شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاعتراف بالزنا

          ░30▒ باب: الاعْتِرَافِ بِالزِّنَا
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ قَالا: (كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلعم فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لي. قَالَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا على هَذَا، فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ على ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَ على امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَ على ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ على امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا). [خ¦6827] [خ¦6828]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، أَلا فَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ على مَنْ زَنَا وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الاعْتِرَافُ. [خ¦6829]
          قال المُهَلَّب وغيره: في هذا الحديث ضروبٌ من الفقه: منها الترافع إلى السلطان الأعلى فيما قد قضى غيره ممَّن هو دونه إذا لم يوافق الحقَّ.
          ومنها فسخ كلِّ صلحٍ وردُّ كلِّ حكمٍ وقع على خلاف السنَّة.
          قال غيره: وفيه أنَّ ما قبضه الذي قضي له بالباطل لا يصلح له ملكه.
          وفيه: أنَّ العالم قد يُفتي في مصرٍ فيه من هو أعلم منه، ألا ترى أنَّه سأل أهل العلم ورسول الله صلعم بين أظهرهم، وكذلك كان الصحابة يفتون في زمان النبيِّ صلعم.
          وفي سؤاله أهل العلم ورجوعه إلى النَّبيِّ صلعم دليلٌ على أنَّه يجوز للرجل ألَّا يقتصر على قول واحدٍ من العلماء.
          وفيه: أنَّه جائزٌ للخصم أن يقول للإمام العدل: احكم بيننا بالحقِّ، لأنَّه قال للنَّبيِّ صلعم: (اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ)، وقد علم أنَّه لا يقضي إلَّا بما أمره الله تعالى، ولم ينكر ذلك عليه النَّبيُّ صلعم.
          وقال الملكان لداود ◙: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ}[ص:22]، وذلك إذا لم يرد السائل التعريض.
          وقوله: (وَكَانَ أَفْقَهَهُما) يعني _والله أعلم_لاستئذانه النبيَّ صلعم في الكلام وترك صاحبه لذلك تأكيدًا.
          واختلف العلماء في تأويل ذلك فقال بعضهم: الرجم في كتاب الله تعالى في قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}[النور:8]. فالعذاب الذي تدرؤه الزوجة عن نفسها باللعان هو الذي يجب عليها بالبيِّنة أو بالإقرار أو بالنكول عن اللعان. وقد بيَّن النبيُّ صلعم آية الرجم في الثيِّب برجم ماعزٍ وغيره.
          وقال آخرون: الرجم ممَّا نسخ من القرآن خطُّه وثبت حكمه.
          وقال آخرون: معنى قوله:(لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ) أي بحكم الله وبفرضه، وهذاجائزٌ في اللغة قال الله تعالى: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ}[النساء:24]أي حكمه فيكم وقضاؤه عليكم، ومنه قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}[الطور:41]أي يقضون. وكذلك قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام:54]وكلُّ ما قضى به النبيُّ صلعم فهو حكم الله.
          وفيه: أنَّ رسول الله صلعم لم يجعلهما قاذفين حين أخبراه.
          وليس في الحديث أنَّه سأل ابن الرجل هل زنا؟ وهل صدقا عليه أم لا؟ ولكن من مفهوم الحديث أنَّه أقرَّ لأنَّه لا يجوز أن يقام الحدُّ إلَّا بالإقرار أو بالبيِّنة، ولم يكن عليهما بيِّنةٌ؛ لقوله صلعم: (فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا).
          وفيه: النفي والتغريب للبكر الزاني خلاف قول أبي حنيفة في إسقاطه النفي عن الزاني، وستأتي أقوال العلماء في ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى.
          وفي الحديث من الفقه: رجم الثيِّب بلا جلدٍ على ما ذهب إليه أئمَّة الفتوى بالأمصار.
          وفيه من الفقه: استماع الحكم من أحد الخصمين وصاحبه غائبٌ وفتياه له دون خصمه، ألا ترى أنَّ رسول الله صلعم قد أفتاهما والمرأة غائبةٌ وكانت إحدى الخصمين.
          وفيه: تأخير الحدود عند ضيق الوقت؛ لأنَّه صلعم أمره بالغدوِّ إلى المرأة فإن اعترفت رجمها.
          وفيه: إرسال الواحد في تنفيذ الحكم.
          وفيه: إقامة الحدِّ على من أقرَّ على نفسه مرَّةً واحدةً؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يقل لأنيسٍ فإن اعترفت أربع مرَّاتٍ، وقد تقدَّم القول في هذه المسألة في الباب الذي قبل هذا. [خ¦6825]
          وفيه: دليلٌ على صحَّة قول مالكٍ وجمهور الفقهاء أنَّ الإمام لا يقوم بحدِّ من قذف بين يديه حتَّى يطلبه المقذوف؛ لأنَّ له أن يعفو عن قاذفه أو يريد سترًا، ألا ترى أنَّه قال بين يدي النبيِّ صلعم: (إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا على هَذَا، فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ) فقذفها، فلم يقم عليه النبيُّ صلعم الحدَّ؛ لأنَّها لمَّا اعترفت بالزنا سقط حكم قذفها، ومثله حديث العجلانيِّ حين رمى امرأته برجلٍ فلاعن بينه وبين امرأته؛ لأنَّه لم يطلبه بحدِّه ولو طلبه به حُدَّ إلَّا أن يقيم البيِّنة على ما قال.
          والمخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى فإنَّه يقول: إنَّ الإمام يحدُّ القاذف وإن لم يطلبه المقذوف. وقوله خلاف السنن الثابتة فسيأتي ما بقي من معاني هذا الحديث بعد هذا في مواضعه إن شاء الله تعالى، وكذلك حديث ابن عبَّاسٍ سيأتي الكلام عليه في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.