عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي وصية الرجل مكتوبة عنده
  
              

          ░1▒ (ص) باب قَوْلِ النَّبِيٍّ صلعم : «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ».
          (ش) أَي: هَذَا بابٌ فِي ما ورد مِن قولِ النَّبِيِّ صلعم : «وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»، ووقع فِي بعض النُّسَخ هكذا: <كتاب الوصايا، بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيمِ، [باب الوصايا وقولِ النَّبِيِّ صلعم : «وصيَّة الرجل مكتوبةٌ عنده»>، ووقع للنَّسَفِيٍّ: <بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيمِ]، كتاب الوصايا> ولم يقع فِي بعض النُّسَخ لفظ: (باب) ووقع كذا: <كتاب الوصايا، وقول النَّبِيِّ صلعم : «وصيَّة الرجل مكتوبة عنده»>.
          وَهَذَا تعليقٌ أسنده بعدُ؛ وهو قوله: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»، فكأَنَّهُ نقله معلَّقًا بالمعنى.
          وقَوْلُهُ: (وَصِيَّةُ الرَّجُلِ) مُبْتَدَأ، وقَوْلُهُ: (مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) خَبَرُه، والمعنى: وصيَّةُ الرجل ينبغي أن تكون مكتوبة عنده، وإِنَّما ذكره بِهَذِهِ الصورة قصدًا للمبالغة، وحثًّا على كتابَةِ الوصيَّة.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الْبَقَرَةُ:180-181].
          (ش) (وَقَوْلِ الله) بالجرِّ عطفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (قولِ النَّبِيِّ صلعم )، وفي بعض النُّسَخ: <وقال الله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} إلى آخره> وَهَذِهِ الآيات الثلاث مذكورةٌ هكذا عِنْدَ الأكثرين، وَعِنْدَ النَّسَفِيِّ الآية الأولى فقط.
          وَقوله: ({كُتِبَ عَلَيْكُمْ}) الآية اشتملت على الأمر بالْوَصِيَّة للوالدين والأَقْرَبِينَ، وقد كان ذلك واجبًا على أصحِّ القولين قبل نزول آية المواريث، فلمَّا نزلت / آية المواريث نسخت هَذِهِ، وصارت المواريث المقرَّرة فريضةً مِن الله، يأخذها أهْلوهَا حتْمًا مِن غير وصيَّةٍ ولا تحمُّل مانَّةِ الوصيِّ؛ ولهَذَا جاء فِي الْحَدِيث في «السُّنن» وغيرها عن عَمْرو بنِ خَارِجَة قال: سَمِعْتُ رَسُول الله صلعم يخطب وهو يقول: «إِنَّ الله قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وقال ابن أَبْي حَاتَم: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن مُحَمَّد بن الصَّبَّاحِ: حَدَّثَنَا حَجَّاج بنُ مُحَمَّد: أَخْبَرَنَا ابنُ جُرَيْج وعُثْمَان بن عَطَاء عن عَطَاء عَنِ ابْنِ عَبَّاس فِي قوله: الْوَصِيَّة للوالدَين والأَقْرَبِينَ نسختها هَذِهِ الآية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النساء:7] ثُمَّ قال ابن أبي حاتم: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وأبي مُوسَى وسَعِيد بن الْمُسَيَّب والْحَسَن ومُجَاهِدٍ وعَطَاء وسَعِيد بن جُبَيْر ومُحَمَّد بن سِيرِينَ وعِكْرِمَة وزَيْد بن أَسْلَمَ والرَّبِيع بن أَنَس وقَتَادَة والسُّدِّيِّ ومُقَاتِل بن حَيَّان وطَاوُوس وإِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ وشُرَيْح والضَّحَّاك والزُّهْريِّ: أنَّ هَذِهِ الآية مَنْسُوخَة، نسخَتْها آية المواريث، والعجبُ مِنَ الرازيِّ كيف حكى في «تفسيره الكبير» عَن أبي مُسْلمٍ الأَصْفَهَانِيِّ: أنَّ هَذِهِ الآية غير منسوخة! وإِنَّما هي مفسَّرة بآية المواريث، ومعناه: كُتِبَ عَليْكُمْ مَا أَوْصَى الله بِهِ مِن تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبيْنَ؛ مِنْ قَوْلِه: {يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلَادِكُمْ}[النساء:11] قال: وهُو قول أكثر المفسِّرين والمعتَبَرينَ مِنَ الفقهاء، قال: ومنهم مَن قال: إِنَّهَا منسوخةٌ فيمَن يرث، ثابتةٌ فيمَن لا يرث، وهو مَذْهَبُ ابن عَبَّاس والْحَسَن ومَسْرُوق والضَّحَّاك ومسلم بن يَسَار والعَلَاءِ بنِ زِيَادٍ، قال ابن كَثِير: وبه قال أَيْضًا سَعِيد بن جُبَيْر، والرَّبِيع بن أَنَس، ومُقاتِلُ بنُ حَيَّانَ، ولكن على قول هؤلاء لا يسمَّى نسخًا فِي اصطلاحنا المتأخِّر؛ لأنَّ آية المواريث إِنَّما رَفَعت حكم بعض أفراد ما دلَّ عليه عموم آية الْوَصِيَّة؛ لأنَّ الأَقْرَبِينَ أعمُّ ممَّن يرث ومَن لا يرث، فرفع حكمَ مَن يرث بما عيَّن له، وبقيَ الآخر على ما دلَّت عليه الآية الأولى، وَهَذَا إِنَّما يتأتَّى على قولِ بعضهم: إنَّ الوصاية فِي ابتداء الإسلام إِنَّما كانت ندبًا حَتَّى نُسِخَت، فأَمَّا مَن قال: إِنَّهَا كانت واجبة، وهو الظاهر مِن سياق الآية؛ فتعيَّن أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثرُ المفسِّرين والمعتَبَرونَ مِنَ الفقهاء، فإنَّ وجوب الْوَصِيَّة للوالدين والأَقْرَبِينَ الوارثين منسوخٌ بالإجماع، بل منهيٌّ عنه؛ للحديث المتقدِّم: «إِنَّ الله أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فآية المواريث حكمٌ مستقلٌّ، ووجوبٌ مِن عِنْدَ الله لأهل الفروض والعَصَبات، رُفِعَ بها حكم هَذِهِ بالكُلِّيَّة، بقيَ الأقارب الَّذِينَ لا ميراث لهم، يستحبُّ له أن يوصيَ لهم مِن الثلث؛ استئناسًا بآية الْوَصِيَّة وشمولها، والآيات والأحاديث بالأمرِ ببرِّ الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدًّا.
