التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: الغنيمة لمن شهد الوقعة

          ░9▒ باب: الغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ.
          3125- ذكر فيه حديث مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ ☺: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلعم خَيْبَرَ).
          الشَّرح: هذا الأثر يأتي قريبًا [خ¦4236] _إن شاء الله_ في غزوة خيبرَ مع طريقٍ آخر له، وسلف في المزارعة [خ¦2334].
          و(الغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقْعَةَ) وهو قول أبي بكرٍ وعمرَ، وعليه جماعة الفقهاء، ولا يَرِدُ قَسمُه صلعم لجعفر بن أبي طالبٍ ولِمَنْ قدم في سفينة أبي موسى مِنْ غنائم خيبرَ ولم يشهدوها، لأنَّ خيبرَ مخصوصةٌ بذلك، لأنَّه صلعم لم يَقسم غير خيبرَ لِمَنْ لم يشهدها، فلا يجوز أن تُجعل خيبرُ أصلًا يُقاس عليه.
          قال المهلَّب: وإنَّما قَسم مِنْ خيبرَ لأصحاب السَّفينة لشدَّة حاجتهم في بدء الإسلام، فإنَّهم كانوا للأنصار تحت مِنَحٍ مِنَ النَّخيل والمواشي لحاجتهم، فضاق بذلك أحوال الأنْصار، وكان المهاجرون مِنْ ذلك في شُغل بالٍ، فلمَّا فتح الله خيبرَ عوَّض الشَّارع المهاجرين، وردَّ إلى الأنصار منائحهم، وقد يحتمل _كما قال الطَّحَاويُّ_ أنَّه صلعم استطاب أنفس أهل الغنيمة، وقد رُوي ذلك عن أبي هريرة كما ستعلمه عند حديث أبي موسى بوجوهٍ معه في أسهامهم منها.
          وأمَّا قول عمرَ: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلعم خَيْبَرَ) فإنَّ أهل العلم اختلفوا في حكم الأرض، فقال أبو عُبيدٍ: وجدنا الآثار عن رسول الله صلعم والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الأرض ثلاثة أحكامٍ: أرض أسلمَ عليها أهلها فهي لهم مِلكٌ وهي أرض عُشرٍ لا شيء عليهم فيها غيره، وأرضٌ افتتحت صلحًا على خَراجٍ معلومٍ فهم على ما صُولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه، وأرضٌ أُخذت عَنوةً، وهي الَّتي اختلف فيها المسلمون:
          فقال بعضهم: سبيلهم سبيل الغنيمة فيكون أربعة أخماسها حصصًا بين الَّذين افتتحوها خاصَّةً، والخمس الباقي لِمَنْ سمَّى اللهُ. قال ابن المُنْذرِ: وهذا قول الشَّافعيِّ وأبي ثَورٍ، وبه أشار الزُّبَير بن العوَّام على عمرو بن العاص حين افتتح مصر.
          قال أبو عُبيدٍ: وقال بعضهم: بل حكمها والنَّظر فيها إلى الإمام إن رأى أن يجعلها غنيمةً فيخمِّسها ويَقسمها كما فعل رسول الله صلعم فذلك له، وإن رأى أن يجعلها موقوفةً على المسلمين ما بَقُوا، كما فعل عمرُ ☺ في السَّواد فذلك له، وهو قول أبي حَنيفةَ وصاحبيه والثَّوْريِّ فيما حكاه الطَّحَاويُّ.
          وشكَّ مالكٌ في «المدوَّنة» في حكم أرض العَنوة، وقال: يجتهد فيها الإمام، وقال في «العتبيَّة» و«الموَّازيَّة»: العمل في أرض العَنوة على فعل عمرَ ألَّا تُقسَمَ وتُقرُّ بحالها، وقد ألحَّ بلالٌ وأصحابٌ له على عمرَ في قَسْم الأرض بالشَّام، فقال: اكفِنيهم، فما أتى الحول وبقي منهم أحدٌ.
