شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت

          ░31▒ بَابُ: رَجْمِ الْحُبْلَى في الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ.
          فيهِ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا في مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ(1): يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ في فُلانٍ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلانًا، فَوَاللهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أبي بَكْرٍ إِلا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ في النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ(2) هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.
          قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، وَإِنَّهُمْ هُم الَّذِينَ يَقْلِبُونَ على قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ في النَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لا يَعُوهَا وَلا يَضَعُوهَا على مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي(3) أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا(4)، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لأقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُه(5) بِالْمَدِينَةِ.
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ في عُقْبِ ذِي الْحَجَّةِ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إلى رُكْنِ الْمِنْبَرِ(6)، فَجَلَسْتُ إليه تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلًا قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ(7) بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ، فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ؟ فَجَلَسَ عُمَرُ على الْمِنْبَرِ فَلَمَّا سَكَتَ(8) الْمُؤَذِّنُونَ، قَامَ فَأَثْنَى على اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لي أَنْ أَقُولَهَا، لا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَنْ ألا يَعْقِلَهَا(9) فَلا أُحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ، إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فيما(10) أَنْزَلَ اللهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا(11) وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ في كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ، أَنْزَلَهَا اللهُ تعالى، وَالرَّجْمُ في كِتَابِ اللهِ حَقٌّ على مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَنْ ألا(12) تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ؛ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَلا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: لا تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِي عيسى ابْن مَرْيَمَ(13)، وَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ.
          ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللهِ لَوْ قد(14) مَاتَ عُمَرُ بَايَعْنا(15) فُلانًا، فَلا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أبي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ فيكم(16) مَنْ تُقْطَعُ أَعناقُ الإِبلِ(17) إِلَيْهِ مِثْلُ أبي بَكْرٍ.
          وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَيرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ إلا أَنَّ الأنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إلى أبي(18) بَكْرٍ، فَقُلْتُ لأبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنَا إلى إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا مَا تَمَالأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ قُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالا: لا عَلَيْكُمْ ألا تَقْرَبُوهُمُ، اقْضُوا أَمْرَكُمْ. فقُلْتُ: واللهِ(19) لَنَأْتِيَنَّهُمْ.
          فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فقَالُوا(20): سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فقُلْتُ(21): مَا لَهُ؟ قَالُوا: يُوعَكُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى على اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ وَكَتِيبَةُ الإسْلامِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الأمْرِ، فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أبي بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: على رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُغضِبَهُ(22).
          فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ، وَاللهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي في تَزْوِيرِي إِلَّا قَالَ في بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ(23) يُعْرَفَ هَذَا الأمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُم(24) أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شئتُمْ، فَأَخَذَ(25) بِيَدِي وَبِيَدِ أبي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا، كَانَ وَاللهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَيُضْرَبَ عُنُقِي لا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ على قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُسَوِّلَ لِي نَفْسِي عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لا أَجِدُهُ الآنَ.
          فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأنْصَارِ(26): أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الاخْتِلافِ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الأنْصَارُ، وَنَزَوْنَا على سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: قَتَلَ اللهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أبي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ على مَا لا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ، فَيَكُونُ فَسَادًا، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(27)، فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَالذي(28) بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا. [خ¦6830]
          أمَّا قوله: (باب: رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ) فمعناه: باب هل يجب على الحبلى رجمٌ أو(29) لا؟
          وأجمع العلماء أنَّ الحبلى من الزنا لا رجم عليها حتَّى تضع.
          واختلفوا إذا وضعت متى يجب عليها الرجم. فقال مالكٌ: إذا وضعت حُدَّت إذا وجد للمولود من يرضعه وإن لم يوجد أُخِّرت حتَّى ترضعه وتفطمه خوف هلاكه.
          وقال الشافعيُّ: لا ترجم حتَّى تفطمه كما صنع النبيُّ صلعم(30) في المرجومة على ما رواه مالكٌ في «الموطَّأ».
