِنْ حديث أبي بُرْدة: (أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتي يَدْعُونَهَا الْمُلَبَّدَةَ) ويأتي في اللِّباس [خ¦5818]، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          3109- رابعها في قَدَحِه: عَنْ عَاصِمٍ عَن ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ☺ (أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلعم انْكَسَرَ فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ) قَالَ عَاصِمٌ: رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ.
          3110- خامسها في سيفه: مِنْ حديث عليِّ بن حسينٍ عن المِسْوَر مطوَّلًا، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          3111- 3112- سادسها: عن محمَّد بن الحنفيَّة ولم يتعرَّض فيه لشيءٍ مِنَ الآية، وذكر بعد فقال: وقال الحُمَيديُّ، معلَّقًا.
          الشَّرح: هذه الأحاديث تأتي أيضًا في اللِّباس، وخِطبة عليٍّ بنتَ أبي جهلٍ في آخر حديث المِسْوَر تأتي في الفضائل [خ¦3767].
          ولم يذكر هنا درعه استغناءً بحديث عائشة ♦ الَّذي أسلفه في الرَّهن [خ¦2508] وغيره، أنَّه رهنه عند يهوديٍّ وكان له أدرعٌ: منها السُّغْدِيَّة _بغينٍ معجمةٍ قبلها سينٌ مهملةٌ_ نسبةً إلى سُغْدِ سَمَرْقَنْد فيما أحسب، وقيل: بعينٍ مهملةٍ وسينٍ مفتوحةٍ، وكانت لعُكَيْرٍ القَيْنُقَاعيِّ، وهي درعُ داود صلعم كما أفاده النَّيْسَابُوريُّ في «شرف المصطفى»، ومنها فضَّةٌ كانت عليه يوم أُحدٍ، ومنها ذات الفُضول، قال أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكرٍ في كتاب «الجوهرة»: هي الَّتي رهنها عند اليهوديِّ، ومنها ذات الوِشاح والبَتراء والخِرْنِق وذات الحواشي.
          وأمَّا عصاه فكان له مِحْجَنٌ قدر ذراعٍ أو أكثر وهي معقَّفةُ الرَّأس كالصَّولجان يستلم به الرُّكن، ويمشي وهو في يدِه، ومِخْصرةٌ تُسمَّى العُرْجُون يتَّكئُ عليها، وله أيضًا عَسيبٌ مِنْ جَريد النَّخل.
          ولمَّا أخرج حديث أنسٍ في الخاتم في اللِّباس قال في آخره: وزادني أحمدُ حدَّثنا الأنصاريُّ حدَّثني أبي عن ثُمَامة عن أنسٍ قال: ((كان خاتم النَّبيِّ صلعم في يده، وفي يد أبي بكرٍ بعده، وفي يد عمرَ بعد أبي بكرٍ، فلما كان عثمانُ جلسَ على بئرِ أَرِيسٍ، فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط، فاختلفنا ثلاثة أيامٍ ننزح البئر فلم نجده))، وأحمد هذا قيل: إنَّه أحمد بن حنبلٍ.
          فصلٌ: والَّذي ذُكر مِنَ الدِّرع والعصا إلى آخره يدلُّ على أنَّه صلعم لم يكن يتجاوز البُلْغة ولم يقتصر عنها، وذكرت هذه الآلات هنا لتكون سنَّةً للخلفاء في الختم، واتِّخاذ الخاتم لما يحتاج إليه فيه، واتِّخاذ السَّيف والدِّرع أيضًا للحرب.
          وأمَّا الشَّعر فإنَّما استعمله النَّاس على سبيل التَّبرُّك به منه خاصَّةً، وليس ذلك مِنْ غيره بتلك المنزلة، وكذلك النَّعلان مِنْ باب التَّبرُّك أيضًا، ليس لأحدٍ في ذلك مزيَّةُ رسولِ الله صلعم، ولا يُتبرَّك مِنْ غيره بمثل ذلك، قاله المهلَّب، وقد يُنازع فيه.
          وأمَّا طلب المِسْوَر لسيف رسول الله صلعم مِنْ عليِّ بن حسينٍ فإنَّه أراد التَّبرُّك به لأنَّه مِنْ أحباس المسلمين، وكان على يد الحسين فلما قُتل أراد أن يأخذه المِسْوَر لئلَّا يأخذه بنو أميَّة، ثُمَّ حلف إن أعطاه إيَّاه أنَّه لا يُخلَص إليه أبدًا بشاهدٍ مِنْ فعلِ رسول الله صلعم على الحلف، والمقطع على المستقبل ثقةً بالله في إبراره، واشترط في يمينه شريطةً دون ما حلف عليه، وهي قوله: ((لا يُخلص إليه حتَّى يُخلص إلى نفسي)).
