التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بركة الغازي في ماله حيًا وميتًا مع النبي وولاة الأمر

          ░13▒ باب: بَرَكة الغازي في مالِه حيًّا وميتًا مع النَّبيِّ صلعم وولاة الأمر. /
          3129- ذكر فيه حديث عبد الله بن الزُّبَيرِ قال: ((لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُـَرَى دَيْنَنَا يُبْقِي مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ بِعْ مَالَنَا واقْضِ دَيْنِي، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ يَعْنِي: عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيرِ، يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ، قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ الله قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ.
          قَالَ عَبْدُ الله فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلَايَ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حتَّى قُلْتُ يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلَاكَ؟ قَالَ: اللهُ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلَّا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيرِ؛ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَير ☺ وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وأَحَدَ عَشَرَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ وَدَارًا بِمِصْرَ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجل كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ فَيَقُولُ الزُّبَيرُ: لَا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلعم أَوْ مَعَ أَبِي بكرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ♥.
          قَالَ عَبْدُ الله بن الزُّبَيرِ فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِئَتَيْ أَلْفٍ قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ الله بن الزُّبَيرِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ؟ فَكَتَمَهُ وقال: مِئَةُ أَلْفٍ فَقَالَ: حَكِيمٌ وَالله مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الله: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِئَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي.
          قَالَ: وَكَانَ الزُّبَير اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِئَةِ أَلْفٍ فَبَاعَهَا عَبْدُ الله بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِئَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَير حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فأتى عَبْدُ الله بْنُ جَعْفَرٍ وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَير أَرْبَعُ مِئَةِ أَلْفٍ فَقَالَ لِعَبْدِ الله: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ فقَالَ عَبْدُ الله: لَا، فقال عبد الله: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ فَقَالَ عَبْدُ الله: لَا، قَالَ: فَإنْ شِئْتُم فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُ الله: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ وَأَوْفَاهُ وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بن الزُّبَيرِ وَابْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِئَةَ أَلْفٍ، قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، قَالَ الْمُنْذِرُ بن الزُّبَيرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِئَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِئَةِ أَلْفٍ، قَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِئَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ فَقَالَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ، قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِئَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُ الله بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِئَةِ أَلْفٍ قالَ فَلَمَّا فَرَغَ ابن الزُّبَيرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَير: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَال: فوالله لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَير دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فأصابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِئَتَا أَلْفٍ فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِئَتَا أَلْفٍ)).
          الشَّرح: هذا الحديث مِنْ أفراد البُخَاريِّ، وذكره أصحاب «الأطراف» في مسند الزُّبَير، والأشبه أن يكون مِنْ مسند ابنه، لأنَّ أكثره مِنْ كلامه، ولقوله: (وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ رسول الله صلعم) وهذه اللَّفظة فيها معنى الرَّفع.
          وعند الإسماعيليِّ عن جُوَيريةَ حدَّثنا أبو أسامة حدَّثنا هشامٌ عن أبيه عن عبد الله، والبُخَاريُّ قال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، قلت لأبي أسامة: حدَّثكم هشامٌ عن أبيه عن عبد الله به، وذكر التِّرمِذيُّ محسَّنًا عن عروة قال: ((أوصى الزُّبَير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل فقال: ما منِّي عضوٌ إلَّا وقد جُرح مع رسول الله صلعم حتَّى انتهى إلى فرجِه))، ورواه ابن سعدٍ في «طبقاته» في قتل الزُّبَير ووصيَّته بدَينه وثلث ماله، عن أبي أسامة حمَّاد بن أسامة بنحو حديث البُخَاريِّ وطوَّله، غير أنَّه خالفه في موضعٍ واحدٍ، وهو قوله: ((أصاب كلَّ امرأةٍ مِنْ نسائه، ألفُ ألفٍ ومئة ألفٍ))، لا كما في البُخَاريُّ: ((ومئتا ألفٍ))، وعلى هاتين الرِّوايتين لا تصحُّ قسمة خمسين ألف ألفٍ ومئتا ألفٍ على دينه ووصيَّته وورثته، وإنَّما تصحُّ قسمتها أنْ لو كان لكلِّ امرأةٍ ألف ألفٍ فيكون الثُّمن أربعة آلاف ألفٍ، فتصحُّ قسمة الورثة مِنِ اثنين وثلاثين ألف ألفٍ، ثُمَّ يُضاف إليها الثُّلث ستَّة عشرَ ألف ألفٍ فتصير الجملتان ثمانيةً وأربعين ألف ألفٍ، ثُمَّ يُضاف إليها الدَّين ألف ألفٍ.