          وقال الكوفيُّون: ترجَم بعد الوضع على ما رواه عِمْرَان بن حُصَينٍ ((أنَّ امرأةً أتت النبيَّ صلعم فذكرت أنَّها زنت، فأمر بها أن تقعد حتَّى تضعه، فلمَّا وضعته أتته فأمر بها فرجمت وصلَّى عليها)).
          واختلفوا في المرأة توجد حاملًا ولا زوج لها، فقال مالكٌ: إن قالت استكرهت أو تزوجت. أنَّ ذلك لا يقبل منها ويقام عليها الحدُّ؛ إلَّا أن تقيم بيِّنةً على ما ادَّعت من ذلك، أو تجيء بدماءٍ أو استغاثت حتَّى أتت وهي على ذلك.
          وقال ابن القاسم: إن كانت غريبةً طارئةً فلا حدَّ عليها. وقال الكوفيُّون والشافعيُّ: إذا وجدت(31) حاملًا ولا زوج لها فلا حدَّ عليها إلَّا أن تقرَّ بالزنا أو تقوم عليها بيِّنةٌ، ولم يفرِّقوا بين طارئةٍ وغيرها واحتجُّوا بقوله صلعم: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)).
          وحجَّة مالكٍ: قول عُمَر بن الخطَّاب في هذا الحديث: الرجم في كتاب الله تعالى حقٌّ على من زنا إذا قامت البيِّنة أو كان الحبل أو الاعتراف، فسوَّى بين البيِّنة والإقرار وبين وجود الحبل في أنَّ ذلك كلَّه موجبٌ للرجم.
          وقد روي مثل هذا القول عن عثمان وعليٍّ وابن عبَّاسٍ، ولا مخالف لهم في الصحابة.
          وفي هذا الحديث ضروبٌ من العلم منها: قول ابن عبَّاسٍ: (كُنْتُ أُقرِئُ رِجَالًا مِنَ المُهَاجِرِينَ) يعني أقرئهم القرآن، ففيه أنَّ العلم يأخذه الكبير عن الصغير؛ لأنَّ ابن عبَّاسٍ لم يكن من المهاجرين لصغر سنِّه(32).
          قال المُهَلَّب: وقول القائل: (لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلاَنًا) يعني رجلًا من الأنصار، ففيه أنَّ رفع مثل هذا الخبر إلى السلطان واجبٌ لما يخاف من الفتنة على المسلمين، ألا ترى إنكار عمر تلك المقالة، وقال: (لَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ)، والمعروف هو الشيء الذي لا يجوز خلافه. وهذا يدلُّ أنه لم يختلف في ذلك على عهد النبيِّ صلعم ولو اختلف فيه لعُلم الخلاف فيه، والمعروف ما عرفه أهل العلم(33) وإن جهله كثيرٌ من غيرهم كما أنَّ المنكر ما أنكره أهل العلم.
          والدلائل على أنَّ الخلافة في قريشٍ كثيرةٌ منها أنَّه صلعم أوصى بالأنصار من ولي أمر المسلمين أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فأخبر أنَّهم مستوصى بهم محتاجون أن يُتقبَّل إحسانهم ويُتَجاوز عن إساءتهم، وفي هذا دليلٌ واضحٌ أنَّه ليس لهم في الخلافة حقٌّ، وكذلك قال عمر: (إِنِّي لَقَائِمٌ العَشِيَّةَ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ) فالغصب لا يكون إلَّا أخذ(34) ما لا يجب، وإخراج الأمر عن قريشٍ هو الغصب.
          قال المُهَلَّب: وفي قول عبد الرحمن لعمر حين أراد أن يقوم في الموسم دليلٌ على جواز الاعتراض على السلطان في الرأي إذا خشي من ذلك الفتنة واختلاف الكلمة.
          وقوله: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ لاَ يَعُوهَا، وَلاَ يَضَعُوهَا مَوَاضِعِهَا) ففيه دليلٌ أنَّه لا يجب أن يوضع دقيق العلم إلَّا عند أهل الفهم له والمعرفة بمواضعه.
          وقوله: (يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ) دليلٌ أنَّه لا يجب أن يحدِّث بحديثٍ(35) يسبق منه إلى الجهَّال الإنكار لمعناه؛ لما يخشى من افتراق الكلمة في تأويله.
