التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نفقة نساء النبي بعد وفاته

          ░3▒ باب: نفقة نساء النَّبيِّ صلعم بعد وفاته.
          3096- ذكر فيه حديث أبي هريرة ☺ أنَّ رسول الله صلعم قال: (لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَؤُونَةِ / عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ).
          3097- وحديث عائشةَ ♦: (تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلعم وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ).
          3098- وحديث عمرو بن الحارث ☺: (مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلعم إِلَّا سِلَاحَهُ وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً).
          الشَّرح: الحديث الأوَّل سلف سندًا ومتنًا [خ¦2776].
          والثَّاني: يأتي في الرَّقائق [خ¦6451]، وأخرجه آخرَ كتابه.
          والحديث الثَّالث سلف في الجهاد [خ¦2739].
          ووقع للقابِسيِّ: حدَّثنا يحيى عن سفيان به، وصوابه حدَّثنا مسدَّدُ حدَّثنا يحيى به، كما نبَّه عليه الجَيَّانيُّ.
          ووجه مطابقة الثَّاني للتَّرجمة لأنَّها لم تذكر أنَّها أخذته في نصيبها، إذ لو لم تكن لها النَّفقة مستحقَّةً لكان الشَّعير الموجود لبيت المال، أو كان مقسومًا بين الورثة وهي إحداهنَّ.
          وأراد في حديث عمرٍو بالأرض: الَّتي يُنفَق منها على نسائه بعد وفاته فطابق التَّرجمة، واختُلف في مؤونة العامل فقيل: حافر قبرِه ومتولِّي دفنِه، وقيل: الخليفة بعده، وقيل: عمَّال حوائطه.
          وقولها: (يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ) تريد إنسانًا أو بهيمةً. و(الرَّفُّ) كالغرفة الصَّغيرة في البيت إلَّا أنَّه ليس عليه بابٌ.
          و(شَطْرُ شَعِيرٍ) نصفُ وسْقٍ، وشطرُ كلُّ شيءٍ نصفه، قاله ابن التِّيْنِ. وقال التِّرمِذيُّ: الشَّطر الشَّيء، وقال عِياضٌ: نصف وسْقٍ، وقال ابن الجوزيِّ: أي جزءٌ مِنْ شعيرٍ، قال: ويشبه أن يكون نصف شيءٍ كالصَّاع ونحوه.
          وقولها: (فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ) قال الدَّاوُديُّ: بُورك لها فيه حتَّى شعرت فأصابته بالعين. وفيه أنَّ البركة مع جهل المأخوذ منه، أو أنَّها أكثرُ ما تكون في المجهولات والمبهمات، ولا يُبالى أن يكون المأخوذ منه مكيالًا، وإنَّما لا يُكتال المأخوذ لأنَّه مِنْ باب الإحصاء مِنْ قوله: ((لا تحصي فيُحصى عليك)).
          وأمَّا حديث المقدام بن مَعدِي كَرِب: ((كيلوا طعامَكم يُباركْ لكم فيه)) ففيه جوابان:
          أحدهما: أنَّ المراد بكيله أوَّل تملُّكه إيَّاه.
          ثانيهما: عند إخراج النَّفقة منه بشرط أن يبقى الباقي مجهولًا، ويكيل ما يخرجه لئلَّا يخرج أكثر مِنَ الحاجة أو أقلَّ.
          قال ابن بَطَّالٍ: كان الشَّعير الَّذي عند عائشة غير مكيلٍ، فكانت البركة فيه مِنْ أجل جهلها بكيله. وكانت تظنُّ في كلِّ يومٍ أنَّه سيفنى لقلَّته، كانت تتوهَّمُها فيه، فلذلك طال عليها، فلما كالته علمت مدَّة بقائه ففني عند تمام ذلك الأمر.
          فصلٌ: معنى: (لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا) ليس بمعنى النَّهي كما قال الطَّبَريُّ، لأنَّه لم يترك دينارًا ولا درهمًا يُقسم، لأنَّه مات ودرعُه مرهونةٌ بوسْقٍ مِنْ شَعير، ولا يجوز النَّهي عما لا سبيل إلى فعله، وإنَّما يُنهى المرء عما يمكن وقوعه منه.
          ومعنى الخبر أنَّه ليس يقسم ورثتي دينارًا لأنِّي لم أخلِّفهما بعدي، وقال غيره: إنَّما استثنى صلعم نفقة نسائه بعد موته لأنَّهنَّ محبوساتٌ عليه، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} الآية [الأحزاب:53].
          قال المهلَّب: ومِنْ أجل ظاهر حديث أبي هريرة _والله أعلم_ طلبتْ فاطمةُ ميراثها في الأصول، لأنَّها وجَّهت قوله: (لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا) إلى الدَّنانير ونحوها خاصَّةً لا إلى الطَّعام والأثاث والعُروض، وما تجري فيه المؤنة والنَّفقة.
          وفيه مِنَ الفقه أنَّ الحبس لا يكون بمعنى الوقف حتَّى يُقال فيه: صدقةٌ.