          وروى ابن سعدٍ عن القّعْنَبيِّ عن ابن عُيَينة قال: قُسم ميراث الزُّبَير على أربعين ألف ألفٍ، وذكر الزُّبَير بن بَكَّارٍ في بني عَديٍّ عاتكةَ بنتَ زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ زوج الزُّبَير، وأنَّ عبد الله بن الزُّبَيرِ أرسل إليها بثمانين ألف درهمٍ، فقبضتها وصالحت عليها، قال الدِّمْياطيُّ: وبين قول الزُّبَير بن بَكَّارٍ هذا وقول غيره بونٌ بعيدٌ، والعجب مِنَ الزُّبَير مع تتبُّعه هذا العلم وتنقيره عنه، كيف خفي عليه توريث آبائه وأحوال تركاتهم.
          وقال ابن بَطَّالٍ أيضًا: قوله (فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَمِئَتَا أَلْفٍ) غلطٌ في الحساب، والصَّحيح: فجميع ماله سبعةٌ وخمسون ألف ألفٍ، وتسع مئة ألفٍ، وكذا قال ابن التِّيْنِ: هذا حسابٌ فيه غلطٌ، والصَّحيح أنَّه إذا خرج الثُّلث للوصيَّة، فأصابت كلُّ امرأةٍ ألفَ ألفٍ ومئتي ألفٍ فيكون جميع المال على الحقيقة سبعةً وخمسين ألف ألفٍ وستَّ مئة ألفٍ فأسقط مِنَ المال البُخَاريُّ سبعة آلاف ألفٍ وأربع مئة ألفٍ، وقال ابن المنيَّر: وَهِمَا جميعًا، ولم يبيِّن صوابه.
          فائدةٌ أخرى: / ذكر الزُّبَير أيضًا أنَّ الزُّبَير قُتل وهو ابن سبعٍ أو ستٍّ وستِّين وأنَّه كان أبيض أشعر الكَتفين، خفيف العارضين طويلًا تخطُّ رجلاه الأرض إذا ركب الدَّابَّة، وذكر أيضًا بسنده قال: كان للزُّبَير ألف مملوكٍ يؤدِّي الضَّريبة، لا يُدخِل بيتَ ماله منها درهمًا، يقولُ يتصدَّق بها، وقال أيضًا: باع الزُّبَير دارًا له بستٍّ مئة ألفٍ فجعلها في سبيل الله، وكانت الصَّحابة يوصون إليه فأوصى إليه عثمانُ بصدقته حتَّى تُدرك عمرو بن عثمان، وأوصى إليه عبد الرَّحمن بن عَوفٍ، ومُطِيع بن الأسود، والمِقْداد بن عمرٍو، وعبد الله بن الزُّبَيرِ، وأوصى إليه أبو العاصي بن الرَّبيع بابنته أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلعم فزوَّجها الزُّبَير عليَّ بن أبي طالبٍ، وقال له ابن مسعودٍ: أنت مِنْ وصيَّتي في حِلٍّ وبِلٍّ، في أَدِيمٍ طائفيٍّ، ولم يهاجر أحدٌ معه أمُّه إلَّا الزُّبَير بن العوام، ونزلت الملائكة يوم بدرٍ على سِيما الزُّبَير طيرًا بِيضًا، عليهم عمائمُ صفرٌ، وكان على الزُّبَير يومئذٍ عِمامةٌ صفراءُ.
