التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فرض الخمس

          ░1▒ باب: فرض الخُمس.
          3091- ذكر فيه حديث عليٍّ ☺: قال: (كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ...) الحديث.
          3092- 3093- وحديثَ عائشة عن فاطمة بنت رسول الله صلعم ♦: (أنَّها سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله صلعم أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ الله صلعم...) الحديث.
          3904- وحديثَ مالكِ بن أَوسٍ (كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ ☺ فَجَاءَ...) الحديثَ بطوله.
          الشَّرح: حديث عليٍّ ☺ سلف في البيوع [خ¦2089] وتأتي له زيادةٌ في غزوة بدرٍ [خ¦4003]، وحديث مالكٍ: قال البُخَاريُّ فيه: حدَّثنا إسحاقُ بن محمَّدٍ الفَرْوِيُّ، هذا هو الصَّواب، ووقع في نسخة أبي الحسن <محمَّد> بدل إسحاق وكأنَّه وهمٌ، وقد أخرجه في المغازي والنَّفقات والاعتصام والفرائض، وأخرجه مسلمٌ.
          وحديث عائشةَ أخرجه في مناقب أهل البيت والمغازي والفرائض، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          وقوله: (اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا) لا نعرف ذلك، والَّذي ذكره أهل اللُّغة أنَّه ثلاثيٌّ، وهو ما في النُّسخ المصحَّحة <جُبَّتْ>، والجَبُّ: القطع، ومثله قيل للَّذي قُطع إحليله فاستؤصِل: مجبوبٌ، ومَنْ رواه <أُجِبَّت> فهو جائزٌ، والبَقْرُ: الفتح، والثَّمِل: السَّكْران.
          وقول عليٍّ: (أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ) يعني: يوم بدرٍ، فظاهره أنَّ الخمس كان يوم بدرٍ، ولم يختلف أهل السِّيَر _كما قال ابن بَطَّالٍ_ أنَّ الخُمس لم يكن يوم بدرٍ، ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: في غزوة بني قُرَيظة حين حكم سعدٌ بأن تُقتل المقاتِلة وتُسبى الذُّرِّيَّة قيل: إنَّه أوَّل يومٍ جُعل فيه الخُمس، قال: وأحسب أنَّ بعضهم قال: نزل أمر الخُمس بعد ذلك، ولم يأتِ في ذلك مِنَ الحديث ما فيه بيانٌ شافٍ، وإنَّما جاء أمر الخُمس معيَّنًا في غنائم حُنينٍ، وهي آخر غنيمةٍ حضرها رسول الله صلعم، وإذا لم يُختلف أنَّ الخُمس لم يكن يوم بدرٍ فيحتاج قوله إلى تأويلٍ لا يعارض قول أهل السِّيَر.
          ويمكن أن يكون معناه ما ذكره ابن إسحاق: أنَّه صلعم بعث عبدَ الله بن جحشٍ في رجبٍ في السَّنة الثَّانية مِنَ الهجرة قبل بدرٍ الأولى في سريَّةٍ إلى محلَّةٍ بين مكَّة والطَّائف فوجدوا بها قريشًا فقتلوهم، وأخذوا العِير. قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض آل عبد الله بن جحشٍ أنَّ عبد الله قال لأصحابه: إنَّ لرسول الله صلعم ممَّا غنمنا الخُمس، وذلك قبل أن يُفرض الخمس مِنَ المغانم، فعزل لرسول الله صلعم خمس العِير وقسم سائرها بين أصحابه، فوقع فرضُ الله في قسمة الغنائم على ما كان عبد الله صنع في تلك العير، ثُمَّ خرج رسول الله صلعم في رمضان بعد هذه السَّريَّة إلى بدرٍ، فقتل بها صناديدَ الكفَّار، فبان بهذا الخبر معنى قول عليٍّ: (أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ) أي: مِنْ نصيبه مِنَ المغنم يوم بدرٍ، وكان أعطاه قبل ذلك شارفًا مِنَ الخمس مِنْ سريَّةِ عبد الله بن جحشٍ.
          وقد روى أبو داود في هذا الحديث ما يدلُّ على هذا المعنى قال: كان لي شارفٌ مِنْ نصيبي مِنَ المغنم يوم بدرٍ، وأعطاني رسول الله صلعم شارفًا مِنَ الخُمس يومئذٍ.
          واختَلف العلماء في الخُمس كيف يقسمه الإمام على ثلاثة أقوالٍ:
          فقال مالكٌ: يُسلَك بالخمس مسلكُ الفيء فإن رأى الإمام حبْسَ ذلك لنوائبَ تنزل بالمسلمين فَعل، وإن شاء قِسمَتَه وأعطى كلَّ واحدٍ على قدر ما يُغنيه. ولا بأس أن يعطي منه أقرباء رسول الله صلعم على قدر اجتهاد الإمام، وكان يرى التَّفضيل في العطاء على قدر الحاجة. زاد ابن المُناصِف عنه: وهما حلالان للأغنياء بخلاف الزَّكاة.
          وقال أبو حَنيفةَ: الخُمس على / ثلاثة أسهمٍ، يُقسم سهمٌ لليتامى والمسَاكين وابن السَّبيل فيهم، ويُؤخذ سهم ذوي القربى وسهم رسول الله صلعم فيُردَّان في الكُرَاع والسِّلاح، محتجًّا بما رواه الثَّوْريُّ عن قَيس بن مسلمٍ عن الحسن بن محمَّد بن الحنفيَّة أنَّهم اختلفوا في سهم الرَّسول وسهم ذي القُربى فقال: سهم الرَّسول للخليفة بعدَه، وقال بعضهم: سهم ذي القربى هو لقرابة الرَّسول، وقال بعضهم: هو لقرابة الخليفة، فأجمع رأيهم أنَّهم جعلوا هذين السَّهمين في العُدَّة والخيل، فكان ذلك في خلافة أبي بكرٍ وعمرَ. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا يجوز أن يُبطل عمرُ ولا غيره سهم ذي القربى؛ لأنَّه مسمًّى في كتاب الله ولم ينسخه شيءٌ، ومَنْ أبطله فقد ركب أمرًا عظيمًا.
