عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا وقف أو أوصى لأقاربه ومن الأقارب
  
              

          ░10▒ (ص) بابٌ إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لأَقَارِبِهِ، وَمَنِ الأَقَارِبُ.
          (ش) أَي: هَذَا بابٌ يُذكَر فيه: إذا وقف شخصٌ، وفي بعض النُّسَخ: <إذا أوقف> بزيادة ألفٍ فِي أوَّله، وهي لغةٌ قليلة، ويقال: لغة رديئة.
          قوله: (وَمَنِ الأَقَارِبُ؟) كلمة (مَنْ) استفهاميَّة، ولم يذكر جواب (إذا) لمكان الخلاف فيه، وقال الطَّحَاويُّ ☼: اختلف الناس فِي الرجل يوصي بثلث ماله لقرابة فلان، مَنِ القرابة الَّذِينَ يستحقُّون تلك الْوَصِيَّة؟ فقال أبو حَنِيفَةَ ☺ : هم كلُّ ذي رحمٍ مَحرَمٍ مِن فلان مِن قِبلِ أبيه، أو مِن قِبَل أمه.
          قُلْت: ولا يدخل الْوَالِدَانِ والولد، قال الطَّحَاويُّ: غير أنَّهُ يُبدَأ فِي ذلك مَن كانت قرابته منه مِن قِبَل أبيه على مَن كانت قرابته مِن قبل أمِّه، أَمَّا اعتبار الأقرب فلأنَّ الْوَصِيَّة أخت الميراث، وفيه يعتبر الأقرب فالأقرب، حَتَّى لو كان لفلان عَمَّانِ، وخَالَان فالْوَصِيَّة للعَمَّيْن، ولو كان له عمٌّ، وخالان، فللعمِّ النصف، وللخالين النصف، وأَمَّا اعتبار عدم دخول الْوَالِدَيْنِ والولد؛ فلأن الله تَعَالَى عطف الأَقْرَبِينَ على الْوَالِدَيْنِ، والمعطوف يغاير المعطوف عليه.
          فَإِنْ قُلْتَ: إذا لم يدخل الوالد والولد، فهل يدخل الجدُّ وولد الولد؟
          قُلْت: ذكر فِي الزيادات أنَّهما يدخلان، ولم يذكر فيه خلافًا، وذكر الْحَسَن بن زياد عن أبي حَنِيفَةَ: أنَّهما لا يدخلان، وهكذا رُوِيَ عن أبي يُوسُف، وهو الصحيح، وقال زُفَر: الْوَصِيَّة لكلِّ مَن قَرُبَ منه مِن قِبَلِ أبيه أو مِن قِبَل أمِّه دون مَن كان أبعد منهم، وسواءٌ فِي هَذَا بين مَن كان منهم ذا رحمٍ مَحرم، وبين مَن كان ذا رحمٍ غير محرمٍ، وقال أبو يُوسُف ومُحَمَّد: الْوَصِيَّة فِي ذلك لكلِّ مَن جمعه وفلانًا أبٌ واحدٌ منذ كانت الهجرة مِن قِبَل أبيه أو من قِبَلِ أمِّه، وقال قوم مِن أهل الْحَدِيث وجماعة مِنَ الظاهريَّة: الْوَصِيَّة لكلِّ مَن جمعه وفلانًا أبوه الرابع إلى ما هو أسفل مِن ذلك، وقال مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأَحْمَد: الْوَصِيَّة فِي ذلك لكلِّ مَن جمعه وفلانًا أبٌ واحدٌ فِي الإسلام أو فِي الجاهليَّة، وتحقيق مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ما ذكره النَّوَوِيُّ في «الروضة»: أوصى لأقارب زَيْد، دخل فيه الذكر والأنثى، والفقير والغنيُّ، والوارث وغيره، والْمَحْرم وغيره، والقريب والبعيد، والمسلم والكافر؛ لشمول الاسم، ولو أوصى لأقاربِ نفسه ففي دخولِ ورثته وجهان؛ أحدهما: المنع؛ لأنَّ الوارث لا يُوصَى له، فعلى هَذَا يختصُّ بالباقين، وبِهَذَا قطع المتولِّي ورجَّحه الغزاليُّ، وهو محكيٌّ عَنِ الصيدلانيِّ، والثاني: الدخول لوقوع الاسم، ثُمَّ يبطل نصيبهم ويصحُّ الباقي لغير الورثة، وهل يدخل فِي الْوَصِيَّة لأقارب زَيْد أصوله وفروعه؟ فيه أوجه؛ أصحُّها: عِنْدَ الأكثرين: لا يدخل الْوَالِدَانِ والأولاد، ويدخل الأجداد والاحفاد، والثاني: لا يدخل أحدٌ مِنَ الأصول والفروع، والثالث: يدخل الجميع، وبه قطع المتولِّي. /
          قُلْت: أمر الوقف فِي هَذَا كأمر الْوَصِيَّة، وقال الماورديُّ: تجوز الْوَصِيَّة لكلِّ مَن جاز الوقف عليه مِن صغيرٍ وكبيرٍ، وعاقل، ومجنون، وموجود، ومعدوم إذا لم يكن وارثًا ولا قاتلًا.