          فصلٌ: (فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ) يعني: ثلث ذلك الفضل الَّذي أوصى به للمساكين مِنَ الثُّلث لبنيه، قاله ابن بَطَّالٍ.
          وقوله: (فَثَلِّثْهُ لِوَلَدِكَ) هو بالتَّشديد لتصحَّ إضافته إلى ولده، أي: ليكون التَّثليث وُصْلةً إلى إيصال ثلث الثلث إليهم، حكاه الدِّمْياطيُّ عن بعض العلماء، ثُمَّ قال: وفيه نظرٌ.
          وقال المهلَّب: قوله (ثُلُثُه لبَنِيهِ) يعني: ثلث الثُّلث الموصى به لحفدته، وهم بنو ابنه عبد الله.
          فصلٌ: كان يوم الجمل عام ستَّةٍ وثلاثين، وقُتل عثمانُ سنة خمسٍ وثلاثين فبُويع لعليٍّ، وكان أوَّلَ مَنْ بايعه طلحةُ، فلما أحسَّ بإصبع طلحةَ الخِنصر الَّذي قُطع يوم أُحدٍ قال: هذا الأمر لا يتمُّ، ثُمَّ بايعه الزُّبَير والنَّاس، فاستأذنه طلحة والزُّبَير في الخروج إلى مكَّة في عُمرةٍ، وكان موت عثمانَ في ذي الحِجَّة بعد الأضحى فـأذن لهما، ثُمَّ أتاه مروان فاستأذنه فأذن له، وقال: الله أعلمُ بما يريدون، فكانت عائشة بمكَّة، فأتياها وقالا: إنَّا أُكرهنا على البيعة، وأَكرهَنا مالكٌ الأشتَرُ النَّخَعيُّ، وسألاها الخروج إلى العراق ليُستعان بها أن يعود الأمر شورى، فلم يزالا بها، ولم يزل بها ابن الزُّبَيرِ عبد الله حتَّى خرجت معهم، فلمَّا سمع ذلك عليٌّ خشي أن يأتيه أهل العراق فيُصنع به كما صُنع بعثمانَ، فقصد القومُ إلى البصرة، وقصد عليٌّ الكوفة، فراسلهم ثُمَّ كان حرب يوم الجمل، فرُمي طلحة بسهمٍ مِنْ ورائه مِنْ أهل عَسكره، وانصرف الزُّبَير قبل أن يبرد القتال نادمًا على ما وقع منه، وقال: كنت لا أدري معنى قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] حتَّى وقعتُ فيها، فأنزله عَمروُ بن جُرْمُوزٍ التَّيْميُّ السَّعْديُّ وذبح له شاةً، فلما نام الزُّبَير وثب عليه ابن جُرموزٍ فقتله واحتزَّ رأسه وذهب إلى عليٍّ، فقيل لعليٍّ: هذا ابن جُرْمُوزٍ أتاك برأس الزُّبَير، فقال: بشِّروا قاتل الزُّبَير بالنَّار، وفي روايةٍ: بشِّروا قاتل ابنِ صفيَّة بالنَّار، وذكر ذلك عن رسول الله صلعم فرمى عَمرٌو بالرَّأس وهرب، وفيه تقول عاتكةُ بنتُ زَيد بن عَمرو بن نُفَيل وكان الزُّبَير خلف عليها بعد عُمر:
غَدرَ اِبنُ جُرْمُوزٍ بِفَارِسِ بُهْمَةٍ                     يومَ اللِّقاءِ وَكَانَ غَيْرَ مُعَرِّدِ
يا عَمْرُو لَوْ نَبَّهْتَهُ لَوَجَدْتَهُ                     لا طائِشًا رَعْشَ الجَنَانِ ولا اليَدِ
كَمْ غَمْرَةٍ قَدْ خَاضَهَا لَمْ يَثْنِهِ                     عَنْهَا طِرادُكَ يا ابْنَ فَقْعِ القَرْدَدِ
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِمِثْلِهِ                     فيمَا مَضَى فيمَنْ يَرُوحُ وَيَغْتَدي
واللهِ رَبِّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا                     حَلَّتْ عَلَيكَ عُقُوبَةُ المُتَعَمِّدِ