          وقال الشَّافعيُّ: خُمِّس على خمسةٍ فيُردُّ سهم رسول الله صلعم على مَنْ سُمِّي معه مِنْ أهل الصَّدقات وهم: ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السَّبيل، وقوله: {لِلَّهِ} [الأنفال:41] مفتاحُ كلامٍ. قلت: مذهبه أنَّ سهم الله ورسوله يُصرف لمصالح المسلمين حتَّى تأتي القسمة على خمسةٍ.
          قال إسماعيل: فأسقط أبو حَنيفةَ سهمَ ذي القربى وأخذ في طرفٍ، وأخذ الشَّافعيُّ في طرفٍ آخر، وتركا التَّوسُّط مِنَ القول الَّذي مضى عليه الأئمَّة.
          والاختلاف الَّذي اختلفوا فيه لم يكن كما توهَّمه أبو حَنيفةَ، وإنَّما رُوي عن ابن عبَّاسٍ أنَّهم ناظروا عمر في سهم ذي القربى على أن يكون لهم خمس الخمسِ فأبى عمرُ مِنْ ذلك، وذهب أنَّ الخمس يقسم في ذي القربى وغيرهم على الاجتهاد.
          قال إسماعيل: قوله: لِلَّهِ مفتاح كلامٍ، لا يُفهم، وقد ذكر الله في كتابه {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] وقال تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] فأيُّ كلامٍ جاء بعد هذا فيكون هذا مفتاحًا له، وإذا قيل: الله، فهو أمرٌ مفهوم اللَّفظ والمعنى، لأنَّه يعلم أنَّ الرَّجل إذا قال: جعلتُ هذا الشَّيء لله أنَّه ممَّا يقرِّب إلى الله، وهذا لا يحتاج أن يقول فيه مفتاح الكلام فكذلك قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}الآية [الأنفال:41] في معنى ما يقرِّب مِنَ الله ومِنْ رسوله، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز في قوله: {لِلَّهِ} قال: اجعلوه في سبيل الله الَّتي يأمر بها، ولو كان قوله: {لِلَّهِ} لا يوجب شيئًا، لكان ما بعده لا يوجب شيئًا، لأنَّ ما بعده معطوفٌ عليه، فإن كان القول الأوَّل لا يجب به شيءٌ، فكذلك ما عُطف عليه لا يجب به شيءٌ.
          قلت: الشَّافعيُّ أراد بهذا أنَّه افتتح به للتَّبرُّك والابتداء باسمه، وأشار به إلى أنَّه يُصرف مَصرف القُرَبكما ذكره أو ذكر اسمه في اسم رسوله تشريفًا له وتعظيمًا.
          وقد نقل ابن بَطَّالٍ بعد هذا في باب: قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] أنَّ الحسن بن محمَّد بن عليٍّ سُئل عن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] قال: هذا مفتاح كلامٍ الله الدُّنيا والآخرة.
          وشرعَ الطَّحَاويُّ يردُّ على الشَّافعيِّ في تخميسه الفيء، ولم يكفِه ذلك حتَّى لفظ فيه بما لا أذكره ولا يُذكر، معلِّلًا بأنَّ الله تعالى ذكره ذكر الغنائم، فأوجب فيها الخمس، وذكر الفيء، فقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر:7] كما قال في أوَّل آية الخمس ثُمَّ قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] فذكر في الغنائم الخمس لأصنافٍ مذكورين، وذكر في آية الفيء الجميعَ في جميع الفيء فثبت أنَّ حكم الفيء غيرُ حكم الغنيمة.
          قلت: الفيء يُخمَّس يعني أنَّه يُجعل أخماسًا، وخمسه يصرف للخَمسةِ المذكورين في الآية، فتكون القسمة مِنْ خمسةٍ وعشرين سهمًا، كذا كان سيِّد الأمة يقسمه، وكان له أربعة أخماس الفيء وخُمس الخمس الباقي، فله مِنَ الخمسة وعشرين أحدٌ وعشرون سهمًا. بل قال الغزاليُّ وغيره مِنْ أصحابه: كان الفيء كلُّه له إلى أن مات، وإنَّما تُخمَّس بعد موته. وقال الماوَرْديُّ وغيره: اختصاصه بجميع الفيء كان في أوَّل حياته، ونُسِخ في حياته.
          والغنيمة تُخمَّس وخمسها لأهل خمس الفيء كما سلف، والباقي للغانمين.
          فصلٌ: ولم يتنازع عليٌّ والعبَّاس في الخُمس، وإنَّما تنازعا فيما كان لرسول الله صلعم خاصًّا ما لم يوجف المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، فتركَه صدقةً بعد وفاته، فحكمه حكم الفيء، وفيه حُجَّةٌ لمالكٍ في قوله: إنَّ مجرى الخُمس والفيء واحدٌ، وهو خلاف قول الشَّافعيِّ: إنَّ الفيء فيه الخمس وإنَّ خمس الفيء يقسم على خمسة أسهمٍ، وهم الَّذين قسم الله لهم خمس الغنيمة.
          وادَّعى ابن بَطَّالٍ انفراد الشَّافعيِّ به وأنَّ أحدًا لم يقله قبله، والنَّاس على خلافه، قال: وحديث مالك بن أوسٍ لم يذكر فيه أنَّه صلعم كان يلزمه إخراج الخُمس فيه حجَّةٌ على الشَّافعيِّ، لأنَّه لا يمكن أن يفضل له مِنْ سهمه بخَيبرَ بعد نفقة سَنَته الَّذي ينفقه، أو أقلَّ أو أكثر، ولو كان فيه الخمس لبيَّن ذلك.