          وقوله: (أَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ) الفصل كله فيه دليلٌ على أنَّ أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم، ألا ترى اتِّفاق عمر مع عبد الرحمن على ذلك ورجوعه إلى رأيه.
          وفيه: الحرص على المسارعة إلى استماع العلم، وأنَّ الفضل في القرب من العالم.
          وأمَّا قوله لسعيد بن زيدٍ: (لَيَقُولَنَّ اليَومَ مَقَالَةً) أراد أن ينبِّهه ليحضر فهمه لذلك.
          وأمَّا إنكار سعيدٍ عليه فلعلمه باستقرار الأمور من السنن والفرائض(36) عندهم.
          وقوله: (فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا) يعني على حسب ما وعى وعقل.
          وفيه: الحضُّ لأهل الضبط والفهم للعلم على تبليغه ونشره.
          وفي قوله: (وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لاَ يَعْقِلَهَا فَلاَ أُحِلُّ لهُ(37) أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ) النهي لأهل التقصير والجهل عن الحديث بما لم يعلموه ولا ضبطوه، وإدخاله في هذا الحديث آية الرجم وأنَّها نزلت على النبيِّ صلعم وقرئت وعمل بها، ثمَّ قوله: (لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ) أنَّه كان أيضًا من القرآن ورُفع خطُّه، فمعنى ذلك أنَّه لا يجب لأحدٍ أن يتنطَّع فيما لا نصَّ فيه من القرآن، وفيما لا يعلم من سنَّته صلعم، ويتسوَّر برأيه فيقول ما لا يحلُّ له ممَّا سوَّلت له نفسه الأمَّارة بالسوء، وبما نزغ به الشيطان في قلبه حتَّى يسأل أهل العلم بالكتاب والسنَّة عنه كما تنطَّع الذي قال: (لَوْ قَد مَاتَ عُمَرُ لبَايَعْتُ فُلاَنًا) لما لم يجد الخلافة في قريشٍ مرسومةً في كتاب الله تعالى، فعرَّفه عمر أنَّ الفرائض والسنن والقرآن منه(38) ما ثبت حكمه عند أهل العلم به ورفع خطُّه؛ فلذلك قدم عمر هاتين القصَّتين اللتين لا نصَّ لهما في كتاب الله تعالى، وقد كانتا في كتاب الله ولا يعلم ثبات حكمها إلَّا أهل العلم كما لا يعرف أهل بيت الخلافة ولمن تجب إلَّا من عرف مثل هذا الذي يجهله كثيرٌ من الناس.
          وقوله: (أَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ) فيه دليلٌ على دَروس العلم مع مرور الزمن، ووجود الجاهلين السبيل إلى التأويل بغير علمٍ فيَضلُّوا ويُضلُّوا كما قال النبيُّ صلعم.
          وقوله: (كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ) أي كفر حقٍّ ونعمةٍ.
          وقوله: (لَا تُطْرُونِي) عرَّفهم ما خشي عليهم جهله، والغلوَّ فيه كما صنعت النصارى في قولهم في عيسى: إنَّه ابن الله ╡.
          وقولهم: (إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً) وقول عمر: (إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلْتَةً). فقال أبو عبيدٍ: معنى الفلتة الفجأة، وإنَّما كانت كذلك؛ لأنَّها لم يُنتَظر بها العوام، وإنَّما ابتدرها أكابر أصحاب محمَّدٍ صلعم من المهاجرين وعامَّة الأنصار إلَّا تلك الطيرة التي كانت من بعضهم، ثمَّ أصغوا له كافَّتهم لمعرفتهم أنَّه ليس لأبي بكرٍ منازعٌ ولا شريكٌ في الفضل، ولم يكن يحتاج في أمره إلى نظرٍ ولا مشاورةٍ، فلهذا كانت فلتةً وقى الله بها الإسلام وأهله شرَّها.