          فصلٌ: اتِّفاق الأمَّة بعدَه صلعم على أنَّه لم يملك دِرعه، ولا شيء ممَّا ذكر يدلُّ أنَّهم فهموا مِنْ قوله: (لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) أنَّه عامٌّ في / صغير الأشياء وكبيرها، فصار هذا إجماعًا معصومًا، لأنَّه لا يجوز على جماعة الصَّحابة الخطأ في التَّأويل، وهذا ردٌّ على الشِّيعة الَّذين ادَّعَوا أنَّ الصِّدِّيق والفاروق حَرَما فاطمة والعبَّاس ميراثهما مِنْ رسول الله صلعم.
          وقد روى الطَّبَريُّ مِنْ حديث أبي إسحاق قلت لأبي جعفرٍ: أرأيت عليًّا حين وَلِيَ العراق، وما كان بيده مِنْ سلطانه كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قال: سلك به _والله_ طريق أبي بكرٍ وعمرَ، قال: فكيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أما والله ما كان أهله يصدُرون إلى غير رأيه، ولكنَّه كان يكره أن يُدَّعى عليه خلاف أبي بكرٍ وعمرَ.
          فصلٌ: قوله: (نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ) أي: خَلَقَين، ومنه ثوبٌ جَرْدٌ أي خَلَقٌ، وقال الدَّاوُديُّ: أراد لا شعر عليهما، وربَّما وقع ((جرداوتين))، والصَّواب ما أسلفناه مثل: حمراوين.
          وقوله: (لَهُمَا قِبَالَانِ) هو بكسر القاف، وهو ما يشدُّ به الشِّسْع. وقيل: كان لكلِّ نعلٍ منهما قِبالان، قاله مالكٌ، قال: رأيت نعلَي رسول الله صلعم إلى التَّقدير ما هي، وهي مختصرةٌ يختصرها مِنْ مؤخَّرها ومعقَّبةٌ مِنْ خلفها، ولها زِمامان. وبه صرَّح أبو عُبيدٍ، فقال: (قِبَالاَنِ) هما زِمامان، والقِبال مثل الزِّمام بين الإصبع الوسطى والَّتي تليها، وقد أقبلَ نعله وقابلَها.
          وقوله: (أَخْرَجَتْ كِسَاءً مُلَبَّدًا) أي مرقَّعًا، ذكره ثعلبٌ، قال: ويقال للرُّقعة الَّتي يرقع بها قَبُّ القميص القبيية، والرُّقعة الَّتي يُرقع بها صدرُ القميص اللِّبْدة، وقد لَبَدْتُ الثَّوبَ أَلْبُدُهُ وأُلَبِّدُهُ، ذكره الهَرَويُّ، وقال الدَّاوُديُّ: هي الخشنة الصَّفيقة.
          فصلٌ: قول عاصمٍ: (رَأَيْتُ الْقَدَحَ وَشَرِبْتُ فِيهِ) بعد أنْ قال: (انْكَسَرَ واتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ) الشَّعبُ بفتح الشِّين المعجمة.
          قال مالكٌ: لا أحبُّ أن نأكل في آنية الفضَّة، ولا في قدحٍ مضبَّبٍ بفضَّةٍ أو فيه حلقة فضَّةٍ. وعندنا إن كانت يسيرةً للحاجة لا كراهة، والَّذي اتَّخذ مكان الشَّعب سلسلةً هو أنسٌ على الصَّواب.
          قال أبو عليٍّ: كذا رُوي في هذا الإسناد عن أبي زيد المَرْوَزيِّ، وعند ابن السَّكَن وأبي أحمد وغيرهما: عاصمٌ عن ابن سَيرِين عن أنسٍ، وهو الصَّواب، وكذا ذكره البزَّار في «مسنده» كما رواه عن البُخَاريُّ ثُمَّ قال: لا أعلم أحدًا رواه عن عاصمٍ عن ابن سِيرِين عن أنسٍ إلَّا أبا حمزة، قال الدَّارَقُطْنيُّ: خالفه شَرِيكٌ فرواه عن عاصمٍ عن أنسٍ، والصَّحيح قول أبي حمزة.
