شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت؟

          ░28▒ باب: هَلْ يَقُولُ الإمَامُ لِلْمُقِرِّ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ أَوْ غَمَزْتَ؟
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبيَّ صلعم قَالَ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ لا يَكْنِي، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ). [خ¦6824]
          قال المُهَلَّب وغيره: في هذا الحديث دليلٌ على جواز تلقين المقرِّ بالحدود ما يدرأ بها عنه، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم قال لماعزٍ: (لَعَلَّكَ غَمَزتَ أَو قَبَّلتَ) ليدرأ عنه الحدَّ، إذ لفظ الزنا يقع على نظر العين وجميع الجوارح، فلمَّا أتى ماعزٌ بلفظٍ مشتركٍ لم يحدَّه صلعم حتَّى وقف على صحيح ما أتاه بغير إشكالٍ؛ لأنَّ من سننه ◙ درء الحدود بالشبهات، فلمَّا أفصح وبيَّن أمر برجمه.
          قال غيره: وهذا يدلُّ أنَّ الحدود لا تقام إلَّا بالإفصاح دون الكنايات، ألا ترى أنَّ الشهود لو شهدوا على رجلٍ بالزنا ولم يقولوا رأيناه أولج فيها كان حكمهم حكم من قذف لا حكم من شهد، رفقًا من الله تعالى بعباده وسترًا عليهم ليتوبوا.
          قال المُهَلَّب: وقد استعمل التلقين بعد النبيِّ صلعم أصحابه الراشدون.
          روى مالكٌ عن يحيى بن سعيدٍ أنَ عمر ☺ أتاه رجلٌ وهو بالشام فذكر أنَّه وجد مع امرأته رجلًا، فبعث عمر أبا واقدٍ إلى امرأته يسألها عمَّا قال زوجها لعمر، وأخبرها أنَّها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقِّنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع فرجمها عمر.
          وروى معمرٌ بإسناده أنَّ عمر أتي برجلٍ فقيل: إنَّه سارقٌ، فقال عمر: إنِّي لأرى يد رجلٍ ما هي بيد سارقٍ، فقال الرجل: والله ما أنا بسارقٍ فخلَّى سبيله. وعن الشَّعبيِّ قال: أُتي عليٌّ بامرأةٍ يقال لها شُرَاحة وهي حبلى من الزنا، فقال: ويحك لعلَّ رجلًا استكرهك، قالت: لا. قال: فلعلَّ وقع عليك وأنت نائمةٌ. قالت: لا. قال: فلعلَّ زوجك من عدوِّنا، يعني أهل الشام، فأنت تكرهين أن تدلِّي عليه. قالت: لا. فجعل يلقِّنها هذا وأشباهه وتقول: لا. فرجمها.
          وعن أبي مسعودٍ: أتي بسارقٍ سرق بعيرًا. فقال: هل وجدته؟ قال: نعم. فخلَّى سبيله.
          قال المُهَلَّب: فهذا وجه التلقين بالتعريض لمن يعرف الحدَّ وما يلزمه فيه، وأمَّا تلقين الجاهل ومن لا يعرف الكلام فهو تصريحٌ.
          روى ابن جُريجٍ عن عطاءٍ قال: كان بعضهم يؤتى بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قال: لا. وعلمي أنَّه سمَّى أبا بكرٍ وعمر ☻.
          وروى شعبة بإسناده عن أبي الدرداء أنَّه أتي بجاريةٍ سوداء سرقت، فقال لها: أسرقت يا سلامة؟ قولي: لا، قالت: لا، فخلَّى سبيلها، فقلت: أنت تلقِّنها؟! قال أبو الدرداء: إنَّها اعترفت وهي لا تدري ما يُراد بها.
          وقال الأعمش: كان إبراهيم يأمر بطرد المعترفين، وكان أحمد وإسحاق يريان تلقين السارق إذا أتي به. وكذلك قال أبو ثورٍ: إذا كان السارق امرأةً أو من لا يدري ما يصنع به أو ما يقول.
          قال المُهَلَّب: هذا التلقين على اختلاف منازله ليس بسنَّةٍ لازمةٍ إلَّا عند اختيار الإمام ذلك، وله ألَّا يلقن ولا يعرِّض لقوله: ((بيِّنةٌ وإلَّا حدٌ في ظهرك)).
          وأمَّا التلقين الذي لا يحلُّ فتلقين الخصمين في الحقوق وتداعي الناس، وكذلك لا يجب تلقين المنتهك المعروف بذلك إذا تبيَّن ما أقرَّ به أو شُهد عليه ويلزم الإمام إقامة الحدِّ فيه.