          وقال الكَرابِيسيُّ: في قولهم (كَانَتْ فَلتَةً)؛ لأنَّهم تفلَّتوا في ذهابهم إلى الأنصار وبايعوا أبا بكر بحضرتهم، وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه، فقال قائلٌ منهم: (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) وقد ثبت عن النبيِّ صلعم أنَّ الخلافة في قريشٍ، فإمَّا بايعناهم على ما لا(39) يجوز لنا، وإمَّا قاتلناهم على ذلك فهي الفلتة.
          ألا ترى قول عمر: (وَاللهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ)، (ولأَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ) فهذا يبيِّن(40) أنَّ قول عمر: (كَانَتْ فَلْتَةً) لم يرد مبايعة أبي بكر، وإنَّما أراد ما وصفه من خلافة(41) الأنصار عليهم، وما كان من أمر سعد بن عُبَاْدَة وقومه.
          وقول عمر: (قَتَلَ اللهُ سَعْدًا)، قال أبو عبيدٍ: ولو علموا أنَّ في أمر أبي بكرٍ شبهةً وأنَّ بين الخاصَّة والعامَّة فيه اختلافًا ما استجازوا الحكم عليهم بعقد البيعة، ولو استجازوه ما أجازه الآخرون إلَّا لمعرفة(42) منهم به متقدِّمةٍ. ويدلُّ على ذلك ما رواه النسائيُّ عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سلمة بن نُبَيطٍ، عن نعيمٍ، عن أبي هندٍ، عن نُبَيط بن شَريطٍ، عن سالم بن عبيدٍ وذكر(43) موت النبيِّ صلعم(44) قال: خرج أبو بكر فاجتمع المهاجرون يتشاورون بينهم، ثمَّ قال: انطلقوا إلى إخواننا الأنصار. فقالت(45): منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ. فقال عمر: سيفان في غمدٍ إذًا لا يصطلحان، ثمَّ أخذ بيد أبي بكرٍ فقال: من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنَّ الله معنا، من صاحبه إذ هما في الغار، مع من هما؟ ثمَّ بايعه الناس أحسن بيعةٍ وأجملها. فدلَّ هذا الحديث أنَّ القوم لم يبايعوه إلَّا بعد التشاور والتناظر واتِّفاق الملأ منهم الذين هم أهل الحلِّ والعقد على الرضا بإمامته، والتقديم لحقِّه.
          ولقولهم: (كَانَتْ فَلتَةً) تفسيرٌ آخر، قال ثعلبٌ وابن الأعرابيِّ: الفلتة عند العرب: آخر ليلةٍ من الأشهر الحرم يشكُّ فيها، فيقول قوم: هي من شعبان، ويقول قومٌ: هي من رجب؛ وبيان هذا أنَّ العرب كانوا يعظِّمون الأشهر الحرم ولا يقاتلون فيها، ويرى(46) الرجل قاتل أبيه فلا يمسُّه، فإذا كان آخر ليلةٍ منها ربَّما شكَّ قومٌ فقالوا: هي من الحلِّ، وقال بعضهم: من الحرم. فيبادر الموتور في تلك الليلة فينتهز الفرصة في إدراك ثأره غير معلومٍ أن ينصرم الشهر الحرام عن يقينٍ، فيكثر تلك الليلة سفك الدماء وشنُّ الغارات.
          فشبَّه عمر ☺ أيَّام حياة رسول الله صلعم وما كان الناس عليه في عهده من اجتماع الكلمة وشمول الألفة ووقوع الأمَنة بالشهر الحرام الذي لا قتال فيه، ولا نزاع وكان موته ◙ شبيهة القصَّة بالفلتة التي هي خروجٌ من الحرام(47) لما نجم عند ذلك من الخلاف وظهر من الفساد وما كان من أهل الردَّة، ومنع العرب الزكاة، وتخلُّف من تخلَّف من الأنصار جريًا منهم على عادة العرب ألَّا يسود القبيلة إلَّا رجلٌ منها؛ فوقى الله تعالى شرَّها بتلك البيعة المباركة التي كانت جماعًا للخير ونظامًا للألفة(48).