          وكانت عائشة ♦ على جملٍ يُسمَّى عسكر، كان ليَعْلَى بنِ مُنْيَةَ أعطاها إياه، وكان اشتراه بمئتي دينارٍ فقامت عليه، وقصد أصحاب عليٍّ الجمل الَّذي هي عليه، فكان كلُّ مَنْ أخذ بزمامه قُتل، ثُمَّ أخذه عبد الله بن الزُّبَيرِ فقالت: مَنْ هذا؟ قال: عبد الله، قالت: وا ثُكْلَ أسماءَ، فقاتله مالك بن عبد الله الأشتر النَّخَعيُّ فتجالد مع ابن الزُّبَيرِ حتَّى انقطعت أسيافهما وتعانقا، فجعل عبد الله يقول: اقتلوني ومالكًا، وجعل مالكٌ يقول: اقتلوني وعبدَ الله، ولم يُقدَّر لمالكٍ أن يقول: اقتلوني وابن الزُّبَيرِ، ولا لابن الزُّبَيرِ أن يقول: والأشترَ، ولو قال أحدهما لهجم عليهما الفريقان حتَّى يُقتلا؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما أمسك القتال على حزبه فأُثخِنا جراحًا وعُرقِب الجمل، وبادر محمَّد بن أبي بكرٍ فأنزل أخته وكان مع عليٍّ لأنَّه ربيبه، فجهَّزها عليٌّ باثني عشرَ ألف درهمٍ وصرفها إلى المدينة، وكان عبد الله بن جعفرٍ ولي اشتراء جهازها، فاشترى لها بثلاث مئة ألف درهمٍ، فقال له عليٌّ: خذْ لها مِنْ بيت المال اثني عشر ألفًا، ولولا أنَّ عمر أعطاها إيَّاها ما أعطيتها إيَّاها، واحمل أنت ما بقي، فانقضى أمر الجمل، وعاد الأمر بين عليٍّ ومعاويةَ، ثُمَّ خرجت الخوارج على عليٍّ، فقتلهم يوم النَّهْرَوان، ثُمَّ طرقه عبد الرَّحمن بن مُلْجِمٍ، فقتله.
          فصلٌ: أنكر قومٌ وقعة الجمل، قال القاضي عِياضٌ في «الشِّفا»: فأمَّا مَنْ أنكر ما عُرف بالتَّواتر مِنَ الأخبار والسِّيَر والبلادِ الَّتي لا يرجع إلى إبطال شريعةٍ، ولا يفضي إلى إنكار قاعدةٍ مِنَ الدِّين، كإنكار غزوة تبوكَ أو مؤتةَ، أو وجود أبي بكرٍ وعمر أو قتل عثمان وخلافة عليٍّ، ممَّا عُلم بالنَّقل ضرورةً، وليس في إنكاره جحدُ شريعةٍ، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك وإنكار وقوع العلمِ به، إذ ليس في ذلك أكثر مِنَ المباهتة كإنكار هِشامٍ وعبَّاد وقعة الجمل، ومحاربة عليٍّ مَنْ خالفه، فأمَّا إن ضعَّف ذلك مِنْ أجل تهمة النَّاقلين ووهَّمَ المسلمين أجمعَ فنكفِّره بذلك لسريانه إلى إبطال الشَّريعة.
          قلت: وممَّن أنكرها بعد هذين ابن حَزْمٍ، ولعلَّه نزع بذلك إلى براءة عائشة.
          فصلٌ: قوله: (لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ) معناه والله أعلم: أنَّ الصَّحابة في قتال بعضهم بعضًا كلٌّ له وجهٌ مِنَ الصَّواب يُعذر به عند الله، فلا يسوغ أن يُطلق على أحدٍ منهم أنَّه قصد الخطأ وقاتل على غير تأويلٍ سائغٍ، هذا مذهب جماعة أهل السُّنَّة، وكلُّ واحدٍ منهم مجتهدٌ محقٌّ عند نفسه، فالقاتل منهم والمقتول في الجنَّة إن شاء الله، والله يوسع الكلَّ منهم رحمته كما سبقت لهم الحسنى، ذكره ابن بَطَّالٍ.