          قال مالكٌ: ومَنْ أسلم مِنْ أهل العَنوة فلا تكون له أرضه ولا داره، وأمَّا مَنْ صالح على أرضه، ومنع أهل الإسلام مِنَ الدُّخول عليهم إلَّا بعد الصُّلح فإنَّ الأرض لهم، وإن أسلموا فهي لهم أيضًا، ويسقط عنهم خراج أرضهم وجماجمهم.
          قال ابن حَبيبٍ: مَنْ أسلم مِنْ أهل العَنوة أحرز نفسه وماله، وأمَّا الأرض فللمسلمين، وماله وكلُّ ما كسب له، لأنَّ مَنْ أسلم على شيءٍ في يده كان له.
          والحجَّة لقول الشَّافعيِّ: إنَّ الأرض تُقسم، الاتِّباعُ في خيبر، وتأوَّل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال:41] فدخل في هذا العموم الأرض وغيرها فوجب قسمتها، قال ابن المُنْذرِ: وذهب الشَّافعيُّ إلى أنَّ عمر استطاب أنفس الَّذين افتتحوا الأرض، وأنكر أبو عُبيد أن يكون استطاب أنفسهم، وذهب الكوفيُّون إلى أنَّ عمرَ حدَّث عن رسول الله صلعم أنَّه قسم خيبرَ، وقال لولا آخرُ النَّاس لفعلتُ ذلك، فقد بيَّن أنَّ الحكمين جميعًا إليه، لولا ذلك ما تعدَّى سنَّة رسول الله إلى غيرها وهو يعرفها.
          ومِنَ الحجَّة في ذلك _كما قال الطَّحَاويُّ_ ما رواه ابن طَهْمَان عن أبي الزُّبَير عن جابرٍ قال: أفاء الله خيبر فأقرَّهم على ما كانوا وجعلها بينَه وبينهم، وبعث ابن رَواحة يخرصها عليهم، فثبت أنَّه صلعم لم يكن قسم خيبرَ بكمالها، ولكنَّه قسم منها طائفةً على ما ذكره عمرُ، وترك منها طائفةً لم يَقسمها على ما روى جابرٌ، وهي الَّتي خرصها عليهم، والَّذي كان قسم فيها هو الشَّقُّ والنَّطاةُ وترك سائرَها، فعلمنا أنَّه قسم منها وترك، فللإمام أن يفعل مِنْ ذلك ما رآه صلاحًا.
          واحتجَّ عمر في ترك قسمة الأرض بقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية [الحشر:10] وقال عمرُ: هذه الآية قد استوعبت النَّاس كلَّهم، فلم يبقَ أحدٌ إلَّا وله في هذا المال حقٌّ حتَّى الرَّاعي بِعَدَنٍ، قال أبو عُبيد: وإلى هذه الآية ذهب عليٌّ ومعاذٌ، وأشار على عمرَ بإقرار الأرض لِمَنْ يأتي بعدُ.
          قال إسماعيل: فكان الحكم بهذه الآية في الأرض أن تكون موقوفةً كما تكون الأوقاف الَّتي يَقِفُها النَّاس أصلها محبوسٌ ويُقسم ما يخرج منها، فكان معنى قول عمرَ: لولا الحكم الَّذي أنزل الله في القرآن لقسمت الأصول، وهذا لا يُشكل على ذي نظرٍ، وعليه جرى المسلمون، ورأَوه صوابًا.
          وقال إسماعيل: والَّذين قاتلوا حتَّى غنموا لم يكن لهم في الأصل أن يُعطَوا ذلك، لأنَّهم إنَّما قاتلوا لله لا للمغنم، ولو قاتلوا للمغنم لم يكونوا مجاهدين في سبيل الله تعالى. /
          قال عمرُ: إنَّ الرَّجل يقاتل للمَغنم ويقاتل ليُرى مكانُه، وإنَّما المجاهد مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فلمَّا كان أصل الجهاد أن يكون خالصًا لله، وكان عطاؤهم ما أُعطُوا مِنَ المغانم إنَّما هو بفضلٍ مِنَ الله على هذه الأمَّة، أُعطُوا ذلك في وقتٍ ومُنِعُوه في وقت، فأُعطُوا مِنَ المغانم ما ليس له أصلٌ يبقى، فاشترك فيه المسلمون كلُّهم، ومُنِعُوا الأصلَ الَّذي يبقى، فلم يكن في ذلك ظلمٌ لهم، لأنَّ ثواب الله الَّذي قصدوه جارٍ لهم في كلِّ شيءٍ ينتفع به مِنَ الأصول الَّتي افتتحوها ما دامت وبقيت.