          وقد روِّينا نصَّ هذا المعنى عن سالم(49) بن عبد الله، روى سيفٌ، عن مبشِّرٍ، عن سالم بن عبد الله قال(50): قال عمر: كانت إمارة أبي بكرٍ فلتةً وقى الله شرَّها، قلت: ما الفلتة؟ قال: كان أهل الجاهليَّة يتحاجزون في الحرم، فإذا كانت الليلة التي يشكُّ فيها أدغلوا فأغاروا، وكذلك كانوا يوم مات رسول الله صلعم أدغل الناس من بين مدَّع إمارةٍ أو جاحد زكاةٍ، فلولا اعتراض أبي بكرٍ دونها لكانت الفضيحة، ذكره الخطَّابيُّ(51).
          فإن قيل: فما معنى قول أبي بكرٍ: وُلِّيتكم ولست بخيركم؟ قيل: هذا من فضله، ألَّا يرى لنفسه فضلًا على غيره، وهذه صفة الخائفين لله تعالى الذين لا يعجبون بعملٍ، ولا يستكثرون له مهج أنفسهم وأموالهم.
          قال الحسن: واللهِ ما خلق الله بعد النبيِّين أفضل من أبي بكرٍ. قالوا: ولا مؤمنٌ من آل فرعون؟ قال(52): ولا مؤمنٌ من آل فرعون.
          وروى الزهريُّ عن أنسٍ قال: سمعت عُمَر بن الخطَّاب يقول حين بويع أبو بكر: إنَّ الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله صلعم وثاني اثنين إذ هما في الغار أبو بكرٍ، فبايعوه بيعة العامَّة.
          قال المُهَلَّب: وقوله: (قد خَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ)؛ فليس هذا بخلافٍ(53) في الرأي والمذهب؛ وإنَّما هو في الاجتماع والحضور.
          وفي إشارة عمر على أبي بكرٍ أن يأتي الأنصار دليلٌ على أنَّه إذا خشي من قومٍ فتنةً وألَّا يجيبوا إلى الإقبال إلى من فوقهم أن ينهض إليهم من فوقهم، ويبيِّن لجماعتهم الحقَّ قبل أن يحكم بذلك الرأي ويقضي به؛ ألا ترى إلى إجابة أبي بكرٍ إلى ذلك وهو الإمام.
          وأمَّا قول الرجلين من الأنصار (ولا تَقْرَبُوهُمُ اقْضُوا أَمْرَكُمْ)؛ فإنَّه يدلُّ أنَّ الأنصار لم تطبق على دعواها في الخلافة، وإنَّما ادَّعى ذلك الأقلُّ.
          وقول الأنصار: (نَحْنُ َكَتِيبَةُ اللهِ) فإنَّ ذلك لا ينكر من فضلهم كما قال أبو بكرٍ، قال: (وَلَكِنْ لا يُعْرَفُ هَذَا الأَمْرُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ) أي لا يخرج هذا الأمر عنهم.
          وقوله: (أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا) أي أعدل وأفضل، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143]أي عدلًا.
          وقول أبي بكرٍ ☺: (وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ)، هو أدبٌ منه ☺، خشي أن يزكِّي نفسه، فيعدَّ ذلك عليه.
          وقوله: (أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ) يدلُّ أنَّه لا يكون للمسلمين أكثر من إمامٍ واحدٍ، وقد جاء عن النبيِ صلعم: ((اقتلوا الآخر منهما)) وقد تُؤوِّل قوله: ((اقتلوا الآخر منهما)) بمعنى اخلعوه واجعلوه كمن قتل ومات بألَّا تقبلوا له قولًا، ولا تقيموا له دعوةً حتَّى يكون في أعداد من قتل وبطل.
          وفيه جواز إمامة المفضول إذا كان من أهل الغَناء والكفاية، وقد قدَّم رسول الله صلعم أسامة على جيشٍ فيه أبو بكرٍ وعمر.
          وقول عمر: (لَمْ أَكْرَهْ مِنْ مَقَالَتِهِ غَيْرَهَا) يعني إشارته بالخلافة إلى عمر لما ذكر أن يقدَّم لضرب عنقه أحبُّ إليه من التأمُّر والتقدُّم للخلافة بحضرته.