          ومعنى قوله: (إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ) ظالمٌ في تأويله عند خصمه أو مخالفه، ومظلومٌ عند نفسه، وإنَّما أراد الزُّبَير أن يبيِّن بقوله هذا أنَّ تقاتل الصَّحابة ليس كتقاتل أهل البغي والعصبيَّة، الَّذي القاتل والمقتول منهم ظالمٌ، لقوله ◙: ((إذا التقى المُسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتولُ في النَّار)) / لأنَّه لا تأويل لواحدٍ منهم يُعذر به عند ربِّه، ولا شُبهة له مِنَ الحقِّ يتعلَّق بها، فليس منهم أحدٌ مظلومًا، بل كلُّهم ظالمٌ.
          وكان الزُّبَيرُ وطلحةُ وجماعةٌ مِنْ كبار الصَّحابة خرجوا مع عائشة _كما أسلفنا_ لطلب قَتَلة عثمانَ، وإقامة الحدِّ عليهم، ولم يخرجوا لقتال عليٍّ، لأنَّه لا خلاف بين الأمَّة أنَّ عليًّا أحقُّ بالإمامة مِنْ جميع أهل زمانه، وكان قَتَلة عثمانَ لجؤوا إلى عليٍّ، فرأى عليٌّ أنَّه لا ينبغي إسلامهم للقتل على هذا الوجه، حتَّى يسكن حالُ الأمَّة، وتجري المطالب على وجوهها بالبيِّنات وطرق الأحكام، إذ عُلم أنَّه أحقُّ بالإمامة مِنْ جميع الأمَّة، ورجاء أن ينفذ الأمر على ما أوجب الله عليه، فهذا وجهُ منعِ عليٍّ المطلوبين بدم عثمانَ، فكان مِنْ قدر الله تعالى ما جرى به القلم مِنْ تَقاتُلهم، فلذلك قال الزُّبَير لابنه ما قال، لمَّا رأى مِنْ شدَّة الأمر، فإنَّ الجماعة لا تنفصل إلَّا عن تقاتُلٍ.
          وقال: (لَا أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ مَظْلُومًا) لأنَّه لم يبنِ على قتالٍ ولا عزم عليه، ولمَّا التقى الزَّحفان فرَّ فاتَّبعه ابن جُرْمُوزٍ فقتله في طريقه، كذا قال ابن بَطَّالٍ، وقد أسلفنا خلافَه وأنَّه ضيَّفه فلمَّا نام قتله، وقد يمكن الزُّبَيرَ أن يكون سمع قول رسول الله صلعم: ((بشِّر قاتلَ ابن صفيَّة بالنَّار))، فلذلك قال: لا أُراني إلَّا سأُقتل اليوم مظلومًا.
          وقال ابن التِّيْنِ: يريد بذلك إمَّا متأوِّلٌ أراد بفعله وجه الله ولم يبعد في تأويله، وإمَّا رجلٌ مِنْ غير الصَّحابة أراد الدُّنيا وقاتل عليها فهو الظَّالم.
          فصلٌ: (وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي) أي: لم يبق عليَّ تِباعةٌ سواه.
          وقوله: (أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا) قاله استكثارًا لما عليه، وإشفاقًا مِنْ دَينه.
          وفيه الوصيَّة عند الحرب لأنَّه سببٌ مخوفٌ كركوب البحر، واختُلف لو تصدَّق حينئذٍ وحَرَّر هل يكون ثلثهما أو مِنْ رأس مالهما، وفيه الوصيَّة لبعض البنين.
          وقوله: (وَقَدْ وَازَى بَعْضُ بَنِي الزُّبَير) أي: حاذاهم في السِّنِّ، قاله ابن التِّيْنِ. وقال ابن بَطَّالٍ: يجوز أن يكون وازاهم في السِّنِّ، ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله في أنصبائهم فيه أولادَ الزُّبَير فيما حصل لهم مِنْ ميراث الزُّبَير أبيهم، قال: وهذا الوجه أولى، وإلَّا لم يكن لذِكر كثرة أولاد الزُّبَير معنًى للموازاة في السِّنِّ.