          (ص) وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم لأَبِي طَلْحَةَ: «اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ»، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ☻.
          (ش) مطابقته للترجمة ظاهرةٌ.
          وهو طرفٌ مِن حديثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن حاتم قال: حَدَّثَنَا بَهْز قال: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَةَ قال: حَدَّثَنَا ثابت عن أَنَسٍ ☺ قال: لمَّا نزلت هَذِهِ الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عِمْرَان:92] قال أَبُو طَلْحَةَ: أرى [ربَّنا يسألنا مِن أموالنا، فأشهدك يا رَسُول الله أنِّي جعلتُ أرضي] بِيْرَحَاءٍ للهِ، قال: فقال رَسُول الله صلعم : «اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ»، قال: فجعلها فِي حسَّان بن ثابت وأُبَيِّ بن كَعْب ☻.
          قوله: (اِجْعَلْهَا) الضمير المنصوب فيه يرجع إلى (أرضي بِيْرَحَاء) وقد بيَّنه كذا مسلمٌ في «صحيحه» لأنَّ المعلَّق المذكور قطعةٌ مِن حديث مسلمٍ، كما ذكرنا.
          و(أَبُو طَلْحَة) اسمه زَيْد بن سهل بن الأَسْوَد بن حرام بن عَمْرو بن زَيْد مناة بن عَدِيِّ بن عَمْرو بن مَالِك بن النَّجَّار النجاريُّ الأَنْصَارِيُّ، و(حَسَّانُ) ابن ثابت بن المنذر بن حرام بن عَمْرو... إلى النَّجَّار، واسم النَّجَّار: تَيْم اللَّاتِ بن ثعلبة بن عَمْرو بن الخزرج، الخزرجيُّ الأَنْصَارِيُّ، و(أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) ابن المنذر، ويقال: كَعْب بن قيس بن عُبَيْد بن زَيْد بن مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن مَالِك بن النَّجَّار، فيجتمع أَبُو طَلْحَةَ وحسَّان وأُبَيُّ بن كَعْبٍ فِي عَمْرو بن مَالِك بن النجَّار، ويجتمع أَبُو طَلْحَةَ وحسَّان فِي حرام بن عَمْرٍو جدِّ أبوَيهما، على ما يجيء الآن إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى.
          2751م# (ص) وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ، قَالَ: «اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي، وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانَ وَأُبَيٍّ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَحَسَّانُ ابْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ يَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ، وَهْوَ الأَبُ الثَّالِثُ، وَحَرَامُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَهْوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ وأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهْوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا.
          (ش) (الأَنْصَارِيُّ) هو مُحَمَّد بن عَبْد الله بن المُثَنَّى _بِضَمِّ الميم وفتح الثاء المُثَلَّثة وفتح النون الْمُشَدَّدَة_ ابن عَبْد الله بن أَنَس بن مَالِك، هو يروي عَن (أَبِيهِ) عَبْد الله المذكور، وعَبْدُ الله يروي عن عمِّه (ثُمامَة) بِضَمِّ الثاء المُثَلَّثة وتخفيف الميم، ابن عَبْد الله بن أَنَس، وهو يروي عن جدِّه (أَنَس) ابن مَالِك، وَهَذَا الإسناد كلُّه بَصريُّون وأَنَسِيُّون، والبُخَاريُّ روى عَنِ الأَنْصَارِيِّ كثيرًا.