          وقوله(54): (إِلاَّ أَنْ تُسَوِّلَ لَي نَفْسِي)، محافظة لما حلف عليه، ولمعرفته بالله من تقليب القلوب، فأخذ في هذا بأبلغ العذر.
          وقول الحُبَاب بن المنذر: (أَنَا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ)، قال أبو عبيدٍ عن الأصمعيِّ: الجذيل: تصغير جِذْلٍ، أو جَذِلٍ(55): وهو عودٌ ينصب للإبل الجربى، تحتكُّ به من الجرب، فأراد أن يستشفى برأيه كما كان تستشفي الإبل بالاحتكاك بذلك العود، والعُذَيق: تصغير عَذْق. والعَذْق: بفتح العين، النخلة نفسها، فأينما مالت النخلة الكريمة بنوا من ناحيتها المائل بناءً مرتفعًا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، ولا يرجَّبُ إلا كرام النخل، والترجيب: التعظيم، يقال: رَجِبت الرجل رجبًا: أي عظَّمته(56)، وإنَّما صغَّرهما جُذيل وعُذيق على وجه المدح، وإنَّما وصفهما بالكرم.
          قال المُهَلَّب: وقول عمر: (ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ)، وإجابة أبي بكرٍ له بعد(57) أن قال: (قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ) دليلٌ على أنَّه لم يحلَّ له أن يتخلَّف عمَّا قدَّمه رسول الله صلعم بالدليل من الصلاة، وهي عمدة الإسلام، وبقوله للمرأة: ((إن لم تجديني فائت أبا بكرٍ)).
          فإن قيل: كيف جاز له أن يجعل الأمر لأحد هذين الرجلين، وقد علم بالدليل الواضح استخلاف النبيِّ صلعم له؟ قيل: ليس في قوله ذلك تخليةً له من الأمر إذ كان الرضى موقوفًا إليه والاختيار، وليس ذلك بمخرجه أن يرضى نفسه لها، وإنَّما تأدَّب إذ لم يقل رضيت لكم نفسي، فلم يجز أحدهما أن يرى نفسه أهلًا لها في زمن أبي(58) بكر.
          وقد روي أنَّ عمر قال لهم: أيُّكم تطيب نفسه أن يؤخِّر أبا بكرٍ عن مقامٍ أقامه فيه رسول الله صلعم؟ فقال الأنصار بجمعهم: لا(59)، وكذلك قال عمر: (إِنَّا وَاللهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرِنا أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ)، يعني في قطع الخلاف وبرضى الجماعة به وإقرارهم بفضله.
          وقوله: (وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ)؛ أي درسناه ووثبنا عليه في متابعتهم إلى البيعة، والنزوان: الوثوب.
          وفيه الدعاء على من تُخشى منه الفتنة، وقال الخطَّابيُّ: معنى(60) قوله: (قَتَلَ اللهُ سَعْدًا): أي اجعله(61) كمن قتل، واحسبوه في عدَّة(62) من مات، ولا تعتدُّوا بمشهده، وذلك أنَّ سعدًا أراد في ذلك المقام أن ينصب أميرًا على قومه، على مذهب العرب في الجاهليَّة ألَّا يسود القبيلة إلَّا رجلٌ منها، وكان حكم الإسلام خلاف ذلك، فرأى عمر ☺ إبطاله بأغلظ ما يكون من القول وأشنعه، وكلُّ شيءٍ أبطلت فعله وسلبت قوَّته فقد قتلته وأَمتَّه، وكذلك قتلت الشراب إذا مزجته لتكسر شدَّته.
          وقوله: (وَلَيْسَ فيكم(63) مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ له مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ) يريد أنَّ السابق منكم لا يلحق شأوه في الفضل ولا يكون أحدٌ مثله؛ لأنَّه أسبق السابقين.
          وقوله: (تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلاَ): قال أبو عبيدٍ: التغرَّة: التغرير، يقال: غرَّرت بالقوم تغريرًا وتغرَّةً، وكذلك يقال في المضاعف خاصَّةً، كقوله(64): حلَّلت اليمين تحليلًا وتحلَّةً، وإنَّما أراد عمر أنَّ في بيعتهما تغريرًا بأنفسهما للقتل وتعرُّضًا له فنهاهما عنه، وأمر ألَّا يؤمَّر واحدٌ منهما(65) لئلَّا يطمع في ذلك، فيفعل(66) هذا الفعل.
