شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من رأى مع امرأته رجلًا فقتله

          ░40▒ باب: مَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ.
          فيه سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ الله صلعم فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي). [خ¦6846]
          قال المُهَلَّب: معنى قوله صلعم: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟... وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي) يدلُّ على وجود القود فيمن قتل رجلًا وجده مع امرأته؛ لأنَّ الله تعالى وإن كان أغير من عباده فإنَّه قد أوجب الشهود في الحدود فلا يجوز لأحدٍ أن يتعدَّى حدود الله، ولا يسفك دمًا بدعوى. وقد روى مالكٌ هذا المعنى في حديث سعدٍ بيِّنًا، روى مالكٌ، عن سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ سعد بن عُبَاْدَة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلًا أمهله حتَّى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله صلعم: ((نعم))، ففي هذا من الفقه قطع الذرائع والتسبُّب إلى قتل الناس والادِّعاء عليهم بمثل هذا وشبهه.
          وفي حديث سعدٍ من رواية مالكٍ: النهي عن إقامة الحدود بغير سلطانٍ وبغير شهودٍ؛ لأنَّ الله تعالى عظَّم دم المسلم وعظَّم الإثم فيه، فلا يحلُّ سفكه إلَّا بما أباحه الله تعالى(1)، وبذلك أفتى عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ فيمن قتل رجلًا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء؛ فليُعطَ بِرُمَّتِه. أي يسلَّم برمَّته للقتل، وعلى هذا جمهور العلماء.
          وقال الشافعيُّ وأبو ثورٍ: يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل وامرأته إن كانا ثيِّبين وعلم أنَّه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود في الحكم.
          وقال أحمد بن حنبلٍ: إن جاء ببيِّنةٍ أنَّه وجده مع امرأته وقتله يهدر دمه إن جاء بشاهدين. وهو قول إسحاق، وهذا خلاف قوله في حديث مالكٍ: أمهله حتَّى آتي بأربعة شهداء؟ قال: ((نعم)) وقال ابن حبيبٍ: إذا كان المقتول محصنًا، فالذي ينجي قاتله من القتل أن يقيم أربعة شهداء أنَّه فعل بامرأته، وأمَّا إن كان المقتول غير محْصَنٍ فعلى قاتله القود، وإن أتى بأربعة شهداء، هذا وجه الحديث عندي، وذكر ابن مزيِّنٍ عن ابن القاسم أنَّ ذلك في البكر والثيِّب سواءٌ، يترك قاتله إذا قامت له البيِّنة بالرؤية.
          وقال أصبغ عن ابن القاسم وأشهب: أستحبُّ الدية في البكر في مال القاتل. وهو قول أصبغ.
          وقال المغيرة: لا قود فيه ولا دية، وقد أهدر عُمَر بن الخطَّاب دمًا من هذا الوجه، روى الليث، عن يحيى بن سعيدٍ: أنَّ رجلًا فقد أخاه فجعل ينشده في الموسم، فقام رجلٌ فقال: أنا قتلته، فمرَّ به إلى عُمَر بن الخطَّاب فقال: إنِّي مررت بأخي هذا في بيت امرأةٍ مغيبةٍ وهو(2) يقول:
وَأَشعَثَ غَرَّهُ الإسلامُ مِنِّي                      خَلَوتُ بِعرسِهِ ليلَ التَّمامِ
أَبيتُ على تَرائِبِها وكِسري                     عَلى صَهبَاءَ لَاحِقةِ الحزامِ
          فأهدر عمر دمه.
          وروى الليث عن يحيى بن سعيدٍ: أنَّ زيد بن أسلم أدرك المرأة الهذليَّة التي رمت ضيفها الذي أرادها على نفسها(3) فقتلته عجوزًا كبيرةً، وأخبرته(4) أنَّ عمر أهدر دمه، وقال ابن مزيِّنٍ: ما روي عن عمر في هذا أنَّه ثبت عنده ذلك من عداوتهم وظلمهم، ولو أخذ بقول الرجل في ذلك بغير بيِّنة لعمد الرجل إلى الرجل يريد قتله، فيدعوه إلى بيته لطعامٍ أو لحاجةٍ ثمَّ يقتله(5) ويدَّعي أنَّه وجده مع امرأته، فيؤدِّي ذلك إذا قبل قوله إلى إباحة الدماء وإسقاط القود فيها بغير حقِّ ولا إثباتٍ.
          وقال ابن المنذر: والأخبار عن عمر مختلفةٌ، وعامَّتها منقطعةٌ، فإن ثبت عن عمر أنَّه أهدر الدم فيها فإنَّما(6) ذلك لبيِّنة ثبتت عنده تسقط القود.
          وروى عبد الرزَّاق، عن الثوريِّ، عن المغيرة بن النعمان، عن هانئ بن حزامٍ: أنَّ رجلًا وجد مع امرأته رجلًا فقتلهما، فكتب عمر كتابًا في العلانية: أن يقيدوه، وكتابًا في السرِّ: أن أعطوه الدية.
          وروى الأعمش عن زيد بن وهبٍ أن عمر أمر بالدية في ذلك.
          قال الشافعيُّ: وبحديث عليٍّ(7) نأخذ، ولا أحفظ عن أحدٍ من أهل العلم قبلنا مخالفًا له.
          قال ابن المنذر: وقد حرَّم الله(8) دماء المؤمنين في كتابه إلَّا بالحقِّ، فغير جائزٍ إباحة ما ثبت تحريمه إلَّا ببيِّنةٍ، ونهى النبيُّ صلعم سعدًا أن يقتل حتَّى يأتي بأربعة شهداء، وفي نهي النبيِّ صلعم له عن ذلك مع مكانه من الثقة والصلاح دليلٌ على منع جميع الناس من قتل من يَدَّعون إباحة قتله بغير بيِّنة.


[1] في (ت): ((أباحه الله به)).
[2] قوله: ((وهو)) ليس في (ت).
[3] في (ز): ((نفسه)) والمثبت من (ت).
[4] في (ت): ((فأخبرته)).
[5] في (ت): ((ويقتله)).
[6] زاد في (ت): ((ذكر)).
[7] قوله: ((علي)) زيادة من (ت).
[8] قوله: ((الله)) لفظ الجلالة زيادة من (ت).