          فصلٌ: جزم ابن بَطَّالٍ بأنَّ المراد بالعامل عاملُ نخله فيما خصَّه الله به مِنَ الفيء في فَدَك وبني النَّضير وسهمه بخَيبرَ، ممَّا لم يوجَف عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، فكان له مِنْ ذلك نفقتُه ونفقة أهله، ويُجعل سائره في نفع المسلمين، وجرت النَّفقة بعده مِنْ ذلك على أزواجه، وعلى عمَّال الحوائط إلى أيَّام عمرَ، فخيَّر عمرُ أزواجه بين أن يتمادين على ذلك أو يقطع لهنَّ قطائع، فاختارت عائشة وحفصة الثَّاني، فقطع لهما بالغابة وأخرجهما عن حصَّتهما مِنْ ثمرة تلك الحيطان، فملكتا ما أقطعهما عمر مِنْ ذلك إلى أن ماتتا، ووُرثت عنهما.
          فصلٌ: وفيه مِنَ الفقه _كما قال الطَّبَريُّ_ أنَّ مَنْ كان مشتغلًا مِنَ الأعمال بما فيه لله بِرٌّ، وللعبد عليه مِنَ الله أجرٌ أنَّه يجوز أخذُ الرِّزق على اشتغاله به إذا كان في قيامه به سقوط مُؤنةٍ عن جماعةٍ مِنَ المسلمين أو عن كافَّتهم، وفساد قول مَنْ حَرَم القُسَّام أخذ الأجور على أعمالهم، والمؤذِّنين أخذ الأرزاق على تأذينهم، والمعلِّمين على تعليمهم، وذلك أنَّه صلعم جعل لوليِّ الأمر مِنْ بعده فيما أفاء الله عليه مؤنته، وإنَّما جعل ذلك لاشتغاله.
          فبان أنَّ كلَّ قيِّمٍ بأمرٍ مِنْ أمور المسلمين ممَّا يعمُّهم نفعُه سبيله سبيل عامل رسول الله صلعم في أنَّ له المؤنةَ مِنْ بيت المال والكفاية ما دام مشتغلًا به، وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء، وسائر أهل الشُّغل بمنافع الإٍسلام.
          فصلٌ: في حديث أبي هريرة مِنَ الفقه الدِّلالة البيِّنة على أنَّ الله تعالى أباح لعباده المؤمنين اتِّخاذَ الأموال والضِّياع ما يسعُهم لأقواتهم وأقوات عائلتهم ولِما ينوب مِنَ النَّوائب ويفضُل عن الكفاية، لأنَّه صلعم جعل الفضل عن نفقة أهله للسَّنَة ومؤنةِ عامله صدقةً، وكذلك كان هو يفعل في حياته، فكان يأخذ ما بقي فيجعله فيما أراه الله مِنْ قوَّة الإسلام ومنافع أهله والخيل والسِّلاح، وما يمكن صرفُه في ذلك فهو مالٌ كثيرٌ، وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ على جواز اتِّخاذ / الأموال واقتنائها طلبَ الاستغناء بها عن الحاجة إلى النَّاس، وصونًا للوجه والنَّفس واستنانًا بالشَّارع، وأنَّ ذلك أفضلُ مِنَ الفقر والفاقة إذا أدَّى حقَّ الله منها، وإنْ كان الفقرُ أفضلَ لَما كان صلعم يختار أخسَّ المنزلتين عند الله على أرفعهما، بل كان يقسم أمواله وأصوله على أصحابه ولا سيَّما بين ذوي الحاجة منهم، فبان فساد قول مَنْ منع اتَّخاذ الأموال وادِّخار الفضل عن قوت يومٍ وليلةٍ.
          ووضح خطأ مَنْ زعم أنَّ التَّوكل لا يصحُّ لمؤمنٍ على ربِّه إلَّا بألَّا يحبس بعد غدائه وعشائه شيئًا في ملكه، وأنَّ احتباسه ذلك يخرجه مِنْ معنى التَّوكُّل، ويدخله في معنى مَنْ أساء الظَّنَّ بربِّه.
          ولا يجوز أن يُقال: إنَّ أحدًا أحسنُ ظنًّا بربِّه مِنَ الشَّارع، ولا خَفاء بفساد قولهم، فإن اعترضوا بحديث ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((لا تتَّخذوا الضَّيْعَةَ فترغبوا في الدُّنيا)) فمعناه لا تتَّخذوها إذا خفتم على أنفسكم باتِّخاذها الرَّغبةَ في الدُّنيا، فأمَّا إذا لم تخافوا ذلك فلا يضرُّكم اتِّخاذها بدليل اتِّخاذ سيِّد الخلق لها.
          فإن قيل: قد روى مسروقٌ عن عائشة ♦ قالت: قال النَّبيُّ صلعم لبلالٍ: ((أطعمنا)) فقال: ما عندي إلَّا صُبرُ تمرٍ خبَّأناه لك قال: ((أمَا تخشى أن يخسفَ الله به في نار جهنَّم)) قال: ((أنفقْ يا بلالُ ولا تخشَ مِنْ ذِي العرش إقلالًا))؟ قيل: كان هذا منه في حال ضيق العيش عندهم، فكان يأمر أهل السَّعة أن يعودوا بفضلهم على أهل الحاجة حتَّى فتح الله عليهم الفتوح، ووسَّع على أصحابه في المعاش، فأباح لهم الاقتناءَ والادِّخار إذا أدَّوا حقَّ الله فيه.