شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام

          ░37▒ باب: أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِحْصَانِهِمْ إِذَا زَنَوْا وَرُفِعُوا إلى الإمَامِ.
          فيه ابْنُ أبي أَوْفَى: (رَجَمَ النَّبيُّ صلعم، فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدُ(1)؟ قَالَ: لا أَدْرِي). وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَائِدَةِ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. [خ¦6840]
          فيه ابْنُ عُمَرَ: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاؤُوا إلى النَّبيِّ صلعم، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم: مَا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ في شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ على آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي على الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ). [خ¦6841]
          اختلف العلماء في إحصان أهل الذمَّة، فقالت طائفةٌ في الزوجين الكتابيَّين يزنيان ويرفعان إلينا: عليهما الرجم، وهما محصنان، هذا قول الزهريِّ والشافعيِّ، وقال الطحاويُّ(2): وروي عن أبي يوسف أنَّ أهل الكتاب يحصن بعضهم بعضًا، ويحصن المسلم النصرانيَّة، ولا تحصنه النصرانيَّة، واحتجَّ الشافعيُّ بحديث ابن عمر ((أنَّ النبيَّ صلعم رجم اليهوديَّين اللذين زنيا، وقال: إنَّما رجمهما(3) لأنَّهما كانا محصنين(4))).
          وقال النَّخَعِيُّ: لا يكونان محصنين حتَّى يجامعا بعد الإسلام. وهو قول مالكٍ والكوفيِّين، قالوا: الإسلام من شرط الإحصان، وقالوا في حديث ابن عمر: إنَّ رجم النبيِّ صلعم اليهوديين اللذين زنيا بحكم التوراة حين سأل الأحبار عن ذلك؛ إنَّما كان من باب تنفيذ الحكم عليهم بكتابهم التوراة، وكان ذلك أوَّل دخوله ◙ المدينة، ثمَّ نزل عليه القرآن بعد ذلك الذي نُسخ خطُّه وبقي حكمه، بالرجم لمن زنا، فليس رجمه اليهوديَّين من باب إحصان الإسلام في شيءٍ، وإنَّما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بالتوراة، وكان حكم التوراة الرجم(5) على المحصن وغير المحصن، وكان على النَّبيِّ صلعم اتِّباعه والعمل به؛ لأنَّ على كلِّ نبيٍّ اتِّباع شريعة النبيِّ الذي قبله حتَّى يحدث الله له شريعةً تنسخها، فرجم رسول الله صلعم اليهوديَّين على ذلك الحكم، ثمَّ نسخ الله تعالى ذلك بقوله: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ من نسائكم} إلى قوله {فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوفَّاهُنَّ المَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:15]فكان هذا(6) ناسخًا لما قبله، ولم يفرِّق في ذلك بين المحصن ولا غيره، ثمَّ نسخ ذلك بالآية التي بعدها، ثمَّ جعل الله لهنَّ سبيلًا، فقال رسول الله صلعم: ((خذوا عنِّي قد جعل الله لهنَّ سبيلًا؛ البكر بالبكر جلد مائةٍ(7) وتغريب عامٍ، والثيِّب بالثيِّب جلد مائةٍ والرجم))، ففرَّق حينئذٍ بين حدِّ المحصن وغير المحصن. هذا قول الطحاويِّ.
          ونزل بعد ذلك على النبيِّ صلعم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}[العنكبوت:51]، فلم يحكم بعد هذه الآية بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه إلَّا بالقرآن، إلَّا أنَّ العلماء اختلفوا في أهل الذمَّة إذا تحاكموا إلينا، فقالت طائفةٌ: الإمام مخيَّرٌ في ذلك إن شاء حكم بينهم، روي هذا عن ابن عبَّاسٍ وعطاءٍ والشَّعبيِّ والنخعيِّ، وهو قول مالكٍ وأحد قولي الشافعيِّ، وجعلوا قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}[المائدة:42]محكمةً غير منسوخةٍ.
          وقال آخرون: واجبٌ على الحاكم أن يحكم بينهم، وزعموا أنَّ قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ}[المائدة:49]ناسخٌ للتخيير في الحكم بينهم(8). روي هذا عن مجاهدٍ وعكرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقول الشافعيِّ الثاني. وتأوَّل الأوَّلون قوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ}[المائدة:49]إن حكمت.


[1] في (ت): ((بعده)).
[2] في (ت): ((والشافعي والطحاوي)).
[3] في (ت): ((رجمتهما)).
[4] في (ت): ((لأنهما محصنين)).
[5] في (ت): ((بالرجم)).
[6] في (ت): (({وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} إلى {الْبُيُوتِ.. أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] فجعل هذا)).
[7] قوله: ((جلد مائة)) ليس في (ت).
[8] في (ت): ((ناسخ للتخيير بينهم)).