التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب

          ░20▒ باب: ما يصيب مِنَ الطَّعام في أرض الحرب.
          3153- ذكر فيه حديث حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ ☺ قَالَ: (كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ فَالتَفَتُّ / فَإِذَا النَّبِيُّ صلعم فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ).
          3154- وحديث نافعٍ أنَّ ابن عمر ☻ قال: (كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا العَسَلَ وَالعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ).
          3155- وحديث الشَّيْبانيِّ عن ابن أبي أَوْفَى قال: (أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتِ القُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ الله صلعم: أَنْ أَكْفِئُوا القُدُورَ وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا، قَالَ عَبْدُ الله: فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلعم لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَقَالَ آخَرُونَ حَرَّمَهَا ألبَتَّةَ) وَسَألتُ سَعِيدَ بن جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَرَّمَهَا ألبَتَّةَ.
          الشَّرح: حديث عبد الله بن مُغَفَّلٍ _بضمِّ الميم وفتح الغين والفاء المشدَّدة_ أخرجه أيضًا مسلمٌ ويأتي في المغازي والذَّبائح [خ¦4214] [خ¦5508] وفي روايةٍ لأبي داود الطَّيالِسيِّ في «مسنده»: ((فاستحييت، فقال رسول الله صلعم: هو لك)).
          قال ابن القَطَّان: إسنادها صحيحٌ، وحديث ابن عمر مِنْ أفراده، ولأبي داود وابن حِبَّان في «صحيحه» بلفظ: ((إنَّ جيشًا غنِموا في زمان رسول الله صلعم طعامًا وعسلًا، فلم يُؤخذ منهم الخُمس)).
          وللإسماعيليِّ مِنْ حديث جرير بن حازمٍ عن أَيُّوب عن نافعٍ عن ابن عمرَ قال: ((أصبنا يوم اليرموك طعامًا وأعنابًا فلم تُقسم)) ولأبي نُعَيْمٍ مِنْ حديث يونُس بن محمَّدٍ حدَّثنا حمَّاد بن زيدٍ عن أَيُّوب عن نافعٍ عن ابن عمرَ قال: ((كنَّا نصيب في مغازينا العِنَب والعسل والفواكه)).
          ولأبي داود مِنْ حديث عبد الله بن أبي المُجالِد، عن عبد الله بن أبي أَوفى: ((قال: قلتُ: هل كنتم تخمِّسون _يعني الطَّعام_ في عهد رسول الله صلعم؟ قال: أصبنا طعامًا يوم خَيبرَ، فكان الرَّجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثُمَّ ينصرف)) قال الحاكم: صحيحٌ على شرط البُخَاريِّ، وقال مرَّةً: على شرط الشَّيخين، وللطَّحَاويِّ مِنْ حديث أبي يوسف عن أبي إسحاق الشَّيبانيِّ عن محمَّد بن أبي المُجَالد عن ابن أبي أَوفى قال: ((كنَّا مع رسول الله صلعم بخَيبرَ يأتي أحدُنا إلى الطَّعام مِنَ الغنيمة فيأخذ منه حاجته)).
          قال أبو جعفرٍ: وقد خالف هذا حديثٌ آخر رواه ابن لَهِيعة عن جعفر بن رَبِيعة عن أبي مرزوقٍ عن حَنَشٍ عن رُوَيْفِع بن ثابتٍ يرفعه أنَّه قال يوم خَيبرَ: ((مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابَّةً مِنَ المغنم يركبها حتَّى إذا أعجفها ردَّها إلى المغانم، ومَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبًا مِنَ المغانم حتَّى إذا أخلقه ردَّه في المغانم)).
          وقال أبو يوسف: مَنْ فعل ذلك وهو عنه غنيٌّ يقي بذلك ثوبه أو دابَّته أو بخيانةٍ، وأمَّا المحتاج فلا بأس له أن يأخذ مِنْ ذلك ما احتاج إليه، وقاله أيضًا محمَّدٌ.
          وحديث ابن أبي أوفى يأتي في المغازي [خ¦4220]، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          فصلٌ: (عبد الله بن مُغَفَّلٍ) اختُلف في كنيته على أقوالٍ: أبو سعيدٍ أو أبو زِيادٍ أو أبو عبد الرَّحمن، مات بالبصرة في ولاية عبيد الله بن زيادٍ في آخر خلافة معاويةَ.
          و(حُمَيد بن هلالٍ) الرَّاوي عنه: عَدَويٌّ بصريٌّ، كنيته: أبو نَصرٍ، مات بها في ولاية خالد بن عبد الله.