          وفيه دليلٌ على دفع تأويل الشِّيعة على عائشة ومَنْ تابعها في دعوى ظُلمها، لأنَّ الله تعالى لا يكون وليًّا للظَّالم.
          و(خُبَيبٌ) كان أبوه عبدُ الله يُكنى به ويُكنى أبا بكرٍ وأبا عبد الرَّحمن، وأمر الوليدُ بعضَ عمَّاله فضرب خُبَيبًا بالسَّوط حتَّى مات.
          فصلٌ: وأمَّا قول الزُّبَير للَّذين كانوا يستودعونه: (لا، ولكنَّه سَلَفٌ) إنَّما فعل ذلك خشية الضَّيعة كما هو مصرَّحٌ به فيه فيُظنُّ به ظنَّ سوءٍ فيه، أو تقصير في حفظه، فرأى أنَّ هذا أتقى لمروءته وأوثق لأصحاب الأموال، لأنَّه كان صاحب ذمَّةٍ وافرةٍ وعقاراتٍ كثيرةٍ، فرأى أن يجعل أموال النَّاس مضمونةً عليه ولا يبقيَها تحت شيءٍ مِنْ جواز التَّلف، ولتطييب نفس صاحب الوديعة على ذمَّته، وتطيب نفسه هو على ربح هذا المال.
          وقوله: (وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلَا جِبَايَةَ خَرَاجٍ) أي: فيكثرَ مالُه مِنْ هذا الوجه فيكونَ عليه فيه ظنُّ سوءٍ أو مَغْمَزٌ، كظنِّ عمر والمسلمين بالعمَّال حتَّى قاسمهم، بل كان كسبُه مِنَ الجهاد وسُهمانه مع رسول الله صلعم وخليفته بعده، فبارك الله له في ماله لطيب أصله ورَبح أرباحًا بلغت ألوف الألوف، وقول عبد الله: (قلت: مَنْ مولاك؟) لأنَّ المولى ينطلق على معانٍ منها: النَّاصر والوليُّ، فظنَّ أن يريد أحدًا مِنَ النَّاس.
          وقوله: (لَمْ يَدَعْ إلَّا ربَاعًا) كان الزُّبَير أخذ أَرَضين في سهمه حين الفتح، وأقطعه الشَّارع أرضًا مِنْ بني النَّضير، وأقطعه الصِّدِّيق أَرَضين، واشترى دورًا بالمدينة، واختطَّ بالبصرة والكوفة ومصر حين مُصِّرت، ففي هذا اتِّخاذ الرَّبع، وفيه الابتياع للرِّباع إلَّا عند الضَّرورات، لقلَّة ما يدخل فيها مِنْ فساد المطعم، ولأنَّها تُظْفِر كاسبها وتغنيه عن معاناة التُّجار الَّتي لا تَكاد تسلم مِنَ الأيمان الكاذبة وقول الزُّور.
          فصلٌ: قوله: (فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ) هو بفتح السِّين مِنْ حَسَبْتُ الشَّيء أَحْسُبُهُ حِسَابًا وحُسْبَانًا.
          وحسِبتُ بمعنى ظننتُ مكسورة العين، والمصدر الحِسبان بكسر الحاء.
          وقول عبد الله لحَكِيم بن حِزَامٍ: (إِنَّ دَيْنَ أَبِيْ مِئَةُ أَلْفٍ) وكتمه ألفي ألفٍ ومئتي ألفٍ، فهذا ليس بكذبٍ، لأنَّه صدق في البعض وكتم بعضًا، وللإنسان إذا سُئل عن خبرٍ أن يخبر منه بما شاء، وله ألَّا يخبر بشيءٍ منه أصلًا، وإنَّما كتمه لئلَّا يَستعظم حَكيمٌ ما استدانه الزُّبَير فيظنَّ بالزُّبَير سوء ظنٍّ وقلَّة حزمٍ، ويظنَّ بعبد الله فاقةً إلى معونته فينظر منه بعين الاحتياج إليه، ففيه بعض التَّجاوز في القول.