          وحكى الطَّحَاويُّ عن الكوفيِّين: أنَّ الإمام إذا أقرَّهم أرضَ العَنوة أنَّها ملكٌ لهم يجري عليهم فيها الخراج إلى الأبد أسلموا أو لم يسلموا، وإنَّما حملهم على هذا التَّأويل أنَّهم قالوا: إنَّ عمرَ جَعل على جَرِيب التَّمر في أرض السَّواد بالعراق شيئًا معلومًا في كلِّ عامٍ، فلو لم تكن لهم الأرض لكان بِيعَ التَّمرُ قبل أن يظهر، قال أبو جعفرٍ الدَّاوُديُّ: ولا أعلم أحدًا مِنَ الصَّحابة يقول بقول أهل الكوفة.
          واحتجَّ مَنْ خالفهم بأنَّ الأرض كلَّها كانت لا شجرَ فيها، فإنَّما اعتبر ما يصلح أن يُزرَع فيه البُرُّ جعل عليه بقدر ذلك، وإن اكترى ما يصلح أن يزرع الشَّعير جعل عليه بقدر ذلك، ومَنِ اكترى ما يصلح أن يجعل فيه الشَّجر جعل عليه بقدر ذلك، لا على أنَّ الشجر كانت في الأرض يومئذٍ.
          قال ابن بَطَّالٍ: وقول الكوفيِّين مخالفٌ للكتاب والسُّنَّة، لأنَّ الله تعالى أحلَّ الغنائم للمسلمين، فإذا افتُتحت الأرض فاسم الغنيمة واقعٌ عليها كما يقع على المال سواءً، فإن رأى الإمام إبقاء الأرض لِمَنْ يأتي بعده فإنَّما يبقيها ملكًا للمسلمين مِنْ أجل أنَّها غنيمةٌ كما فعل عمرُ، فمَنْ زعم أنَّ الأرض تبقى ملكًا للمشركين فهو مضادٌّ لحُكم الله ورسوله فلا وجه لقوله، وروى اللَّيث عن يونس عن ابن شِهابٍ أنَّ رسول الله صلعم افتتح خيبرَ عَنوةً بعد القتال، وكانت ممَّا أفاء الله على رسوله فخمَّسها وقَسمها بين المسلمين، ونزل مَنْ نزل مِنْ أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلعم فقال: ((إن شئتم دفعتُ إليكم هذه الأموال على أن تعملوها ويكون ثمرُها بيننا وبينكم، وأقرُّكم ما أقرَّكم اللهُ)) فقبلوا الأموال على ذلك. وروى يحيى بن سعيدٍ عن بُشَير بن يَسارٍ أنَّه صلعم لمَّا قسم خيبرَ عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النِّصف الباقي بين المسلمين، فلمَّا صار ذلك في يد رسول الله صلعم لم يكن له مِنَ العمَّال ما يكفونه عملها فدفعها إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرُج منها، فلم يزل الأمر على ذلك حياة رسول الله صلعم وحياة أبي بكرٍ، حتَّى كان عمرُ وكثر العمَّال في أيدي المسلمين، وقَوُوا على عمل الأرض، وأجلى عمر اليهودَ إلى الشَّام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم، فهذا كلُّه يردُّ قول الكوفيِّين، ويُبيِّن أنَّهم إنَّما أُبقُوا في الأرض عمَّالًا للمسلمين فقط، فلمَّا أغنى الله عنهم أُخرجوا منها.
          فصلٌ: أربعة أخماس الغنيمة لِمَنْ شهد الوقعة مِنَ البالغين المسلمين الأحرار، واختُلف فيمَنْ أطاق القتال مِنَ الصِّبيان، فقال مالكٌ: يسهم له، ومنعه الشَّافعيُّ وأبو حَنيفةَ وسُحْنون وقالوا: يُرضخ له فقط، وتأوَّله بعضهم على «المدوَّنة»، وقال ابن حَبيبِ: مَنْ بلغ خمسَ عشرةَ سنةً وأثبت وأطاق القتل أُسهم له إذا حَضر، ومَنْ كان دون ذلك لم يُسهم له حتَّى يُقاتل.