          و(الشَّيبانيُّ) اسمه: سُليمان بن أبي سليمان فيروزٍ أبو إسحاق الكوفيُّ مولى بني شَيبان بن ثَعلبة، مات سنة تسعٍ وثلاثين ومئةٍ، وقيل: سنة تسعٍ وعشرين ومئةٍ، وقال ابن سعدٍ: لسنتين خلتا مِنْ خلافة أبي جعفرٍ، وقيل: سنة ثمانٍ وثلاثين، وقيل: بعد الأربعين، وهو مِنْ شَيبان الأكبر، وأبو عمرٍو الشَّيبانيُّ مِنْ شيبان الأصغر بن ذُهْل بن ثعلبة بن عُكَابة، واسمه: سعد بن إياس بن عَمرو بن الحارث بن سَدُوس بن شَيبان، ابن عمِّ قَتَادة بن دِعَامة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سَدُوسٍ، سمع برسول الله صلعم، وهو يرعى إبلًا لأهله بكاظمة. قال إسماعيل بن خالدٍ: رأيت أبا عمرٍو الشَّيبانيِّ وقد أتى عليه تسعَ عشرةَ ومئةُ سنةٍ، سمع عليًّا وغيره.
          فصلٌ: جمهور العلماء متَّفقون على أنَّه لا بأس بأكل الطَّعام والعلف في دار الحرب بغير إذن الإمام، والإجماع قائمٌ _كما حكاه القاضي_ على إباحة أكلِ طعام الحربيِّين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر حاجتهم، والجمهور _كما قلناه_ أنَّه لا يحتاج في ذلك إلى إذن الإمام.
          ولا بأس بذبح البقر والغنم قبل أن يقع في المقاسم، هذا قول اللَّيث والأربعة والأوزاعيِّ وإسحاق. قال مالكٌ: ولو أنَّ ذلك لا يُؤكل حتَّى يُقسم بينهم أضرَّ ذلك بهم، قال: وإنَّما يَأكلون ذلك على وجه المعروف والحاجة ولا يَدَّخر أحدٌ منهم شيئًا يَرجع به إلى أهله.
          وقد احتجَّ الفقهاء في هذا بحديث ابن مُغفَّل في قصَّة الجِراب الَّتي ذكرها البُخَاريُّ، وقالوا: ألا ترى أنَّ رسول الله صلعم لم ينكر عليه فعله؟ وفي بعض طرقهِ: ((فالتفتُّ، فإذا رسول الله صلعم تبسَّم إليَّ)). ورواية أبي داود الَّتي أسلفناها: ((هو لك)) أصرحُ مِنْ ذلك.
          وشذَّ الزُّهْريُّ في هذا الباب، فقال: لا يجوز أخذُ الطَّعام في دار الحرب إلَّا بإذن الإمام.
          وأظنُّه رأى أنَّ الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم في ذلك، وهذا لا حجَّة فيه، لأنَّ ما أَذِنُوا فيه مرَّةً عُلمت به الإباحة، لأنَّهم لا يَأذنون في استباحة غير المباح.
          وحديث ابن عمر في الباب هو كالإجماع مِنَ الصَّحابة، وحديث ابن أبي أَوفَى حجَّةٌ فيه أيضًا، فإنَّ العادة كانت عندهم في المغازي إطلاقَ الأيدي في المطاعم، ولولا ذلك ما تقدَّموا إلى شيءٍ إلَّا بأمر الشَّارع.
          وكره جمهور العلماء أن يخرج بشيءٍ مِنَ الطَّعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمةٌ، وكان للنَّاس فيه رغبةٌ، وحكموا له بحكم الغنيمة، فإن أخرجه ردَّه في المقاسم إن أمكنه، وإلَّا باعه وتصدَّق بثمنه.
          قال مالكٌ: وإن كان يسيرًا أكلَه، وقال الأوزاعيُّ: ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضًا.
          قال ابن المُنْذرِ: وليس لأحدٍ أن ينال مِنْ مال العدوِّ أيضًا سوى الطَّعام للأكل والعلف للدَّوابِّ، وكلُّ مختلَفٍ فيه بعد ذلك مِنْ ثمن الطَّعام أو فضلةِ طعامٍ يقدم به إلى أهله أو جرابٍ أو حبلٍ أو غير ذلك مردودٌ إلى قوله ◙: ((أدُّوا الخيط والمَخيط)) وإلى قوله: ((شراكٌ أو شراكان مِنْ نارٍ)).
          وذهب قوم منهم الأوزاعيُّ أنَّه لا بأس أن يأخذ الرَّجلُ السِّلاحَ مِنَ / الغنيمة فيقاتل به في معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينتظر بردِّه الفراغَ مِنَ الحرب، فيعرِّضه للهلاك وانكسار الثَّمن في طول مكثه في دار الحرب، واحتجُّوا بحديث رُوَيفعٍ السَّالف.
          وخالفهم آخرون منهم أبو حَنيفةَ فقالوا: لا بأس أنْ يَأخذ السِّلاحَ مِنَ الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتلَ به حتَّى يفرغ مِنَ الحرب، ثُمَّ يردَّه في المغنم.