          فصلٌ: ووجه هِجْران فاطمة للصِّدِّيق كما قال المهلَّب أنَّه لم يكن عندها قوله صلعم: ((لا نُورَث ما تركنا صدقةٌ)) ولا علِمَته ثُمَّ أنِفتْ أن تكون لا ترث أباها كما يرث النَّاس في الجاهليَّة والإسلام، مع احتمال الحديث عندها أنَّه أراد به بعض المال دون بعضٍ، وأنَّه لم يُرد به الأصول والعقار، فانقادت وسلَّمت للحديث وإنَّما كان هِجْرانها له انقباضًا عن لقائه وترك مواصلته، وليس هذا مِنَ الهِجْران المحرَّم، وإنَّما المحرَّم مِنْ ذلك أن يلتقيا فلا يُسلِّمَ أحدهما على صاحبه، ولم يروِ واحدٌ أنَّهما التقيا وامتنعا مِنَ التَّسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا بذلك متهاجرَين، إلَّا أن تكون النُّفوس مضمرةً للعداوة والهِجْران، وإنَّما لازمتْ بيتها، فعبَّر الرَّاوي عنه بالهِجْران، هذا وجه هِجْرانها له، لكنَّها وجَدَت عليه أن أحرَمها ما لم يُحرم أحدٌ، ولسنا نظنُّ به إضمار الشَّحناء والعداوة، وإنَّما هم كما وصفهم الله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
          ورُوي عن عليٍّ أنَّه لم يغيِّر شيئًا مِنْ سيرة أبي بكرٍ وعمر بعد ولايته في تركة رسول الله صلعم، بل أجرى الأمر فيها على ما أجرياه في حياتهما.
          فصلٌ: فإن قلت: حديث عائشة في الباب ليس فيه ذكر الخمس، قلت: وجهه أنَّ فاطمة إنَّما جاءت تسأل ميراثها مِنْ رسول الله صلعم مِنْ فَدَكَ وخَيْبَر وغيرهما، وفَدَكُ ممَّا لم يوجَف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ فلم يجز فيها خُمسٌ، وأمَّا خَيبرُ فإنَّ الزُّهْريَّ ذكر أنَّ بعضها صلحٌ، وبعضها عَنوةً، فجرى فيها الخُمس.
          وقد جاء هذا في بعض طرق الحديث في كتاب المغازي، قالت عائشة: ((إنَّ فاطمة جاءت تسأل نصيبها ممَّا ترك رسول الله صلعم ممَّا أفاء الله عليه بالمدينة وفَدكَ وما بقي مِنْ خُمس / خَيبرَ))، وإلى هذا أشار البُخَاريُّ واستغنى لشهرة الأمر عن إيراداه مكشوفًا بلفظ الخُمس في هذا الباب.
          فصلٌ: وفي حديث مالكٍ مِنَ الفقه أنَّه يجب أن يولَّى أمرَ كلِّ قبيلة سيِّدُها، لأنَّه أعرف باستحقاق كلِّ رجلٍ منهم لعلمه بهم.
          وفيه أنَّ الإمام ينادي الرَّجل الشَّريف باسمه وبالتَّرخيم له ولا عار على المنادى بذلك، ولا نقيصة.
          وفيه استعفاء الإمام ممَّا يولِّيه واستنزاله في ذلك بألين الكلام، لقول مالكٍ لعمرَ حين أمره بقسمة المال بين قومه: لو أمرت به غيري.
          وفيه الحجابة للإمام وألَّا يصل إليه شريفٌ ولا غيره إلَّا بإذنه.
          وفيه الجلوس بين يدي السُّلطان بغير إذنه.
          وفيه الشَّفاعة عند الإمام في إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور، وخُشي الفساد بين المتخاصمين، لقول عثمانَ: اقضِ بينهما وأرحْ أحدهما مِنَ الآخر، وقد ذكر البُخَاريُّ في المغازي أنَّ عليًّا والعبَّاس استبَّا يومئذٍ.
          وفيه تقرير الإمام مَنْ يشهد له على قضائه وحكمه، وبيانُه وجهَ حكمه للنَّاس.
          فصلٌ: ومجيء العبَّاس وعليٍّ إلى الصِّدِّيق يطلبان الميراث مِنْ تركة رسول الله صلعم مِنْ أرضه مِنْ فدكَ وسهمه مِنْ خيبرَ وصدقته بالمدينة، على ما ثبت مِنْ حديث عائشة في الباب، فأخبرهم بأنَّه ((لا نورَث ما تركنا صدقةٌ)) فسلَّما لذلك وانقادا، ثُمَّ جاءا بعد ذلك إلى عمرَ على اتَّفاقٍ منهما يطلبان أن يولِّيهما العمل والنَّظر فيما أفاء الله على رسوله مِنْ بني النَّضير خاصَّةً ليقوما به، ويسبِّلاه في السُّبل الَّتي كانت يُسبِّلُه فيها؛ إذ كانت غلَّةُ ذلك مصروفةً في عظم أمور أهل بيتهما، وما فضل مِنْ ذلك مصروفٌ في تقوية الإسلام وأهله، وسدِّ خلَّة أهل الحاجة منهم، فدفعه عمرُ إليهما على الإشاعة بينهما، والتَّساوي والاشتراك في النَّظر والأجرة.
          وأمَّا مجيئهما إليه ثانيًا فلا يخلو مِنْ أحد وجهين: إمَّا أن يطلب كلُّ واحدٍ منهما أن ينفرد بالعمل كلِّه، أو بنصفه، وفرَّا مِنَ الإشاعة لما يقع مِنَ العمَّال والخدم مِنَ التَّنازع، فأبى عمرُ أن تكون إلَّا على الإشاعة، لأنَّه لو أفرد واحدًا منهما بالعمل والنَّظر لكان وجهًا مِنْ وجوه الإمرة، فتتناسخ القرون وهي بأيدي بعض قرابة الرَّسول دون بعضٍ، فيستحقُّها الَّذي هي بيده، ولم يرَ أن يجعلها نصفين على غير الإشاعة، لأنَّ سنَّة الأوقاف ألَّا تُقسم بين أهلها، وإنَّما تقسم غلَّاتها، فلذلك حلف أن يتركها مجملةً ولا يقسمها بينهم فيُشبهَ ذلك التَّوريث.