          واختُلف في المرأة إذا قاتلت كالرَّجل، فجمهور المالكيَّة لا يُسهم لها، خلافًا لابن حَبيبٍ، وعندنا: يُرضخ لها فقط، وكذا العبد، وكذا الذِّمِّيُّ إذا حضر بلا أجرةٍ وبإذن الإمام، وقد أسلفنا الخلاف عندنا في الأجير، والأظهر أنَّه يُسهَم له إذا قاتل، والخلاف عند المالكيَّة أيضًا، وحاصله عندهم ثلاثة أقوالٍ: إنْ قاتل فقولان، وقيل: يُسهم له إذا حضر وإن لم يقاتل.
          فصلٌ: قيل: خيبرُ أُخذت كلُّها عَنوةً وقَسم الشَّارعُ جميعها، وهو ظاهر قول عمر ☺ في الباب، وقيل: قسم نصفها وأبقى نصفها لنوائبه، وقال مالكٌ: كان بعضها عَنوةً وبعضها صلحًا، وقسم الشَّارع العَنوة وأبقى الصُّلح لنوائبه.
          فصلٌ: حاصل ما للعلماء في قسمة الأرض تردَّد عن مالكٍ، وقال أبو عبيدٍ: الإمام مخيَّرٌ، وأنكره إسماعيل وقال: كيف يخيَّر الإمام في الأحكام؟ قال الدَّاوُديُّ: ولا يلزمه قول إسماعيل، لأنَّ مِنْ قول مالكٍ وكثيرٍ مِنَ العلماء وإسماعيل أنَّ الإمام يصرف الخمس على ما يرى، فإذا كان له الخيار فيه فالفيء كذلك، غير أنَّ قول أبي عُبيدٍ لا يصحُّ لوجهٍ غير هذا، لأنَّ الآيات الَّتي في سورة الحشر معناها غير ما ذهب إليه، قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى {الصَّادِقُونَ} [الحشر:7-8] فهؤلاء الخَمس المذكورون في الخُمس في الأنفال، ثُمَّ قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر:9] فابتدأ الكلام بوصفهم وأتى بالخبر وليس هو معطوفًا على ما قبله وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية [الحشر:10] ابتدأ الكلام بوصفهم وأتى بالجواب، فكلُّ آيةٍ على حيالها معطوفةٌ على ما قبلها.
          فصلٌ: حاصل ما قيل في المعنى الَّذي أبقى به عمرُ الأرض إمَّا أنَّه استطاب أنفس مَنْ حضر، أو تأوَّل قوله: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر:7]، ثُمَّ قال: وما هو لهؤلاء وحدهم، ثُمَّ تلا: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} إلى {الْمُفْلِحُونَ} ثُمَّ قال: وما هي لهؤلاء ثُمَّ تلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى {رَحِيمٌ} وقال: ما بقي أحدٌ مِنَ المسلمين إلَّا دخل في ذلك، ورأى أنَّ هذه الآياتِ ناسخةٌ لقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} الآية [الأنفال:41] وقد خالف الزُّبَير وبلالٌ عمرَ فيما ذهب إليه عمرُ، وألحَّا عليه في قَسم ما فتح _كما سلف_ فأبى عليهما، وما كان هذا سبيلَه لم يُنسخ به ما كان مفسَّرًا قد عمل به رسول الله صلعم، وإنَّما ذهب إسماعيل إلى أنَّ آيات الحشر ناسخاتٌ لآية الأنفال.
          واختُلف فيما أبقاه عمرُ وغيره مِنَ الأئمَّة مِنَ الأرض، فقال مالكٌ وأكثرُ العلماء: إنَّه موقوفٌ لنوائب الإسلام يجري فيه الخراج ولا يُباع، وقال بعض الكوفيِّين: حين أبقى الأرض بأيديهم صارت لهم ملكًا، وصار عليهم وعلى الأرض خراجٌ معلومٌ.