شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت؟

          ░29▒ باب: سُؤَالِ الإمَامِ الْمُقِرَّ بالزنا هَلْ أَحْصَنْتَ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَتَى رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلعم وَهُوَ في الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، يُرِيدُ نَفْسَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الذي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ على نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبيُّ صلعم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ هل: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ) الحديث. [خ¦6825] [خ¦6826]
          هذا لازمٌ لكلِّ إمامٍ أن يسأل المقرَّ إن كان محصنًا أو غير مِحْصَنٍ؛ لأنَّ الله تعالى قد فرَّق بين حدِّ المحصن والبكر، فواجبٌ على الإمام أن يقف على ذلك كما يجب عليه إذا أشكل احتلام المقرِّ أن يسأله عن ذلك، ثمَّ بعد ذلك يلزمه تصديق كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّ الحدَّ لا يقام إلَّا باليقين ولا يحلُّ فيه التجسُّس.
          قال المُهَلَّب: ولمَّا كان قوله مقبولًا في اللمس والغمز كان قوله مقبولًا في الإحصان، فالباب واحدٌ في ذلك. ٍ
          اختلف العلماء في الاعتراف بالزنا الذي يجب فيه الحدُّ هل يفتقر إلى عددٍ أم لا؟
          فقالت طائفةٌ: لابدَّ من اعتراف أربع مرَّاتٍ على ما جاء في الحديث، هذا قول ابن أبي ليلى والثوريِّ والكوفيِّين وأحمد غير أنَّ ابن أبي ليلى وأحمد قالا: يجزئ إقرار أربع مرَّاتٍ في مجلسٍ واحدٍ. وقال الكوفيُّون: لا يجزىء إلَّا في أربع مجالسٍ.
          وقال آخرون: إذا اعترف بالزنا مرَّةً واحدةً وثبت على ذلك لزمه الحدُّ، روي هذا عن أبي بكرٍ الصدِّيق وعمر بن الخطَّاب ☻، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وأبي ثورٍ.
          وقال أهل المقالة الأولى: لمَّا كان الزنا مخصوصًا من بين سائر الحقوق بأربعة شهداء جاز أن يكون مخصوصًا بإقرار أربع مرَّاتٍ.
          واحتجَّ عليهم الآخرون فقالوا: قد قال النبيُّ صلعم: ((اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها))، ولم يقل له إن اعترفت أربعًا، فلا معنى لاعتبار العدد في الإقرار، وأيضًا فإنَّه لا يدلُّ على مخالفة الزنا لسائر الحقوق في أنَّه مخصوصٌ بأربعة شهداء على مخالفته في الإقرار؛ لأنَّ القتل مخالفٌ للأموال في الشهادات فلا يقبل في القتل إلَّا شاهدان، ويقبل في الأموال شاهدٌ وامرأتان، ثمَّ اتَّفقنا في باب الإقرار أنَّه يقبل فيه إقرار مرَّةٍ. ولو وجب اعتبار الإقرار بالشهادة لوجب ألَّا يقبل في الموضع الذي لا يقبل فيه إلَّا شاهدان إلَّا إقرار مرَّتين.
          وقد أجمع العلماء أنَّ سائر الإقرارات في الشرع يكتفى فيها مرَّةٌ واحدةٌ، وإن أقرَّ بالردَّة مرَّةً واحدةً يلزمه اسم الكفر، والقتل واجبٌ عليه فلزم في الزنا مثله.
          فإن قالوا: فلم لم يُقم ◙ الحدَّ بإقراره أوَّل مرَّةٍ؟
          قيل: فائدة الخبر أنَّه ◙ لمَّا رآه مختلَّ الصورة فزِعًا أراد التثبُّت في أمره هل به جنَّةٌ أم لا، مع أنَّه كره ما سمع منه فأعرض عنه رجاء أن يستر على نفسه ويتوب إلى الله تعالى، ألا ترى أنَّه لقَّنه فقال: ((لعلَّك لمست أو غمزت)) فلا معنى لاعتباره العدد في الإقرار.
          وقوله: (جَمَزَ) أي: أسرع يهرول، وقال بعض السلف لرجلٍ: اتَّق الله قبل أن يُجمَز بك. يريد المشي السريع في جنازته.
          وقال الكسائيُّ: الناقة تعدو الجمز وهو العدو الذي ينزو، قال رؤبة:
فَإِنْ تَرَيْنَنِي اليَومَ جَمَزَى