شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كم التعزير والأدب؟

          ░42▒ باب كَمِ(1) التَّعْزِيرُ وَالأدَبُ؟
          فيه: عَبْدُ الرَّحْمَن بْن جَابِرٍ عَنْ أبي بُرْدةَ قَالَ: كَانَ النَّبيُّ صلعم يَقُولُ: (لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ). [خ¦6848]
          وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن جَابِرٍ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (لا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ). [خ¦6849]
          وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بُرْدَةَ الأنْصَارِيَّ(2)، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: (لَا يُجلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ). [خ¦6850]
          وفيه أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رجلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَيُّكُمْ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لهمْ حِينَ أَبَوْا). [خ¦6851]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ في مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إلى رِحَالِهِمْ. [خ¦6852]
          وفيه عَائِشَةُ، قَالَتْ: (مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلعم لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرْمَة مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ). [خ¦6853]
          اختلف العلماء في مبلغ التعزير، فقال أحمد وإسحاق بحديث جابرٍ لا يزاد على عشر جلداتٍ إلَّا في حدٍّ.
          وروي عن الليث أنَّه قال: يحتمل ألَّا يتجاوز بالتعزير عشرة أسواطٍ، ويحتمل ما سوى ذلك. وروى ابن المنذر عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه أمر زيد بن ثابتٍ أن يضرب رجلًا عشرة أسواطٍ.
          وعنه روايةٌ ثانيةٌ أنَّه كتب إلى أبي موسى الأشعريِّ: ((ألَّا يبلغ بنكالٍ فوق عشرين سوطًا)).
          وعنه في روايةٌ أخرى: ((ألَّا يبلغ في تعزيرٍ أكثر من ثلاثين جلدةً)).
          وقال الشافعيُّ في قوله الآخر: لا يبلغ به عشرين سوطًا؛ لأنَّها أبلغ الحدود في العبد في شرب الخمر؛ لأنَّ حدَّ الخمر في الحرِّ(3) عنده في الشرب أربعون.
          وقال أبو حنيفة ومحمَّدٌ: لا يبلغ به أربعين سوطًا بل ينقص منه(4) سوطًا؛ لأنَّ الأربعين أقلُّ الحدود في العبد في الشرب والقذف، وهو أحد قولي الشافعيِّ.
          وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: أكثره خمسةٌ وسبعون سوطًا.
          وقال مالكٌ: التعزير ربَّما كان أكثر من الحدود إذا أدى الإمام اجتهاده إلى ذلك. وروي مثله عن أبي يوسف وأبي ثورٍ، واحتجَّ أحمد وإسحاق بحديث جابرٍ، وقال ابن المنذر: في إسناده مقالٌ.
          وقال الأَصِيليُّ: اضطرب إسناد حديث عبد الله بن جابرٍ، فوجب تركه لاضطرابه، ولوجود العمل في الصحابة والتابعين بخلافه.
          وقال الطحاويُّ: لا يجوز: اعتبار التعزير بالحدود(5) لأنَّهم لا يختلفون أنَّ التعزير موكولٌ إلى اجتهاد الإمام، فيخفِّف تارةً ويشدُّ تارةً، فلا معنى لاعتبار الحدِّ فيه، وتجوز مجاوزته له، والدليل على ذلك ما رواه ابن نَمِرٍ(6) عن الزهريِّ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطبٍ، عن أبيه أنَّ حاطبًا توفِّي، وأعتق من صلَّى وصام من رقيقه، وكانت له وليدةٌ نوبيَّةٌ(7) قد صلَّت وصامت، وهي عجميَّةٌ لا تفقه فلم يرعه إلَّا حملها، فذهب إلى عمر وأخبره(8) فأرسل إليها أَحَبِلت؟ قالت: نعم من مَرغوسٍ بدرهمين. فإذا هي تستهلُّ به، وصادفت عنده عليَّ بن أبي طالبٍ وعثمان وعبد الرحمن فقال: أشيروا عليَّ. فقال عليٌّ وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحدُّ. فقال: أشر عليَّ يا عثمان. فقال: قد أشار عليك أخواك. قال(9): أشر عليَّ أنت. قال عثمان: إنَّها تستهلُّ به كأنَّها لا تعلمه، وليس الحدُّ إلَّا على من علمه. فقال عمر: صدقت. فأمر بها فجلدت مائة وغرِّبت.
          قال ابن شهابٍ: وقد كانت نكحت غلامًا لمولاها ثمَّ مات عنها إلَّا أنَّها كانت تصلِّي مع المسلمين، فجعل عمر في هذا الحديث التعزير مائةً؛ لأنَّه كان عليها علم الأشياء المحرَّمة، وغرَّبها زيادةً في العقوبة كما غرَّب في الخمر.
          قال ابن القصَّار: وقد روى ابن(10) معن بن زائدة زوَّر كتابًا على عمر ونقش مثل خاتمه فجلده مائةً، ثمَّ شفع له قومٌ، فقال: أذكرتني الطعن وكنت ناسيًا، فجلده مائةً أخرى، ثمَّ جلده بعد ذلك مائةً أخرى ثلاث مرَّاتٍ(11) بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك أحدٌ، فثبت أنَّه إجماعٌ. قال: ولمَّا كان طريق التعزير إلى اجتهاد الإمام على حسب ما يغلب على ظنِّه أنَّه يردع، وكان في الناس من يردعه الكلام، وكان فيهم من لا يردعه مائة سوطٍ، وهي عنده كضرب المروحة؛ لم يكن للتحديد فيه معنى، وكان مفوَّضًا إلى ما يؤدِّيه اجتهاده أنَّ مثله يردع.
          وقال المُهَلَّب: ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم زاد المواصلين في النكال كذلك يجوز للإمام أن يزيد فيه على حسب اجتهاده، وكذلك ضرب المتتابعين بالطعام(12)، وانتقامه صلعم لحرمات الله ╡ لم يكن محدودًا فيجب أن يضرب كلَّ واحدٍ منهم على قدر عصيانه للسنَّة ومعاندته أكثر ممَّا يضرب(13) الجاهل، ولو كان في شيءٍ من ذلك حدٌّ لنقل ولم يجز خلافه.


[1] قوله: ((كم)) زيادة من (ت).
[2] زاد في (ت): ((أنه)).
[3] قوله: ((في الحر)) ليس في (ت).
[4] في (ت): ((منها)).
[5] في (ت): ((بالوجود)).
[6] في (ت): ((رواه يونس)).
[7] زاد في (ت): ((من رقيقه)).
[8] في (ت): ((فأخبره)).
[9] في (ت): ((فقال)).
[10] في (ت): ((وقد روي عن)).
[11] في (ت): ((مرار)).
[12] في (ت): ((المتابعين للطعام)).
[13] في (ت): ((يضربه)).