          وقد ذكر البُخَاريُّ في المغازي أنَّ عليًّا غلَب العبَّاس على هذه الصَّدقة ومنعه منها، ثُمَّ كانت بأيدي بني عليٍّ بعده يتداولونها.
          فرعٌ: جميع ما تركه الشَّارع مِنَ الأصول، وما جرى مجراها ممَّا يمكن بقاء أصله والانتفاع به، حكمه حكم الأوقاف تجري غلَّاتها على المساكين، والأصل باقٍ على ملكه موقفٌ، لقوله: (مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) يعني: موقوفة.
          فصلٌ: وأمَّا قوله: (إِنَّ اللهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ صلعم فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ) يعني المال، فخصَّه بإحلال الغنائم، ولم تحلَّ لأحدٍ قبله، وخصَّه بما أفاء الله عليه مِنْ غير قتالٍ مِنْ أموال الكفَّار، تكون له دون سائر النَّاس، وخصَّه بنصيبه في الخُمس، وهذا معنى ذكره هذا الحديث في الباب، وقال القاضي: فيه احتمالان: الأوَّل: تحليل الغنيمة له ولأمَّته، الثَّاني: تخصيصه بالفيء إمَّا كلِّه أو بعضِه.
          وهل في الفيء خُمسٌ أم لا؟ قال ابن المُنْذرِ: لا نعلم أحدًا قبلَ الشَّافعي قال الخمس في الفيء.
          وفيه أنَّه لا بأس أن يمدح الرَّجل نفسه ويطريها إذا قال الحقَّ، وذلك إذا ظنَّ بأحدٍ أنَّه يريد تنقُّصه.
          وفيه جواز ادِّخار الرَّجل لنفسه وأهله قوت سنةٍ، وأنَّ ذلك كان فعله صلعم حين فتح الله عليه بني النَّضيرِ وفدكَ وغيرهما، وهو خلاف قول جهلة الصُّوفية المنكرين للادِّخار الزَّاعمين أنَّ مَنِ ادَّخر لغدٍ فقد أساء الظَّنَّ بربِّه، ولم يتوكَّل عليه حقَّ توكُّله.
          وفيه إباحة اتِّخاذ العقار الَّذي يُبتغى به الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتَّخاذ نظائر ذلك مِنَ المغنم، وأعيان النَّقدين وسائر الأموال الَّتي يراد منها النَّماء والمنافع، وطلب المعاش، وأصولها ثابتةٌ كما ستعلمه أوضح مِنْ ذلك في باب: نفقته صلعم بعد وفاته، وباب الأطعمة أيضًا [خ¦3096] [خ¦1461].
          وفيه _كما قال الطَّبَريُّ_ أنَّ الصِّدِّيق قضى على العبَّاس وفاطمة بحديث (لَا نُورَثُ) ولم يحاكمهما في ذلك إلى أحدٍ غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمَّة الحكم بعلومهم لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم، بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم ممَّا يَعلم صحَّة أمره رعيَّتُهم، أو يعلمه منهم مَنْ إن احتاجوا إلى شهادته إن أنكر بعضَ ما حكموا به مِنْ ذلك عليهم بعضُ رعيَّتِهم كان في شهادتهم لهم براءةُ ساحاتهم، وثبوت الحجَّة لهم على المحكوم عليه.
          فصلٌ: قال الطَّبَريُّ: في حديث عليٍّ أنَّ المسلمين كانوا في أوَّل الإسلام يشربون الخمر ويسمعون الغِناء، حتَّى نهى الله عن ذلك بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة:90] وسيأتي ما في سماع الغناء عن السَّلف في الاستئذان، وفضائل القرآن [خ¦6301] [خ¦5023]، وقد سلف منه شيءٌ في العيدين [خ¦949].
          فصلٌ: وقوله: (رَجَعَ القَهْقَرَى) قال الأخفَشُ: يعني رجع وراءه ووجْهُه إليك.
          وقوله في حديث عمر ☺: (حَتَى مَتَعَ النَّهَارُ) هو بمثنَّاةٍ فوق قبلها ميمٌ وبعدها عينٌ مهملةٌ، قال صاحب «العين»: متعَ النَّهار متوعًا وذلك قبل الزَّوال، وقال يعقوب: علا واجتمع، وقال غيره: طال، وأمتعَ الشَّيءُ: طالت مدَّته، ومنه في الدُّعاء: أمتَعني اللهُ بك، وقيل: معناه نفعني الله بك، قال الدَّاوُديُّ: متعَ: صار عند قرب نصف النَّهار.
          وقوله: (تَيْدَكُمْ) أي: على رِسلكم وأمهِلوا ولا تعجَلوا، وهي مِنَ التُّؤُدَة، يقول: الزموا تُؤْدَتَكم، وكان أصلها: تَأْدَكُم، فكأنَّه أبدل الياء مِنَ الهمزة، قال الكسائيُّ: تَيْدَ زيدًا ورُوَيدًا زيدًا بمعنًى، أي: أمهِلْ زيدًا، ومَنْ روى ((أتيدكم)) فلا يجوز في العربيَّة، لأنَّ أَتْأَدَ لا يتعدَّى إلى مفعولٍ، لا تقول: أَتْأَدْتُ زيدًا، وإنَّما تقول: تَيْدَكم، كما يقول: رُوَيْدَكم، و(تَـِيْدَكم) بفتح التَّاء، وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ بكسرها.
          وقوله: (أَنْشُدُكُمِْ الله) أي: أسألكم به برفع نشيدتي أي: صوتي، وقال الدَّاوُديُّ معناه: اجعلوا الله شهيدًا بيني وبينكم أن تقولوا ما تعلمون.