          قال الجَيَّانيُّ: والَّذي عندي في هذا أنَّ بعض الحديث رواه عاصمٌ عن أنسٍ، وروى بعضه عن ابن سَيرِين عن أنسٍ، وهذا بيِّنٌ في حديث أبي عَوانة عن عاصمٍ المذكور عند البُخَاريِّ، وفي آخرِه قال: وقال عاصمٌ: قال ابن سِيرِين: إنَّه كانت فيه حَلْقةٌ مِنْ فضَّةٍ، فقال له أبو طَلحة: لا تغيِّرنَّ فيه شيئًا صنعه النَّبيُّ صلعم فتركه، قال: كذا رواه أبو عَوانة وجوَّده، ذَكر أوَّلَه عن عاصمٍ عن أنسٍ، وآخره عن عاصمٍ عن محمَّدٍ عن أنسٍ.
          فصلٌ: قوله: (حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَقْتَلَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَحْمَةُ الله عَلَيْهِ) كان ذلك سنة إحدى وستِّين يوم عاشوراءَ، والمِسْوَر مِنْ بني زُهْرة ابن أخت ابن عوفٍ، وكون السَّيف عند آل عليٍّ لعلَّها كانت عنده حياة رسول الله صلعم، أو أعطاه إيَّاها أبو بكرٍ لغنائة في الإسلام.
          وذِكرُ المِسْوَر لقصَّة فاطمة لِيُعلِم عليَّ بن الحسين بمحبَّته فيها وفي نسلها، لِمَا سمع مِنْ رسول الله صلعم، وقوله صلعم في حقِّ فاطمة: (أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا) يريد أنَّها لا تصبر، وفي الكتاب الَّذي بعث به عليٌّ إلى عثمانَ في حديث ابن الحنفيَّة ما كان عليه مِنَ القول بالحقِّ، وفيه علم عثمانَ.
          وقوله: (اغْنِهَا عَنَّا) قال الخَطَّابيُّ: كلمةٌ معناها التَّرك والإعراض. قال ابن الأنباريِّ: ومنه قوله تعالى: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ} [التغابن:6] المعنى تركهم، لأنَّ كلَّ مَنِ استغنى عن شيءٍ تركه، وهو ثلاثيٌّ مِنْ قولهم: غَنِيَ فلانٌ عن كذا فهو غانٍ مثل علم فهو عالمٌ، ووقع في بعض الكتب: <أَغنِها> بفتح الهمزة، وصوابه ما تقدَّم.
          قال الدَّاوُديُّ: ويحتمل قوله: (اغْنِهَا عَنَّا) أن يكون عنده مِنْ ذلك علمٌ، أو أنَّه أمرَ به. وقال ابن بَطَّالٍ: ردُّ الصَّحيفة وقوله: أَغْنِهَا عَنَّا، فذلك لأنَّه كان عنده نظيرٌ منها ولم يجهلها، لا أنَّه ردَّها وليس عنده علمٌ منها، ولأنَّه قد كان أمرَ بها سعاته فلا يجوز على عثمانَ غير هذا.
          وفيه أنَّ الصَّاحب إذا سمع عن السُّلطان أمرًا مكروهًا أن ينبِّه بألطف التَّنبيه، وأن يسند ذلك إلى مَنْ كان قبله، كما أسند عليٌّ أمرَ الصَّحيفة إلى رسول الله صلعم، وأسند عُروة بن الزُّبَيرِ في إنكاره على عمرَ بن عبد العزيز تأخير الصَّلاة إلى أبي مَسعودٍ وأنَّه أنكر ذلك على المُغيرة بن شُعبة، فاحتجَّ بأُسوةٍ تقدَّمت له في الإنكار على الأئمَّة، ثُمَّ أسند الحديث حين وقفه عمرُ.
          وقوله: (لَوْ كَانَ عَلِيٌّ ☺ ذَاكِرًا عُثْمَانَ ☺) يعني: بشرٍّ ذكرَه في هذه القصَّة، فدلَّ أنَّ عليًّا عذر عثمانَ بالتَّأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا.
