عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}
  
              

          ░24▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:220]
          (ش) أَي: هذا بابٌ فِي ذكرِ قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ}، وقَالَ ابْنُ جرير: حَدَّثَنَا سُفْيَان بن وكيع: حَدَّثَنَا جريرٌ عن عطاء بنِ السائب عَن سَعِيد بن جُبَيْر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: لمَّا نزلت: {لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أََحْسَن}[الأنعام:152] و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...} الآية[النِّسَاء:10] انطلق مَن كان عنده يتيمٌ يعزل طعامهُ مِن طعامه، وشرابه مِن شرابه، فجعل يفضل له الشيء مِن طعامه، فيحبس له حَتَّى يأكله أو يفسد، فاشتدَّ ذَلِكَ عليهم، فذكروا ذَلِكَ لرَسُول الله صلعم فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم، وهكذا رواه أَبُو دَاوُدَ والنَّسائيُّ وابن أَبِي حَاتَمْ وابن مَرْدَوِيه والحاكم في «مستدركه» مِن طُرقٍ عَن عطاء بن السائب به، وكذا رواه عَلِيُّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وكذا رواه السُّدِّيُّ عن أَبِي مَالِكٍ وعن أَبِي صَالِح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعن مُرَّة عَنِ ابْنِ مسعود بمثله، وكذا رواه غير واحدٍ فِي سبب نزول هذه الآية؛ كمجاهد وعطاء والشَّعْبِيِّ وابن أَبِي ليلى وقَتَادَة، وغير واحدٍ مِنَ السلف والخلف.
          قَوْلُهُ: ({قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}) أَي: على حِدَة ({وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}) أَي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم؛ فلا بأس عليكم؛ لأَنَّهم إخوانكم فِي الدين؛ ولهذا قال: ({وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}) أَي: مَن يُعلَم مِن قصدِه ونيَّته الإفسادُ أو الإصلاح، ويقال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} أَي: فِي الطعام والشراب والسكنى واستخدام العَبِيد {فإخوانُكُم}، وقالوا لرَسُول الله: بقيت الغنم لا راعيَ لها، والطعام ليس له صانع؛ فنزلت، ونُسِخ ذَلِكَ.
          قوله: / ({وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ}) أَي: لو شاء لضيَّق عليكم وأحرجكم، ولكنَّه وسَّع عليكم وخفَّف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أَحْسَن، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: وعلى هذا اجتماع الرفقة فِي السفر على خلط المال، ثُمَّ اتِّخاذ الأطعمة به، وتناول الكلِّ منها مع وَهمِ التفاوت، فرخَّص لهم استدلالًا بهذه الآية.
          (ص) {لأَعْنَتَكُمْ} لأَحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ، {وَعَنَتْ} خَضَعَتْ.
          (ش) هذا تفسير ابن عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ ابن المنذر مِنْ طَرِيق عَلِيِّ بْن أَبِي طَلْحَة عنه، وزاد بعد قوله (ضيَّق) : عليكم، ولكنَّه وسَّع ويسَّر.
          قوله: ({لأَعْنَتَكُمْ}[البقرة:220]) مِن الإعْنات، واشتقاقه من العَنَت؛ بِفَتْحِ العين المُهْمَلة والنون وفي آخره تاء مُثَنَّاة مِن فوق، والْهَمْزَة فيه للتعدية؛ أَي: لأوقعكم فِي العَنَت، وهو المشقَّة، ويجيء بمعنى الفساد والهلاك والإثم والغلط والخطأ والزنى، كلُّ ذَلِكَ قد جاء، ويُستعمل كلُّ واحدٍ بحسب ما يقتضيه الكلام.
          قَوْلُهُ: ({وَعَنَتْ} خَضَعَتْ) ليس له دخلٌ هنا؛ لأنَّ التاء فيه للتأنيث، ومذكَّره (عَنَا) إذا خضع، وكلُّ مَن ذُلَّ وخضع واستكان؛ فقد عَنَا يَعْنُو، وهو عَانٍ، والمرأة عانِية، وجمعها (عَوان) وكأَنَّهُ ظَنَّ أنَّ التاء فِي (عَنَتْ) أصليَّة؛ فلذَلِكَ ذكَّره هنا عقيب قوله: ({لأَعْنَتَكُمْ}) وليس كذَلِكَ؛ لأنَّ التاء في {لأَعْنَتَكُمْ} أصليَّة، وقيل: لعلَّه ذكره استطرادًا، ولا يخفى عَن تعسُّف.