          فصلٌ: احتجَّ بعض أهل العلم بهذا الحديث _كما قال الخَطَّابيُّ_ في إبطال حكم السَّكران، وقالوا: لو لزم السَّكران ما يكون منه / في حال سكره كما يلزمه في حال صحوه لكان المخاطبَ رسول الله صلعم بما استقبله به حمزةُ كافرًا مباح الدَّم.
          وقد ذهب على هذا القائل أنَّ ذلك منه إنَّما كان قبل تحريم الخمر وفي زمانٍ كان شربها مباحًا، وإنَّما حُرِّمت بعد غزوة أُحدٍ، قال: جابرٌ: اصطبح ناسٌ الخمر يوم أُحدٍ ثُمَّ قُتِلوا آخر النَّهار شهداء، وأمَّا وقتَ حُرِّمت فشربُها معصيةٌ، وما تولَّد منها لازمٌ، ورُخَصُ الله لا تلحق العاصين. وذهب الخَطَّابيُّ إلى أنَّه لمَّا كان الخمر مباحةً وقت شربها كان ما تولَّد منها بالسُّكر مِنَ الجفاء على رسول الله صلعم لا يلزم فيه عقوبةٌ، فعذره صلعم لتحلُّلها مع أنَّه كان شديد التَّوقير لعمِّه والتَّعظيم له والبرِّ به، وأمَّا اليوم وقد حُرِّمت فيلزم السَّكران حدُّ الفِرْية وجميع الحدود، لأنَّ سبب زوال عقله مِنْ فعل محرَّمٍ عليه.
          فصلٌ: وأمَّا ضمان إتلاف النَّاقتين فضمانهما لازمٌ لحمزةَ لو طالبه عليٌّ به، ويمكنُ يعوِّضُه صلعم منهما، إذ العلماء لا يختلفون أنَّ جنايات الأموال لا تسقط عن المجانين وغير المكلَّفين، ويلزمهم ضمانها في كلِّ حالٍ كالعقلاء، ومَنْ شرب لبنًا أو طعامًا أو تداوى بمباحٍ فسكر فقذف غيره فهو كالمجنون والمغمى عليه والصَّبيِّ، يسقط عنهم حدُّ القذف وسائر الحدود غير إتلاف الأموال، لرفع القلم عنهم، فمن سكر مِنْ حلالٍ فحكمه حكم هؤلاء، وعن أبي عبد الله بن الفَخَّار أنَّ مَنْ سكر مِنْ ذلك لا طلاق عليه، وحكى الطَّحَاويُّ أنَّه إجماعٌ مِنَ العلماء.
          قلت: وهو مذهبنا أيضًا حتَّى لو سكر مكرهًا عندنا فكذلك.
          فصلٌ: قوله: (لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) جميع الرُّواة بالنُّون كما قال القُرْطُبيُّ، يعني: جماعة الأنبياء كما في الرِّواية الأخرى ((نحن معاشرَ الأنبياء لا نُورث))، و(صَدَقةٌ) مرفوعٌ على أنَّه خبر المبتدأ الَّذي هو (مَا تَرَكْنَا). والكلام جملتان الأولى: فعليَّةٌ، والثَّانية اسمُها: اسميِّةٌ.
          وقد صحَّفه بعض الشِّيعة بالياء وصدقةً بالنصب، وجعل الكلام جملةً واحدةً على أنْ يجعل (ما) مفعولًا لم يُسمَّ فاعلُه و(صدقةً) بالنَّصب على الحال، والمعنى: إنَّ ما يُترك صدقةً لا يُورث، وهذا مخالفٌ لما وقع في سائر الرِّوايات ولِما حمله الصَّحابة مِنْ قوله (فَهُوَ صَدَقَةٌ)، لأنَّهم يقولون: إنَّه صلعم يورِث لغيره، متمسِّكين بعموم الآية. وهذا الحديث في معنى قوله: ((إنَّ الصَّدقة لا تحلُّ لآل محمَّدٍ)).
          فصلٌ: هذه اللَّفظة رواها مالكٌ عن عائشة، ومسلمٌ عن أبي بكرٍ، والنَّسَائيُّ عن طلحة بن عُبيد الله، وذكر القاضي أبو بكرِ بن الطَّيِّب أنَّ أبا بكرٍ وعمرَ ☻ وجماعةً مِنَ الصَّحابة روَوه مرفوعًا، وأنَّ الصَّحابة وفاطمة وعليًّا والعبَّاس سلَّموه. وفي البُخَاريِّ هنا أنَّ عمر قال لعثمانَ وعبد الرَّحمن بن عوفٍ والزُّبَير وسعدٍ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ الله صلعم قَالَ ذلك؟ قالوا: نعم، وكذلك قال العبَّاس وعليٌّ بعد هذا لعمر أيضًا.
          وإنَّ الشِّيعة طعنوا فيه، وقالوا: هو مردودٌ بقوله: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّساء:11] قالوا: وقد طالبت فاطمة وعليٌّ والعبَّاس أبا بكرٍ بالميراث. وحُكي أنَّ فرقةً منهم تزعم أنَّه لا يُورث، وقال: لم تطالب فاطمة به وإنَّما طالبت بأنَّه صلعم نحلَها مِنْ غير علم أبي بكرٍ، وأنكر باقي المسلمين هذا، وقالوا: ما ثبت نحْلُ الشَّارع إيَّاها، ولا أنَّها طالبت بذلك.
          وقال الجمهور منهم: لم يجعل الله لنبيِّه ملك رقابِ ما غَنمه، وإنَّما ملَّكه منافعه وجعل له إجراء قوته وعياله منه، وأوجب مثلَ ذلك على القائم بعدَه، وأجاب القاضي بأنَّ الآية وإن كانت عامَّةً فإنَّما توجب أنْ يورث ما تملَّكه صلعم، فدلُّوا على أنَّه تملَّك، ولو سلَّمنا مِلكه لم يكن لهم فيها دليلٌ، لأنَّها ليست عندنا وعند مَنْ أنكر العموم، لاستغراق المالكين وكلِّ مَنْ مات، وإنَّما يبني عن أقلِّ الجمع، وما فوقه محتملٌ، فوجب الوقف فيه.