          قوله: (مِثْلَ حَدِيثَ ثَابِتٍ) وهو المذكور الآن، اختصره البُخَاريُّ هنا، ووصله فِي (تفسير آل عِمْرَان) مختصرًا أَيْضًا عقيب رِوَايَة إِسْحَاق بن أَبِي طَلْحَةَ عن أَنَسٍ فِي هَذِهِ القصَّة، قال: حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ _فذكر هَذَا الإسناد_ قال: فجعلها لِحَسَّان وأُبِيٍّ _وكانا أقرب إليه_ ولم يجعل لي منها شيئًا، وسقط هَذَا القدر مِن رِوَايَة أَبِي ذَرٍّ، وقد أَخْرَجَهُ الطَّحَاويُّ: حَدَّثَنَا ابن مَرْزُوقٍ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْد الله الأَنْصَارِيُّ قال: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَن أَنَسٍ قال: لمَّا نزلت هَذِهِ الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عِمْرَان:92] _قال: أو قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا}[الْبَقَرَةُ:245]_ جاء أَبُو طَلْحَةَ فقال: يا رَسُول الله؛ حائطي الَّذِي بمكان كذا وكذا للهِ تَعَالَى، ولو استطعتُ أن أُسرَّه لم أعلنه، فقال: «اجْعَلْهُ فِي فُقُرَاءِ قَرَابَتِكَ أَوْ فُقُرَاءِ أَهْلِكَ»، حَدَّثَنَا ابن مَرْزُوق قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْد الله قال: حَدَّثَنِي أبي عن ثمامة قال: قال أَنَسٌ ☺ : كانت لأَبِي طَلْحَةَ أرضٌ فجعلها للهِ ╡ ، فأتى النَّبِيُّ صلعم فقال له: «اجْعَلْها فِي فُقُرَاءِ قَرَابَتِكَ» فجعلها لحسان وأُبَيٍّ، قال أَبِي: عَن ثمامة عن أَنَس قال: وكانا / أقرب إليه منِّي انتهى؛ أَي: كان حسَّان وأُبَيُّ بن كَعْب أقرب إلى أَبِي طَلْحَةَ مِن أَنَس بن مَالِك؛ لأنَّهما يَبْلغان إلى عَمْرٍو بواسطة ستَّة أنفس، وأَنَس يبلغ إليه بواسطة اثني عشر نفسًا؛ لأنَّ أَنَس بن مَالِك بن النَّضر _بِفَتْحِ النون وسكون الضاد الْمُعْجَمة_ ابن ضَمْضَم _بِفَتْحِ الضادين المعجمتين_ ابن زَيْد بن حَرام _ضد حلال_ ابن جُنْدُب بن عامر بن غَنْم _بِفَتْحِ الغين الْمُعْجَمة وسكون النون_ ابن عَدِيِّ بن عَمْرو بن مَالِك بن النجَّار.
          قوله: (وَكَانَ قَرَابَة حَسَّان...) إلى آخره: مِن كلام البُخَاريِّ، أو مِن كلام شيخه، وليس مِن الْحَدِيث.
          قوله: (وَاسْمُهُ) أَي: اسم أَبِي طَلْحَةَ.
          قوله: (حَرَامٍ) ضدُّ (حلال) كما ذكرنا.
          قوله: (زَيْدَ مَنَاةٍ) بالإضافة، قَالَ الكَرْمَانِيُّ: ليس بين زَيْدٍ وبين مناة «ابن»؛ لأَنَّهُ اسمٌ مركب منهما.
          قوله: (ابْنُ النَّجَّارِ) وقد ذكرنا أنَّ اسمه تيم اللَّات، وإِنَّما سُمِّي النجَّار؛ لأَنَّهُ اختتن بالقدوم، وَقِيلَ: ضرب وجه رجلٍ بقدومٍ فنجره، فقِيلَ له: النَّجَّار.
          قوله: (إِلَى حَرَامٍ) وهو الأب الثالث؛ يعني: لأَبِي طَلْحَةَ، ووقع هنا في رِوَايَة أَبِي ذَرٍّ: <وحرام بن عَمْرو> وساق النسب ثانيًا إلى النَّجَّار، وهو زيادة لا معنى لها.
          قوله: (فَهُوَ يُجَامِعُ حَسَّانَ) أَي: الشأن أنَّ حسان وأُبَيًّا يُجامع أَبَا طَلْحَةَ، قاله الكَرْمَانِيُّ، وليس بشيءٍ، والصواب: أنَّ لفظ (هو) يرجع إلى عَمْرو بن مَالِك، والمعنى: عَمْرو بن مَالِك يجمع حسَّان وأَبَا طَلْحَةَ وأُبَيًّا، هكذا وقع فِي رِوَايَة المُسْتَمْلِي، وكذا وقع فِي رِوَايَة أبي داود في «السنن»، وقال: بلغني عَن مُحَمَّد بن عَبْد الله الأَنْصَارِيِّ أنَّهُ قال: أَبُو طَلْحَةَ هو زَيْد بن سهل، فساق نسبه، ونسب حسَّان بن ثابت وأُبِيَّ بن كَعْب كما تَقَدَّمَ، ثُمَّ قال: قال الأَنْصَارِيُّ: فبين أَبِي طَلْحَة وأُبَيِّ بن كَعْبٍ ستَّة أباء، قال: وعَمْرو بن مَالِكٍ يجمع حسَّانًا وَأُبَيًّا وأَبَا طَلْحَةَ، وَالله أَعْلَمُ، وكذا قال البُخَاريُّ، فعَمْرو بن مَالِك يجمع حسانَ وأَبَا طَلْحَةَ وأُبَيًّا، ♥ .
          (ص) وَقَالَ بَعْضُهْمْ: إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهْوَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإِسْلَامِ.
          (ش) أراد به أبا يُوسُف صاحب أَبِي حَنِيفَةَ.
          قوله: (إِلَى آبَائِهِ فِي الإِسْلَامِ) أَي: إلى آبائه الذِينَ كانوا فِي الإسلام، وقد مرَّ فِي أَوَّل الباب اختلاف العلماء فيه، ومُحَمَّد بن الْحَسَن مع أَبي يُوسُف.