          قال أبو عَمْرٍو: الدافَّة: القوم يسيرون جماعةً سيرًا ليس بالشديد، يقال: هم يدفُّون دفيفًا.
          وقوله: (يَحْضُنُونَا مِنَ الأَمْرِ) يقال: حضنت الرجل من الشيء وأحضنته: أخرجته منه، وقال الأصمعيُّ: التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته. وقال أبو زيدٍ: المزوَّر من الكلام والمزوَّق واحدٌ، وهو المصلَّح المحسَّن، وكذلك الخطُّ إذا قوِّم أيضًا.


[1] زاد في (ت): ((له)).
[2] في (ت): ((فأحذرهم)).
[3] في (ت): ((فيعوا)).
[4] في (ت): ((فيضعوها مواضعها)).
[5] في (ت): ((أقوم)).
[6] في (ت): ((إلى المنبر)).
[7] قوله: ((بن زيد)) ليس في (ت).
[8] في (ت): ((جلس)).
[9] في (ت): ((يقلها)).
[10] في (ت): ((مما)).
[11] في (ت): ((قرأناها)).
[12] في (ت): ((في كتاب الله ألأ)).
[13] في (ت): ((كما أطري ابن مريم)).
[14] قوله: ((قد)) ليس في (ت).
[15] في (ت): ((بايعت)).
[16] في (ت): ((منكم)).
[17] في (ت): ((الأعناق)).
[18] في (ت): ((المهاجرون لأبي)).
[19] في (ت): ((فوالله)).
[20] في (ت): ((قالوا)).
[21] في (ت): ((قلت)).
[22] في (ت): ((أعصية)).
[23] في (ز): ((وإن)) والمثبت من (ت).
[24] في (ت): ((هو)).
[25] في (ت): ((وأخذ)).
[26] قوله: ((من الأنصار)) ليس في (ت).
[27] قوله: ((من المسلمين)) ليس في (ت).
[28] في (ت): ((ولا الذي)).
[29] في (ت): ((أم)).
[30] في (ت): ((كما فعل ◙)).
[31] زاد في (ت): ((امرأة)).
[32] قوله: ((سنه)) ليس في (ت).
[33] قوله: ((العلم)) ليس في (ت).
[34] قوله: ((أخذ)) ليس في (ت).
[35] في (ت): ((بكل حديث)).
[36] في (ت): ((من الفرائض والسنن)).
[37] في (ز): ((أما)) والمثبت من (ت).
[38] قوله: ((منه)) ليس في (ت).
[39] قوله: ((لا)) ليس في (ت).
[40] في (ت): ((يدل)).
[41] في (ت): ((من خلاف)).
[42] في (ت): ((بمعرفة)).
[43] في (ت): ((وحضر)).
[44] زاد في (ت): ((ثم)).
[45] في (ت): ((فقال)).
[46] صورتها في (ز): ((وينبى)). غير منقوطة والمثبت من (ت).
[47] في (ت): ((الحرم)).
[48] في (ت): ((للكلمة)).
[49] في (ت): ((جابر)).
[50] في (ت): ((عن سالم قال)).
[51] قوله: ((ذكره الخطابي)) ليس في (ت).
[52] في (ز): ((قالوا)) والمثبت من (ت).
[53] في (ت): ((خلاف)).
[54] قوله: ((وقوله)) ليس في (ت).
[55] في (ت): ((تصغير حذل وجذا)).
[56] في (ت): ((رجبًا أعظمته)).
[57] في (ت): ((وإجابة أبو بكر بعد)).
[58] في (ت): ((زمن فيه أبو)).
[59] في (ت): ((لا من)).
[60] قوله: ((معنى)) ليس في (ت).
[61] في (ت): ((اجعلوه)).
[62] في (ت): ((فاحسبوه في عدد)).
[63] في (ت): ((فيهم)).
[64] في (ت): ((كقولك)).
[65] في (ت): ((منهم)).
[66] في (ت): ((ففعل)).