          وعند كثيرٍ مِنَ القائلين بالعموم أنَّ هذا الخطاب وسائر العمومات لا يدخل فيها الشَّارع، لأنَّ الشَّرع ورد بالتَّفرقة بينه وبين أمَّته، ولو ثبت العموم لوجب تخصيصها، وهذا الخبر وما في معناه يوجب تخصيص الآية، وخبر الآحاد يُخصِّص، فكيف ما كان هذا سبيله وهو القطع بصحَّته.
          قال: وما روَوه مِنْ قدح عليٍّ وفاطمة والعبَّاس في رواية أبي بكرٍ مُعارَضٌ بما هو أقوى وأثبت وأصحُّ عند أهل النَّقل ممَّا روَوه، لأنَّ الرِّوايات قد صحَّتْ مِنْ غير طريقٍ أنَّ فاطمة قالت لأبي بكرٍ: أنتَ وما سمعتَ مِنْ رسول الله صلعم، مِنْ غير قدْحٍ في روايته. وما رواه الشِّيعة مِنْ قدح عليٍّ وفاطمة في رواية أبي بكرٍ غير معروفٍ عند أهل النَّقل.
          انظر هذا ممَّا رواه البُخَاريُّ: أنَّ فَاطِمَةَ هَجَرَتْهُ حتَّى مَاتَتْ، وقال الدَّاوُديُّ: كانت بشريَّةً فربَّما أبهمت المصالح، قال: ولعلَّ أبا بكرٍ حمله عن غيره ولم يسمعه مِنْ رسول الله، وعلمت هي ذلك فاتَّهمت النَّاقل بالسَّهو أو ما يعتري البشر، قال: ورُوي أنَّ الصِّدِّيق كان يأتيها ويعتذر إليها. قال الخَطَّابيُّ: هذه القضيَّةُ مشكلةٌ جدًّا وذلك أنَّ عليًّا وعبَّاسًا إذا كانا قد أخذا هذه القضيَّةَ مِنْ عمر على هذه الشَّريطة، واعترفا بقوله: (لاَ نُورَثُ) فما الَّذي بدا لهما بعدُ حتَّى تخاصما، والمعنى في ذلك أنَّهما طلبا القسمة فيها إذ كان يشقُّ عليهما ألَّا يكون أحدهما ينفرد بما يعمل فيه بما يريده، فطلبا القسمة لذلك فمنعهما عمرُ القَسْم لئلَّا يجري عليهما اسم الملك، لأنَّها إنَّما تقع في الأملاك، وقال لهما: إن عجزتما عنها فردَّاها إليَّ وقد سلف هذا أيضًا.
          فصلٌ: وقول أبي بكرٍ: (لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا عَمِلَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَّا عَمِلْتُهُ) يعني أنَّه كان _مع ما كان يعمل_ يُخبر أنَّه لا يُورث عنه، قاله الدَّاوُديُّ، ومعنى (أَزِيْغَ): أميلَ عن الحقِّ.
          وقوله: (تَعْرُوهُ) أي: تغشاه، وقال البُخَاريُّ عند أبي ذرٍّ: <اعتراكَ افتعلَ مِنْ عَرَوْتُهُ أصبتُه، ومنه يَعْرُوه واعتراني> وقال ابن فارسٍ: عَرَاني هذا الأمر إذا غشِيَك، واعتراه: همَّه.
          فصلٌ: قوله في حديث مالك بن أنسٍ: (فَانْطَلَقْتُ حتَّى أَدْخُلَُ عَلَى مَالِكِ) مَنْ قرأه بضمِّ لام (أَدْخُلُ) كانت (حَتَّى) عاطفةً، فمعنى الكلام: انطلقتُ فدخلتُ المدينة، ومَنْ فتَحها كانت (حَتَّى) بمعنى: كي، ومثله قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة:214] إذا ضممتَ لام {يَقُولُ}، وإذا فتحتَ فـحتَّى بمعنى: إلى أن.
          وقوله: (عَلَى رمَالِ سَرِيرٍ) وفي مسلمٍ: ((مُفضيًا إلى رماله)) بضمِّ الرَّاء وكسرها أيضًا، وهو ما يُمدُّ على وجه السَّرير مِنْ شريطٍ ونحوه، وقال الدَّاوُديُّ: هي السُّدَدُ الَّتي تُعمل مِنَ الجريد.
          وقوله: فقال: (يَا مَالِ) هو مرخَّمٌ يريد: يا مالكُ.
          وقوله: (قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ) قال الدَّاوُديُّ: أي: قومٌ معهم أهلهم، وجاء بدل (قَدِمَ): <دَفَّ> وهو بفتح الدَّال المهملة، وهو المشي بسرعةٍ، كأنَّهم جاؤوا مسرعين للضُّرِّ الَّذي نزل بهم.
          وقوله: / (بِرَضْخٍ) أي: بعطيَّةٍ، وَهي العَطيَّة القليلة غير المقدَّرة.
          وقوله: (لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي) تحرَّج مِنْ قَبول الأمانة.
          وقوله: (اقبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْءُ) هو عزمٌ عليه في قبضه.
          و(يَرْفَا) هو مَولى عمرَ وحاجبه، بفتح أوَّله ومنهم مَنْ همزه، وفي «سنن البَيْهَقيِّ»: اليَرفأ بألفٍ ولامٍ.
          فصلٌ: قال القَاضي عِياضٌ: تأوَّل قومٌ طَلب فاطمة ميراثَها مِنْ أبيها على أنَّها تأوَّلت الحديث إن كان بلغها على الأموال الَّتي لها بالٌ، فهو الَّذي لا يورَث، لا ما يتركون مِنْ طعامٍ وأثاثٍ وسلاحٍ، وهذا التَّأويل يردُّه قوله: (مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ)، وقوله: (مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ). وقيل: إنَّ طلبها لذلك قبل أن يبلغها الحديث، وكانت متمسِّكةً بآية الوصيَّة.
