شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الرجم في البلاط

          ░24▒ بَاب الرَّجْمِ بِالْبَلاطِ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أُتِيَ النَّبيُّ صلعم بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ في كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ بِالتَّوْرَاةِ، فَأُتِيَ بِهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ على آيَةِ الرَّجْمِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَرُجِمَا). [خ¦6819]
          قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلاطِ فَرَأَيْتُ الْيَهُودِيَّ أَحْنَى عَلَيْهَا.
          قال أبو عبيدٍ: يرويه أهل الحديث (يَحنِي) وإنَّما هو يَجنَأ مهموزٌ ثابت، يقال: جَنَأَ الرجل على الشيء يَجْنَأ جُنُوءًا: إذا انكبَّ. فإن كان ذلك من خلقه قيل جَنَأً، ومنه قيل للترس إذا صنع مقبَّبًا مُجْنَأٌ.
          وأمَّا قوله: (باب الرَّجْمِ بِالْبَلاطِ) فلا يقتضي معنًى، والبلاط وغيره من الأمكنة سواءٌ، وإنَّما يرجم به؛ لأنَّه مذكورٌ في الحديث.
          وقال الأصمعيُّ: البلاط: الأرض الملساء.
          وذكر محمَّد بن إسحاق عن الزهريِّ، عن أبي هريرة: أنَّ هذا الحديث كان حين قدم رسول الله صلعم إلى المدينة.
          قال مالكٌ: ولم يكونا أهل ذمَّةٍ، وإنَّما كانا أهل حربٍ حكَّموا رسول الله صلعم فحكم بينهم.
          وقال بعض العلماء: معنى قول مالكٍ: ولم يكونا أهل ذمَّةٍ. لأنَّهما لو كانا أهل ذمَّة لم يسألهما النبيُّ صلعم كيف الحكم عندهم ولا حكم عليهم بقول أساقفتهم؛ لأنَّ الحكم بين أهل الذمَّة إذا تحاكموا إليه كحكمه بين المسلمين سواءٌ.
          ويحتمل مسيره صلعم إلى بيت المدراس وسؤاله اليهود عن حكم الزانيين أحد معنيين:
          إمَّا أن يكون لمَّا أراد الله تعالى تكذيبهم وإظهار ما بدَّلوا من حكم الله تعالى، ولذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم المحاكمة إليه ◙، وأعلمه أنَّ في التوراة حكم الله في ذلك لقوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ}[المائدة:43].
          والمعنى الثاني: أن يكون حكم الرجم لم ينزل على النبيِّ صلعم، وقد روى معمرٌ عن ابن شهابٍ: قالوا: فبلغنا أنَّ هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ}[المائدة:44]فكان النبيُّ صلعم منهم.
          وفي هذا الحديث من الفقه حجَّةٌ لمالكٍ في قوله: إنَّ أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا أنَّه جائزٌ أن يترجم عنهم مترجمٌ واحدٌ كما ترجم عبد الله بن سلام عن التوراة وحده. وقد تقدَّم ما للعلماء في هذه المسألة في كتاب الأحكام. [خ¦7196]
          وفي قوله: (فَرَأَيتُ اليَهُودِيَّ أَحَنَا عَلَيهَا)، دليلٌ أنَّه لا يحفر للمرجوم ولا للمرجومة؛ لأنَّه لو كان حفيرًا ما استطاع أن يحنو عليها، وبهذا استدلَّ مالكٌ.
          وقال أحمد بن حنبلٍ: أكثر الأحاديث على ألَّا يحفر، والرجم إنَّما يجب أن يعمَّ جميع بدنه، فإذا كان في حفرةٍ غاب بعض بدنه.
          وقال الكوفيُّون: لا يحفر لهما، وإن حفر فحسنٌ. وخيَّر الشافعيُّ في أيِّ ذلك شاء. وقال أصبغ: يستحبُّ أن يحفر لهما وترسل يداه يدرأ بهما عن وجهه. قال الطحاويُّ: روي عن عليٍّ ☺ أنَّه حفر لشُرَاحة، وفي قصَّة الجهينيَّة أنَّه شدَّ عليها ثيابها ثمَّ أمر برجمها من غير أن يحفر لها.
          وفي هذا الحديث حجَّةٌ للثوريِّ أنَّ المحدود لا يقعد، ويضرب قائمًا، والمرأة قاعدةٌ.
          قال المحتجُّ له: وقوله: ((فَرَأَيتُ الرَّجُلَ يَحنَأُ عَلَى المَرأَةِ))، يدلُّ أنَّ الرجل كان قائمًا والمرأة قاعدةً.
          وقال مالكٌ: الرجل والمرأة في الحدود كلِّها سواءٌ، لا يقام واحدٌ منهما ويضربان قاعدين ويجرَّد الرجل منهما ويترك على المرأة ما يسترها ولا يقيها الضرب. وقال الشافعيُّ والليث وأبو حنيفة: الضرب في الحدود كلِّها قائمًا مجرَّدًا غير ممدودٍ إلَّا حدَّ القذف فإنَّه يضرب وعليه من ثيابه ما لا يقيه الضرب.