          وفي قول حَكيمٍ ما كانت قريشٌ عليه مِنَ الجود والكرم والمواساة، وفيه تنزُّه عبد الله وتركُه قبول المعونة.
          وفي قول عبد الله بن جعفرٍ ما كان عليه مِنَ الكرم، حتَّى إنَّه كان ينسب إلى الإتلاف والتَّبذير، كان يهب الكثير حتَّى يَنْفَدَ ما عنده، فربَّما دخل منزله بعض أصحابه فلا يجد ما يُطعمِهم فيعمد إلى عَكَّةٍ كان فيها عسلٌ فيقطعها ويعطيهم جلدها فيلعقون ما فيه، وقال له الحسن والحسين: لو اقتصرت عن إتلافك، فقال: إنَّ الله عوَّدني أن يعطيني فأُعطي، وأخشى إن قطعت أن يقطع عطائي.
          وفيه أنَّ الدَّين إنَّما يُكره لِمَنْ لا وفاء له أو لِمَنْ يَصرف ما يدين في غير وجهه.
          وفيه استشراء المنذر مِنْ تركة أبيه.
          وفيه تأخير قَسم مال الميِّت حتَّى يؤذنوا أهل دَينه، وفيه التَّربُّص بالدَّين حتَّى تُباع الرِّباع، وفيه النِّداء في ديون مَنْ يُعرف بالدَّين، وفيه النِّداء في الموسم لاجتماع النَّاس فيه، ولكثرة دَينِ الزُّبَير، لقوله: (لَا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حتَّى أُنَادِيَ أَرْبَعَ سِنِينَ)، وفيه طاعة بني الزُّبَير أخاهم في تأخير الدَّين.
          وفيه ما كان عليه الصَّحابة مِنِ اتِّخاذ النِّساء.
          وفيه أنَّ الوصيَّ له أن يمتنع مِنْ قسمة مال الميِّت الموصي حتَّى تُسدَّ ديونه ووصاياه إذا كان الثُّلث يحملها، ولا يقسم ورثة الموصي مالًا حتَّى يُؤدَّى دَينه وتُستبرأ أمانتُه، وفيه جواز الوصيَّة للحفدة إذا كان لهم آباءٌ في الحياة يحجبونهم.
          وفيه أنَّ أجل المفقود والغائب أربع سنين كما قال مالكٌ.
          وفيه أنَّ مَنْ وهب هبةً ولم يقبلها الموهوب له، أنَّها ردٌّ على واهبها ولواهبها الاستمتاع، لأنَّ ابن جعفرٍ قال: (إِنْ شِئْتُم تَرَكْتُهَا لَكُمْ) ولا يلزمه قوله ◙: / ((العائد في هبته)) لأنَّه ليس بعَودٍ، وإنَّما يعود فيها إذا قُبلت منه.
          وفيه أنَّ سيِّد القوم قد يكون قوله وقبوله جائزًا على مَنْ إليه اتِّباع قومه، كما أنَّ عبد الله لم يقبل الهدية وقد كان يجب أن يعرف ما عند ورثة أبيه كلِّهم، فكان قوله في الرَّدِّ جائزًا على ورثة أبيه، كما كان قول الغرماء عند سبي هَوازن في هبة أنصبائهم في السَّبي جائزًا على مَنْ تبعهم، وليس هذا مِنَ الأمر المحكوم به عند التَّشاحِّ، لكنَّه محكومٌ به في شرف النُّفوس ومحاسن الأخلاق ولاسيِّما في ذلك الزَّمان المتقدِّم.
          فصلٌ: وجه مطابقة التَّرجمة للحديث أنَّ الزُّبَير ما وُسِّع عليه بولايةٍ ولا جبايةٍ، بل ببركة غزوه مع رسول الله صلعم، فبُورك له في سهامه مِنَ الغنائم لطيب أصلها وسَداد معاملته فيها كما سلف، ونبَّه عليه ابن المنيِّر أيضًا.