          قلت: وأمَّا ما رُوي مِنْ أنَّ فاطمة طلبت فدَكَ وذكرت أنَّ أباها أقطعها إيَّاها وشهدَ لها عليٌّ بذلك فلم يقبل أبو بكرٍ شهادته لأنَّه زوجُها فلا أصل له، ولا تثبتُ به رواية أنَّها ادَّعت ذلك، وإنَّما هذا أمرٌ مفتعلٌ لا يثبت، وإنَّما طلبته وادَّعته وغيرها أيضًا، قاله القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن حمَّادٍ في كتابه «تركة رسول الله صلعم»، وقال لها أبو بكرٍ: أنت عندي مصدَّقةٌ إن كان رسول الله صلعم عهد إليك في ذلك عهدًا أو وعدك وعدًا صدَّقتُ وسلَّمتُ، قالت: لا لم يكن منه إليَّ في ذلك شيءٌ إلَّا ما أنزل الله مِنَ القرآن، غير أنِّي لمَّا نزَلتْ عليه قال: ((أبشِروا آلَ محمَّدٍ فقد جاءكم الغِنى))، فقال أبو بكرٍ: صدق أبوك وصدقتِ، ولم يبلغني في تأويل هذه الآية أنَّ هذا السَّهم كاملًا لكم، فلكم الغنى الَّذي يسعكُم ويفضل عنكم، وهذا عمرُ وأبو عُبيدة وغيرُهما فاسأليهم، فانطلقتْ إلى عمرَ فسألته، فذكر لها ما ذكر أبو بكرٍ. رواه عن أبيه، حدَّثنا يحيى ابن أَكْثَم حدَّثنا عليُّ بن عيَّاشٍ الأَلْهَانيُّ حدَّثنا أبو معاويةَ صَدَقةُ الدِّمشقيُّ عن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق عن أنسٍ.
          قال ابن العربيِّ: والآية وإن كانت عامَّةً فإنَّما توجب أن يورَث ما يملكه الشَّارع لو سلَّمنا ملكه، فلا دلالة لها فيه لما سلف.
          وروى ابن شاهين في كتاب «الخمُس» عن الشَّعْبيِّ: أنَّ الصِّدِّيق قال لفاطمة: يا بنت رسول الله صلعم ما خيرُ عيش حياةٍ أعيشها وأنت عليَّ ساخطةٌ، فإن كان عندك مِنْ رسول الله صلعم عهدٌ فأنت الصَّادقة المصدَّقة المأمونة على ما قلت، قال: فما قام حتَّى رضِيتْ ورضي.
          قال: وفي حديث أسامة بن زيدٍ اللَّيثيِّ عن الزُّهْريِّ عن عُروة عن عائشة ♦ قالت: قال أبو بكرٍ لفاطمة: بآبائي أنتِ وبآبائي أبوك إنَّه قال صلعم: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) قال: فقالت: إنِّي لست ممَّن ينكر.
          فصلٌ: سبب عدم ميراث الأنبياء لئلَّا يُظنَّ بهم أنَّهم جمعوا المال لورثتهم، كما حرَمهم الله تعالى الصَّدقة الجارية على أيديهم مِنَ الدُّنيا، لئلَّا ينسب إليهم ما تبرَّؤوا به مِنَ الدُّنيا، أو لئلَّا يُخشى على وارثهم أن يتمَّنى لهم الموت، فيقع في محذورٍ عظيمٍ.
          فصلٌ: وأمَّا صدقته بالمدينة فهي أموال بني النَّضيرِ، وكانت قريبةً مِنَ المدينة، وهي ممَّا أفاء الله على رسوله ممَّا لم يوجِف عليه المسلمون بخيلٍ ولا رِكابٍ.
          قال القاضي عِياضٌ: والصَّدقات الَّتي صارت إليه:
          أحدها: مِنْ وصيَّة مُخَيْرِيقٍ يوم أُحدٍ، وكانت سبع حوائطَ في بني النَّضيرِ.
          ثانيها: ما أعطاه الأنصارُ مِنْ أرضهم، وهو ما لا يبلغه الماء، وكان هذا ملكًا له.
          ومنها حقُّه مِنَ الفيء مِنْ أموال بني النَّضيرِ، كانت له خاصَّةً حين أجلاهم، وكذا نصف أرض فَدك، صالح أهلها بعد فتح خَيبرَ على نصف أرضها فكان خالصًا له، وكذا ثلث أرض وادي القرى، أخذه في الصُّلح حين صالح اليهود، وكذا حِصنان مِنْ حصون خَيبرَ: الوَطيح والسُّلَالِمُ أخذهما صلحًا.
          ومنها سهمه مِنْ خُمس خَيبرَ وما افتتح فيها عَنوةً، فكانت هذه كلُّها ملكًا له خاصَّةً لا حقَّ لأحدٍ فيها، فكان يأخذ منها نفقته ونفقة أهله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال صلعم: ((ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملِي فهو صدقةٌ)) وكان ابن عُيَينة يقول: أمَّهات المؤمنين في معنى المعتدَّات، لأنَّهنَّ لا يجوز لهنَّ النِّكاح أبدًا فجرت عليهنَّ النَّفقة، وتُركت حُجَرهنَّ لهنَّ يسكنَّها، وأراد بمؤنة العامل: مَنْ يلي بعده.
          قال أبو داود: وأمَّا اختصام عليٍّ والعبَّاس فيما جُعل إليهما مِنْ صدقته بالمدينة _وهي أموال بني النَّضير_ فكانت في القسمة، وسألا عمر أن يقسمها نصفين بينهما يستبدُّ كلُّ واحدٍ بولايته، فلم يرَ عمر أن يوقع القسمة على الصَّدقة، ولم يطلبا قسمتها ليتملَّكاها وإنَّما طلباها لأنَّه كان يشقُّ على كلِّ واحدٍ منهما ألَّا يعمل عملًا في ذلك المال حتَّى يستأذن صاحبه.
