شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى

          ░36▒ باب: لا يُثَرَّبُ على الأمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلا تُنْفَى.
          فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا زَنَتِ الأمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا(1) فَلْيَجْلِدْهَا وَلا يُثَرِّبْ... ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ). [خ¦6839]
          استدلَّ بهذا الحديث من لم يوجب النفي على النساء، أحرارًا كنَّ أو إماءً، ولا على العبيد، روي ذلك عن الحسن وحمَّادٍ، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ وعبيد الله بن الحسن وأحمد وإسحاق، وقال الشافعيُّ وأبو ثورٍ: على النساء النفي وعلى الإماء والعبيد. وهو قول ابن عمر، واحتجَّ الشافعيُّ بعموم قوله صلعم: ((من زنا ولم يحصن فعليه جلد مائةٍ وتغريب عامٍ)) فعمَّ ولم يخصَّ، واحتجَّ أيضًا بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا على الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء:25]والتغريب له نصفٌ.
          واحتجَّ عليه مخالفه بقوله صلعم: (إِذَا زَنَتِ أمَةُ أَحَدِكُمُ فَلْيَجْلِدْهَا... ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَلْيَبِعْهَا) فدلَّ هذا على سقوط النفي عنها؛ لأنَّه محالٌ أن يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه إلَّا بعد مضي ستَّة أشهرٍ، وأيضًا فإنَّ العبيد والإماء لا وطن لهم فيعاقبون(2) بإخراجهم عنه، وفي نفيهم قطعٌ للسيِّد عن خدمتهم وضررٌ، وممَّا يدلُّ أنَّه لا نفي على النساء قوله صلعم: ((لا تسافر امرأةٌ يومًا وليلةً إلَّا مع ذي محرمٍ))، فإن أخرجتم معها ذا محرمٍ عاقبتم من زنا ومن لم يزن وهذا محالٌ، وإن قلتم إنَّها تغرَّب وحدها فقد خالفتم الخبر؛ لأنَّ النبيَّ صلعم نهاها أن تسافر وحدها، وفي قوله صلعم: (فَلْيَجْلِدْها) إباحةٌ للسيِّد أن يقيم الحدود على عبده(3).
          وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال الشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ: للسيِّد أن يقيم الحدود كلَّها على عبيده. وقال مالكٌ والليث: يحدُّه السيِّد في الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود لا بإقرار العبد إلَّا القطع خاصَّةً فإنَّه لا يقطعه إلَّا الإمام.
          وقال الكوفيُّون: لا يقيم الحدود كلَّها إلَّا الإمام خاصَّةً، فإذا علم السيِّد أنَّ عبده زنا يوجعه ضربًا ولا يبلغ به الحدَّ. وحجَّتهم ما روي عن الحسن وعبد الله بن مُحَيْرِيزٍ وعمر بن عبد العزيز أنَّهم قالوا: الجمعة والحدود والزكاة والنفي والحكم إلى السلطان خاصَّةً.
          وحجَّة القول الأوَّل قوله ◙: (إِذَا زَنَت أَمَةُ أَحَدِكُم فَلْيَجْلِدْها) وسائر الحدود قياسًا على الجلد الذي جعله النبيُّ صلعم إلى السيِّد، وروي عن ابن عمر(4) وابن مسعودٍ وأنسٍ وغيرهم أنَّهم أقاموا الحدود على عبيدهم، ولا مخالف لهم من الصحابة.
          وحجَّة مالكٍ ظاهر حديث أبي هريرة، وإنَّما استثنى القطع؛ لأنَّ فيه مثلة بالعبد، فيدَّعي السيِّد أنَّ عبده سرق ليزيل عنه العتق الذي يلزمه بالمثلة، فمنع منه قطعًا للذريعة، وحدُّ الزنا وغيره لا مثلة فيه، فلا يتَّهم عليه.
          وقد قال بعض أصحاب مالكٍ: إنَّ للسيِّد قطعه إذا قامت على ذلك بيِّنةً.
          وقال ابن المنذر: يقال للكوفيِّين إذا جاز ضربه تعزيرًا، وذلك غير واجبٍ على الزاني، ومنع ممَّا أطلقته السنَّة، فذلك خلافٌ للسنَّة الثابتة.
          وقوله: (فَلْيَجْلِدْها وَلَا يُثَرِّبْ) يدلُّ على(5) أنَّ كلَّ من وجب عليه حدٌّ وأقيم عليه أنَّه لا ينبغي أن يثرِّب عليه ولا يعدِّد، وإنَّما يصلح التثريب واللوم قبل مواقعة الذنب للردع والزجر عنه.
          وقوله صلعم: (ثُمَّ لْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ) معناه عند الفقهاء الندب والحضُّ على مباعدة الزانية لما في السكوت على ذلك من خوف الرضى به، وذلك ذريعةٌ إلى تكثير أولاد الزنا، وقد قالت أمُّ سلمة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)). قال بعض أهل العلم: الخبث: أولاد الزنا.
          وقال أهل الظاهر بوجوب بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، ولم يقل به أحدٌ من سلف الأمَّة، وكفى بهذا جهلًا، ولا يشتغل بهذا القول لشذوذه، وقد نهى صلعم عن إضاعة المال فكيف يأمر ببيع أمةٍ لها قيمةٌ بحبلٍ من شعرٍ لا قيمة له؟ وإنَّما أراد صلعم بذلك النهي عنها، والأمر بمجانبتها، فخرج لفظه صلعم على المبالغة في ذلك، وهذا من فصيح كلام العرب.


[1] قوله: ((زناها)) ليس في (ت).
[2] في (ت): ((فيعاقبوا)).
[3] في (ت): ((عبيده)).
[4] في (ت): ((عن عمر)).
[5] قوله: ((على)) ليس في (ت).