          وقد سلف فعل أبي بكرٍ وعمرَ في باب: فرض الخُمس [خ¦3093]، وأمَّا فعل عثمانَ في صدقة النَّبيِّ صلعم، فرواه الطَّبَريُّ عن ابن حُميدٍ حدَّثنا جريرٌ عن مُغيرة قال: لمَّا ولي عمرُ بن عبد العزيز جَمَعَ بني أميَّة فقال: إنَّ النَّبيَّ صلعم كانت له فَدَكُ، فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بني هاشمٍ، ويزوِّج منها أيِّمهم، وأنَّ فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك حياة رسول الله صلعم حتَّى قُبض، ثُمَّ ولي أبو بكرٍ فكانت كذلك، فعمل فيها بما عمله رسول الله صلعم حياته حتَّى مضى لسبيله، ثُمَّ ولي عمرُ فعمل فيها مثل ذلك، ثُمَّ ولي عثمان فأقطعها مروانَ فجعل مروانُ ثلثَيها لعبد الملك، وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك ثلثيه ثلثًا للوليد وثلثًا لسُليمان، وجعل عبد العزيز ثلثَه لي، فلمَّا ولي الوليد جعل ثلثَه لي، ثُمَّ ولي سليمان فجعل ثلثه لي، فلم يكن لي مالٌ أَعْوَدَ عليَّ ولا أشدَّ لحاجتي منها، ثُمَّ ولِيت أنا فرأيت أنَّ أمرًا منعه رسولُ الله صلعم فاطمةَ ابنته أنَّه ليس لي بحقٍّ، وإنِّي أشهدكم أنِّي قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلعم.
          قال الطَّبَريُّ: وأمَّا عثمانُ فإنَّه كان يرى في ذلك أنَّه لقيِّم أهل الصُّفَّة وإلَّا قد امتثل حين سألته فاطمة وشكتْ إليه الطَّحن والرَّحى أن يُخْدِمَها مِنَ السَّبي، فوكلها إلى الله فيه، على أنَّ فاطمة اشتكت ما تلقى مِنَ الرَّحى ممَّا تطحن، فبلغها أنَّه صلعم أُتي بسبيٍ، فأتت له تسأله خادمًا، فلم توافقه، فذكرتْ لعائشة، فجاء رسول الله صلعم فذكرتْ ذلك عائشةُ له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم، فقال: ((على مكانكما)) حتَّى وجدتُ برد قدميه على صدري، فقال: ((ألا أدلُّكما على خيرٍ ممَّا سألتماه؟ / إذا أخذتما مضاجعكما فكبِّرا الله أربعًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، فإنَّ ذلك خيرٌ لكما ممَّا سألتماه)).
          قال إسماعيل بن إسحاق: هذا الحديث شاهدٌ أنَّ الإمام يقسم الخُمس حيث رأى على الاجتهاد، لأنَّ السَّبي الَّذي أُتي به رسول الله صلعم لا يكون _والله أعلم_ إلَّا مِنَ الخُمس، إذ كانت الأربعة الأخماسِ تُدفع إلى مَنْ حضر الوقعة، ثُمَّ منع رسول الله صلعم أَقرَبِيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قال مالكٌ والطَّحَاويُّ.
          قال الطَّبَريُّ: ذهب قومٌ أنَّ ذوي القربى _قرابةَ رسول الله صلعم_ لهم سهمٌ مِنَ الخمس مفروضٌ، لقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41] وهم بنو هاشمٍ وبنو المطَّلب خاصَّةً لإعطاء رسول الله صلعم إيَّاهم دون سائر قرابته، هذا قول الشَّافعيِّ وأبي ثَورٍ. وذهب قومٌ إلى أنَّ قرابة رسول الله صلعم لا سهم لهم مِنَ الخُمس معلومًا، ولا حظَّ لهم خلاف حظِّ غيرهم، وقالوا: وإنَّما جعل الله لهم ما جعل مِنْ ذلك، في الآية المذكورة لحال فقرهم وحاجتهم، فأدخلهم مع الفقراء والمساكين، فكما يَخرج الفقير والمسكين مِنْ ذلك بخروجهم مِنَ المعنى الَّذي استحقُّوا به ذلك وهو الفقر، فكذلك قرابة رسول الله صلعم المذكورون معهم إذا استغنَوا خرجوا مِنْ ذلك، قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله صلعم حظٌّ لكانت فاطمةُ بنته صلعم منهم، إذ كانت أقربَهم إليه نسبًا وأمسَّهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظًّا في السَّبي، ولا أخدمَها، ولكنَّه وكلَها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الَّذي يرجو لها به الفوزَ مِنَ الله والزُّلفى عنده.