          وعنده أيضًا: ((كانت للنَّبيِّ صلعم ثلاث صفايا: بنو النَّضير وخَيبر وفَدَك، فأمَّا بنو النَّضير فكانت حُبُسًا لنوائبه، وأمَّا فَدك فكانت حُبُسًا لأبناء السَّبيل، وأمَّا خيبرُ فجزَّأها رسول الله صلعم ثلاثة أجزاءٍ: جزأين للمسلمين، وجزءًا نفقةً لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين)).
          فصلٌ: قوله: (هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ...) إلى آخره، أي: هل لك إذنٌ لهم.
          وجاء أنَّ العبَّاس قال: هذا الكاذب، أي: إن لم يُنصف، فحذف الجواب.
          قال المازَريُّ: وهذه اللَّفظة يُنزَّه القائل والمقول فيه عنها، ووهم فيها بعضُ الرُّواة، وقد أزالها بعض النَّاس مِنْ كتابه تورُّعًا، وإن لم يكن الحمل فيها على الرُّواة فأجوَدُ ما يُحمل عليه أنَّ العبَّاس قالها إدْلالًا عليه، لأنَّه بمنزلة والده، ولعلَّه أراد ردع عليٍّ عما يعتقد أنَّه مخطئٌ فيه، وأنَّ هذه الأوصاف يتَّصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن قصدٍ، وإن كان عليٌّ لا يراها موجبةً لذلك في اعتقاده، وهذا كما يقول الشَّافعيُّ: شاربُ النَّبيذ ناقص الدِّين، والحنفيُّ يمنع ذلك، وكلُّ واحدٍ محقٌّ في اعتقاده. ولا بدَّ مِنْ هذا التَّأويل، لأنَّ هذه القضيَّة جرت بحضرة عمر والصَّحابة، ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشدُّدهم في إنكار المنكَر، وما ذاك إلَّا لأنَّهم فهموا بقرينة الحال أنَّه تكلَّم بما لا يعتقده.
          فصلٌ: قال القُرْطُبيُّ: لمَّا ولي عليٌّ لم يغيِّر هذه الصَّدقة عمَّا / كانت في أيَّام الشَّيخين، ثُمَّ كانت بعده بيد حسنٍ ثُمَّ حُسينٍ ثُمَّ عليِّ بن حسين ثُمَّ بيد الحسن بن الحسن ثُمَّ بيد زيد بن حسنٍ، كما ذكره البُخَاريُّ في باب حديث بني النَّضير، ثُمَّ بيد عبد الله بن حسنٍ ثُمَّ وليها بنو العبَّاس على ما ذكره البَرْقانيُّ في «صحيحه»، ولم يُروَ عن أحدٍ مِنْ هؤلاء أنَّه تملَّكها ولا ورثها ولا وُرثت عنه.
          فلو كان ما يقوله الشِّيعة حقًّا لأخذها أو أحدٌ مِنْ أهل بيته لمَّا وَلُوها، وكذا في اعتراف عليٍّ وعمِّه بصحَّة ما ذكره أبو بكرٍ: (إنَّا لَا نُورَثُ) ولا يحلُّ لمؤمنٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أنَّهما أذْعنا تقيَّةً ولا بُقيًا على أنفسهما، لشدَّتهما في دينهما ولِعدل عمرَ، وأيضًا فالمحلُّ محلُّ مناظرةٍ ومباحثةٍ ليس فيه ما يفضي إلى ما يقوله أهل الزَّيغ مِنَ الشِّيعة.
          فصلٌ: قد أسلفنا عن مالكٍ أنَّ مَصْرِف الفيء والخمس واحدٌ، وقال عبد الملك: المال الَّذي آسى اللهُ فيه بين الأغنياء والفقراء مال الفيء، وما ضارعه مِنْ ذلك: أخماس الغنائم وجزية أهل العَنوةِ وأهل الصُّلح وخراج الأرض، وما صُولح عليه أهل الشِّرك في الهدنة، وما أُخذ مِنْ تجَّار الحرب إذا خرجوا لتجاراتهم إلى دار الإسلام، وما أُخذ مِنْ أهل ذمَّتنا إذا اتَّجروا مِنْ بلدٍ إلى بلدٍ، وخمُس الرِّكاز حيثما وُجد، يبدأ عندهم في تفريق ذلك بالفقراء واليتامى والمساكين وابن السَّبيل، ثُمَّ يُساوي بين النَّاس فيما بقي شريفِهم ووضيعهم، ومنه يُرزق والي المسلمين وقاضيهم، ويُعطى غازيهم وتُسدُّ ثغورهم وتُبنى مساجدهم وقناطرهم ويُفكُّ أسيرهم، وما كان مِنْ كافَّة المصالح الَّتي لا تُوضع فيها الصَّدقات فهذا أعمُّ مِنَ المصرف في الصَّدقات، لأنَّه يجري في الأغنياء والفقراء، وفيه ما يكون فيه مصرف الصَّدقات وفيما لا يكون، هذا قول مالكٍ وأصحابه ومَنْ ذهب مذهبهم: أنَّ الخمس والفيء مَصْرِفُهما واحدٌ.
          وذهب الشَّافعيُّ وأبو حَنيفةَ وأصحابهما والأوزاعيُّ وأبو ثَوْرٍ وداود وإسحاق والنَّسَائيُّ، وعامَّة أصحاب الحديث والفقه إلى التَّفريق بين مصرف الفيء والخمس، فقالوا: الخمس موضوعٌ فيما عيَّنه الله مِنَ الأصناف المسمَّين في آية الخمس مِنْ سورة الأنفال لا يتعدَّى بهم إلى غيرهم، ولهم مع ذلك في توخِّيه قسمه عليهم بعد وفاة رسول الله صلعم خلاف، وأمَّا الفَيء: الَّذي يرجع في مصرفه إلى الإمام بحسب المصلحة والاجتهاد.