          قوله: ({إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}) أَي: مالًا، قاله ابن عَبَّاس، ومُجَاهِد، وعَطَاء، وسَعِيد بن جُبَيْر، وأَبُو الْعَالِيَة، وَعَطِيَّة الْعَوْفِيُّ، والضَّحَّاك، والسُّدِّيُّ، والرَّبِيع بن أَنَس، وَمُقَاتِلُ بنُ حَيَّانَ، وقَتَادَة وغيرهم، ثُمَّ منهم مَن قال: الْوَصِيَّة مشروعةٌ، سواءٌ قلَّ المال أو كَثُر؛ كالوراثة، ومنهم مَن قال: إِنَّما يوصي إذا ترك مالًا جزيلًا، ثُمَّ اختلفوا فِي مقداره؛ فقال ابن أبي حاتم بإسناده إلى عُرْوَة قال: قِيلَ لعليٍّ ☺ : إنَّ رجلًا مِن قُرَيْش قد مات وترك ثلاث مئة دينارٍ، أو أربع مئة دينار، ولم يوصِ، قال: ليس بشيءٍ إِنَّما قال الله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} وقال الحكَم بنُ أَبَان: حَدَّثَنِي عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} قال ابن عَبَّاس: مَن لم يترك ستِّين دينارًا لم يترك خيرًا، وقال الحَكَم: قال طَاوُوسُ: لم يترك خيرًا مَن لم يترك ثمانين دينارًا، وقال قَتَادَة: كان يقال: ألفًا، فما فوقها.
          قوله: ({بِالْمَعْرُوفِ}) أَي: بالرفق والإحسان، وقال الْحَسَن: المعروف أن يوصيَ لأقربيهِ وصيَّةً لا يُجْحِفُ بورثته، مِن غير إسرافٍ ولا تقتير.
          قوله: ({حَقًّا}) أَي: واجبًا ({عَلَى الْمُتَّقِينَ}) الَّذِينَ يتَّقون الشِّرْكَ.
          قوله: ({فَمَنْ بَدَّلَهُ}) أَي: فمَن بدَّل ما ذُكِرَ مِنَ الْوَصِيَّة ({بَعْدَما سَمِعَه})، والتبديل يكون بالتحريف وتغيير الحكم، وبالزيادة وبالنقصان أو بالكِتْمان، / وقال ابن عَبَّاس وغير واحدٍ: قد وقع أجر الميِّت على الله، وتعلَّق الإثمُ بالَّذِينَ بدلوا، ({إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}) أَي: قد اطَّلع على ما أوصى به الميِّت، وهو عليم بذلك، وبما بدَّله الموصَى إليهم.
          قوله: ({فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ}) أَي: فَمَن خَشِيَ، وَقِيلَ: عَلِمَ؛ لأنَّ الخوف مستعملٌ بمعنى العلم؛ كما فِي قوله: {وَأنْذِرْ [بِهِ] الَّذِينَ يَخَافُونَ}[الأنعام:51]، و{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ الله}[الْبَقَرَةُ:229]. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}[النساء:35].
          قوله: {مِنْ مُوصٍ} قرئ بالتَشْدِيدِ والتخفيف، و(الجَنَفُ) الْمَيل على ما نذكره عَن قريبٍ، وقرأ عليٌّ ☺ : {حَيْفًا} بالحاء الْمُهْمَلة وسكون الياء آخر الحروف والفاء.
          قوله: ({فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ}) أَي: بين الورثة والمختلفين فِي الْوَصِيَّة ({فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}) لأَنَّهُ متوسِّط، وليس بمبدِّلٍ ({إنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}) حيث لم يجعل على عباده حرجًا فِي الدين.
          (ص) {جَنَفًا} مَيْلًا، مُتَجَانِفٌ: مَائِلٌ.
          (ش) هَذَا مِن تفسير البُخَاريِّ، وهو منقولٌ عَن عَطَاء، رواه الطَّبَريُّ عنه بإسنادٍ صحيح.
          قوله: (مُتَجَانِفٌ: مَائِلٌ) كذا هو فِي رِوَايَة أَبِي ذَرٍّ، وفي رِوَايَة غيره: <مُتَمَايِلٌ> وقال أبو عُبَيْدة: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}[المائدة:3] أَي: غير متعوِّج مائل للإثم، ونقل الطَّبَريُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وغيره: أنَّ معناه: غيرَ مُتَعَمِّدٍ لإِثْم.