          وقال أبو يوسف: سكوت رسول الله صلعم له معنًى لا يفهمُه إلَّا مَنْ أعانه الله عليه وقد أسلفناه عنه، وحديث ابن أبي أوفى يبيِّن أنَّه إذا كان الطَّعام لا بأس بأخذه واستهلاكه لحاجة المسلمين كذلك لا بأس بأخذ الدَّوابِّ والثِّياب واستعمالها للحاجة إليها، حتَّى يكون الَّذي أُريد مِنْ حديث ابن أبي أوفى غيرَ الَّذي أُريد مِنْ حديث رُوَيفعٍ حتَّى لا يتضادَّا، وهذا قول أبي يوسف ومحمَّدٍ، قال الطَّحَاويُّ: وبه نأخذ.
          فرعٌ: يجوز ركوب دوابِّهم ولبس ثيابهم، واستعمال سلاحهم في الحرب بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام خلافًا للأوزاعيِّ.
          فائدةٌ: الجراب: المِزْود ونحوُه، قاله الدَّاوُديُّ، قال القزَّاز: هو _بفتح الجيم_ وعاءٌ مِنْ جلودٍ، وبكسرها جراب الرُّكبة، وهو ما حولها مِنْ أعلاها إلى أسفلِها. وفي «غريب المدوَّنة»: الجَِراب بفتح الجيم وكسرها، وقال صاحب «المنتهى»: الجِراب بالكسر، والعامَّة تفتحه، والجمع أَجْرِبَةٌ وجُرَْبٌ بإسكان الرَّاء وفتحها.
          وقال في «المحكم»: هو الوعاء، وقيل: المِزْوَد، وممَّا نسمعه على الألسنة: لا تَفتح الجِراب، ولا تكسر القَصْعة.
          فائدةٌ: معنى (نَزَوْتُ) وَثَبْتُ، ومعناه أنَّ راميَ الجِرابِ لم يرمِه ليكون له أو رماه لعبد الله بن مغفَّلٍ.
          وقوله: (فَاسْتَحْيَيْتُ) أي: أن يَرى رسولُ الله صلعم منه ذلك.
          فصلٌ: تقدَّم علَّة تحريم الحُمُر في الجهاد في التَّكبير وغيره [خ¦2991]، وقولُ مالكٍ في تحريمها حمله البغادِدة على أنَّه تحريم كراهةٍ، وقيل: حرَّمها خشية أن تَفنى، أو لأنَّها لم تُخمَّس، أو لأنَّها مِنْ حوالي القرية، وأجاز ابن عبَّاسٍ _ونقله السُّهَيليُّ عن عائشة أيضًا وطائفةٍ مِنَ التَّابعين_ أكْلَها محتجًّا بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام:145] وهي مكِّيَّة وحديث النَّهي بخَيْبر.
          وجاء: ((أَكفِئوا القدور)) وفي لفظٍ: ((إنَّها رجسٌ))، وفي كتاب «الأطعمة» لعثمان بن سعيدٍ الدَّارِميِّ بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ، قال: إنَّما نهى عنها، لأنَّها كانت تأكل العَذَر، وعن ابن أبي أَوْفَى: ((لمَّا نادى المنادي ثلاثًا، قلنا: حرَّمها تحريم ماذا؟ فتحدَّثنا بيننا: فقلنا حرَّمها ألبتَّة، أو حرَّمها مِنْ أجل أنَّها لم تُخمَّس)).
          وروى ابن شاهين في «ناسخه» _استدلالًا على نسخ التَّحريم_ بإسنادٍ جيِّدٍ عن البراء بن عازبٍ، قال: ((أمرَنا رسول الله صلعم يوم خَيْبرَ أن نلقي الحُمر الأهليَّة نيِّئةً ونضيجةً، ثُمَّ أمرنا بها بعد ذلك))، وصحَّ عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى قال: إنَّما كُرهت إبقاءً على الظَّهر.
          ولأبي داود مِنْ حديث غالِب بن أَبْجرَ أنَّه قال: يا رسول الله لم يبقَ في مالي شيءٌ أُطْعِمُ أهلي إلَّا حمرٌ لي، فقال: ((أطعم أهلك مِنْ سمينِ مالِكَ)) إسناده متماسكٌ وله متابَعاتٌ، والأحاديث الثَّابتة تردُّه.
          قال الخَطَّابيُّ: حديث غالبٍ مختلَفٌ في إسناده ولا يثبُت، والنَّهي ثابتٌ، وقال عبد الحقِّ: ليس هو بمتَّصل الإسناد، وقال السُّهَيليُّ: ضعيفُه، ولا يعارَض بمثله حديثُ النَّهي.
          فصلٌ: في حديث ابن مغفَّلٍ جوازُ أكل شحوم ذبيحة اليهود المحرَّمة عليهم، وهو مذهب أبي حَنيفةَ والشَّافعيِّ، وقال مالكٌ: هي مكروهةٌ، وقال أشهبُ وابن القاسم وبعض أصحاب أحمد: هي محرَّمةٌ، وحُكي عن مالكٍ أيضًا.
          آخر الخمس.