          قال الطَّبَريُّ: ولو كان قسْمًا مفروضًا لذوي القربى لأخدم ابنته، ولم يكن صلعم ليدع قسمًا اختاره الله لهم وامتنَّ به عليهم، لأنَّ ذلك حَيفٌ على المسلمين واعتراضٌ لما أفاء الله عليهم، فأخدم منه ناسًا، وتركُه ابنته ثُمَّ لم تدَّع فيه حقًّا بقرابةٍ حين وكلها إلى التَّسبيح، ولو كان فرضًا لبيَّنه تعالى كما بيَّن فرائض المواريث.
          قال الطَّحَاويُّ: وبذلك فعل أبو بكرٍ وعمرُ بعد رسول الله صلعم قسما جميع الخُمس، ولم يريا لقرابة رسول الله صلعم في ذلك حقًّا خلاف حقِّ سائر النَّاس، ولم ينكره عليهما أحدٌ مِنَ الصَّحابة ولا خالفهما فيه، وإذا ثبت الإجماع مِنْ أبي بكرٍ وعمر، ومِنْ جميع الصَّحابة ثبت القول به، ووجب العمل به وتركُ خلافه، وكذلك فعلَ عليٌّ لمَّا صار الأمر إليه حمل النَّاس عليه على ما ثبت في الباب.
          قال المهلَّب: الأثرة بيِّنةٌ في هذا الحديث، وذلك أنَّ ابنة رسول الله صلعم لمَّا استخدمته خادمًا فعلَّمها مِنْ تحميده وتكبيره ما هو أنفع لها بدوام النَّفع، وآثر ذلك الفقراء الَّذين كانوا في المسجد قد أوقفوا أنفسهم لسماع العِلم، وضبط السُّنن على شِبْع بطونهم لا يرغبون في كسب مالٍ ولا راحة عيالٍ، فكأنَّهم استأجروا أنفسهم مِنَ الله بالقُوت، فكان إيثار رسول الله صلعم لهم وحرمان ابنته دليلًا واضحًا أنَّ الخُمس موقوفٌ للأوكد فالأوكد، وليس على مَنْ ذَكر اللهُ بالسَّوية كما قال الشَّافعيُّ، لأنَّه آثر المساكين على ذوي القُربى، وهم مذكورون في الآية قبلهم، وإنَّما الأمر موكولٌ إلى اجتهاده صلعم، له أن يحرم مَنْ شاء ويعطي مَنْ شاء، وقد سلف ما في ذلك.
          فصلٌ: أنَّ طلبة العلم مقدَّمون في خمس الغنائم على سائر مَنْ ذَكر اللهُ فيها اسمًا، لأنَّ أصحاب الصُّفَّة كانوا قد تجرَّدوا لسماع العلم، وضبط السُّنن على شِبع بطونهم، فكانوا أجَّروا أنفسهم مِنَ الله بالقوت، وذكر إسماعيل بن إسحاق مِنْ حديث ابن عُيَينة وحمَّاد بن سَلَمة عن عَطاء بن السَّائب عن أبيه عن عليٍّ أنَّه صلعم قال لفاطمة وعليٍّ: ((لا أُخدِمكما وأدع أهل الصُّفَّة يطوون جوعًا لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه فأنفقه عليهم)) وهذا ما تشير إليه ترجمة البُخَاريِّ الآتية.
          وفيه أيضًا حملُ الإنسان أهلَه على ما يحمل عليه نفسه مِنَ التَّقلُّل في الدُّنيا، وتسلِّيهم عنها بما أعدَّ الله للصَّابرين في الآخرة.
          وفيه دخول الرَّجل على ابنته وهي راقدةٌ مع زوجها.
          وفيه جواز جلوسه بينهما وهما راقدن، ومباشرة قدميه وبعض جسده جسمَ ابنته، وجواز مباشرة ذوي المحارم، وهو خلاف قول مالكٍ، وقولُ مَنْ أجاز ذلك أولى لموافقة الحديث له.
          وفيه أنَّ أقلَّ الأعمال الصَّالحة خيرٌ مكافأتُها في الآخرة مِنْ عظيم أمور الدُّنيا؛ أن يكون التَّسبيح _وهو قولٌ_ خيرٌ أجرًا في الآخرة مِنْ خادمٍ في الدُّنيا وعنائها بالخدمة والسِّعاية عن مالكها، وكيف بالصَّلاة والحجِّ وسائر الأعمال الَّتي تُستعمل فيها أعضاء البدن كلُّها!