التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كيف قسم النبي قريظة والنضير؟وما أعطى من ذلك في نوائبه

          ░12▒ بَاب: كَيْفَ قَسَمَ النَّبِيُّ صلعم قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِي نَوَائِبِهِ.
          3128- ذكر فيه حديث أنسٍ ☺: (كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلعم النَّخَلَاتِ حتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا، وذَكره البُخَاريُّ في غزوة الأحزاب بزيادة: ((وإنَّ أهلي أمروني أن آتي النَّبيَّ صلعم فأسأله الَّذي كانوا أعطَوه أو بعضَه، وكان النَّبيُّ صلعم أعطاه أمَّ أيمن، فجعلت الثَّوب في عنقي، فتقول: كلَّا والله الَّذي لا إله إلَّا هو لا يُعطيكم والنَّبيُّ صلعم يقول: لك كذا، وتقول: كلَّا، أعطاها حسبت أنَّه قال عشَرة أمثالها أو كما قال)).
          ومعنى (كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلعم النَّخَلَاتِ) يريد _والله أعلم_ أنَّ الأنصار كان الرَّجل منهم يعطي رسول الله صلعم النَّخلة، والرَّجلُ النَّخلتين، والرَّجل الثَّلاث، كلُّ واحدٍ على قدر جِدَتِه وطيب نفسه، مواساةً لرسول الله صلعم ومشاركةً له لقوته، وهذا مِنْ باب الهديَّة لا مِنْ باب الصَّدقة، لأنَّها محرَّمةٌ عليهم.
          وأمَّا سائر المهاجرين فكانوا قد نزل كلُّ واحدٍ منهم على رجلٍ مِنَ الأنصار فواساه وقاسمه، فكانوا كذلك إلى أنْ فتح الله الفتوح على رسوله، فردَّ عليهم ثمارهم، فأوَّلُ ذلك النَّضير كانت ممَّا أفاء الله عليه ممَّا لم يوجَف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، وانجلى عنها أهلها بالرُّعب، فكانت خالصةً لرسول الله صلعم دون سائر النَّاس، وأنزل الله فيهم: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر:7] فحبَّس منها رسول الله صلعم لنوائبه وما يغزوه، وقَسم أكثرَها في المهاجرين خاصَّةً دون الأنصار، وذلك أنَّ رسول الله صلعم قال للأنصار: ((إن شئتم قسمتُ أموال بني النَّضير بينكم وبينهم وأقمتم على مواساتهم في ثماركم، وإن شئتم أعطيتُها المهاجرين دونكم وقطعتم عنهم ما كنتم تُعطونهم مِنْ ثماركم)) قالوا: بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم، فأعطى رسول الله صلعم المهاجرين دونهم، فاستغنى القوم جميعًا، استغنى المهاجرون بما أخذوا واستغنى الأنصار بما رجَع إليهم مِنْ ثمارهم.
          وكانت أمُّ أنسٍ ((أعطتْ رسول الله صلعم عِذاقًا))، وفي مسلمٍ: ((نخلة))، فتصرَّف في ثمارها بنفسه وعياله وضيفه، فلهذا آثر بها أمَّ أيمن، ولو كانت إباحةً لما أباحها لغيره، لأنَّ المباح له بنفسه لا يُباح له أن يُبيح ذلك الشَّيءَ لغيره، بخلاف الموهوبِ له نفسُ رقبة الشَّيء فإنَّه يتصرَّف فيه كيف شاء، وامتنعت أمُّ أيمن مِنْ ردِّ المنيحة، لأنَّها ظنَّت أنَّها كانت هبةً وتمليكًا لأصل الرَّقبة، فأراد صلعم استطابة قلبها بالزِّيادة، تبرُّعًا منه وإكرامًا لها لِما لها مِنْ حقِّ الحضانة.
          وأمَّا قُريظة فإنَّها نقضتِ العهد بينها وبين رسول الله وتحزَّبت مع الأحزاب، وكانوا كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب:10] قُريظة، ولم يكن بينهم وبين رسول الله صلعم خندقٌ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10] الأحزاب، فأرسل اللهُ نصرَه وأرسل الرِّيح على الأحزاب فلم تدعْ بناءً إلَّا قلعتْه ولا إناءً إلَّا قلبته، فانصرفوا خائبين، كما قال تعالى: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} الآية [الأحزاب:25].
          فلمَّا انصرف رسول الله صلعم مِنَ الأحزاب سار إلى قُريظة، فحاصرهم حتَّى نزلوا على حكم سعد بن مُعاذٍ، فحكم بأنْ تُقتل المقاتِلة وتُسبى الذُّرِّيَّة، فقسمها الشَّارع في أصحابه وأعطى مِنْ نصيبه في نوائبه، وزعموا _كما قال إسماعيل بن إسحاق_ أنَّ هذه الغنيمة أوَّل غنيمةٍ قُسمت على السِّهام، وجُعل للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهمٍ وللرَّجل سهمٌ.