عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح}
  
              

          ░22▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا. لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النِّسَاء:6-7] {حَسِيبًا} يَعْنِي: كَافِيًا.
          (ش) فِي رِوَايَة الأصيليِّ وكريمة سِيق مِنْ قَوْلِهِ: <{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النِّسَاء:6-7]> وفي رِوَايَة أَبِي ذر مِنْ قَوْلِهِ: <{فإن آنستم منهم رشدًا..} إلى آخرها> أعني: إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}.
          قَوْلُهُ: ({وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}) أَي: اختبروهم، قاله ابن عَبَّاسٍ ومجاهدٌ والْحَسَن والسُّدِّيُّ ومقاتل بن حيَّان.
          قَوْلُهُ: ({حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}) قال مجاهدٌ: يعني: الحُلْم، وقال الْجُمْهُور مِنَ العلماء: البلوغ فِي الغلام تارةً يكون بالحُلْم؛ وهو أن يرى فِي منامه ما ينزل به الماء الدافق الَّذِي يكون منه الولد، وقد روى أَبُو دَاوُدَ في «سننه» عن عَلِيِّ / بْن أَبِي طالبٍ ☺ قال: حفظت مِن رَسُول الله صلعم : «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ»، أَوْ يَسْتَكْمِلَ خَمْسَ عَشَرَة سنة، وأخذوا ذَلِكَ مِن حديث عَبْد الله بن عُمَر قال: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلعم يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابنُ أَرْبَع عَشْرة، فَلَمْ يُجِزْنِي، وعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فأَجَازَنِي.
          قَوْلُهُ: ({رُشْدًا}) أَي: صلاحًا فِي دينهم وحفظًا لأموالهم، كذا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد والْحَسَن البَصْريِّ وغير واحدٍ مِنَ الأئِمَّة.
          قَوْلُهُ: ({وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا}) يعني: مِن غير حاجة ضروريَّة إسرافًا ومبادرة قبل بلوغهم، والخطابُ للأولياء والأوصياء، وانتصاب {إِسْرَافًا وبدارًا} على الحال؛ أَي: مسرفين ومبادرين.
          قَوْلُهُ: ({أَنْ يَكْبَرُوا}) أَي: حذرًا مِن أن يُكْبَروا؛ أَي: يبلغوا ويلزموكم بالتسليم إليهم.
          قَوْلُهُ: ({فَلْيَسْتَعْفِفْ}) أَي: بماله عَن مالِ اليتيم، يقال: اسْتَعْفَفَ وعَفِّ؛ إذا امتنع، ويقال: معناه مَن كان فِي غُنْيَة عَن مال اليتيم فليَتَعَفَّف عنه، وقال الشَّعْبِيُّ: هو عليه كالميتة والدم.
          قَوْلُهُ: ({وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}) وقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتَمْ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سَعِيدٍ الأصبهانيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن مُسْهِر عن هشامٍ عن عَائِشَة قالت: أُنزِلت هذه الآية فِي والي اليتيم: {مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بقدر قيامه عليه، وقال الإمام أَحْمَد: حَدَّثَنَا عبد الوَهَّاب: حَدَّثَنَا حُسين عن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبيه عَن جدِّه: أنَّ رجلًا سأل رَسُول الله صلعم فقال: لَيْسَ لِي مَالٌ وَلِي يَتِيمٌ، فقال: «كُلْ مِنْ مَالِ يِتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُبَذِّرٍ، وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالًا، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَقِيَ مَالَكَ، أَوْ قَالَ: تَفْدِي مَالَكَ»، وفي كيفيَّة الأكل بالمعروف أن يأكلَ بأطراف أصابعه ولا يسرف، ولا يَلبس مِن ذَلِكَ، قاله السُّدِّيُّ، وقال النَّخَعِيُّ: لا يلبس الكتان ولا الْحُلَل، ولكن ما يستر العورة، ويأكل ما يَسُدُّ الجوعة، وقيل: هو أن يأكل مِن ثمر نخله، ولبن مواشيه، ولا قضاء عليه، فأَمَّا الذهب والفضَّة فلا، فإن أخذ منه شيئًا فلا بُدَّ أن يردَّه عليه، قاله الْحَسَن وجماعة، وقال القرطبيُّ: إن كان غنيًّا فأجره على الله، وإن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف، ويُنزِّل نفسه منزلةَ الأجير فيما لا بُدَّ له، وقال عُمَر بن الخَطَّاب ☺ : نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ الله بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ، وقال الفقهاء: لَهُ أَنْ يَأكُل أَقَلَّ الأَمْرَيْنِ أجرة مِثْله، أَوْ قَدْرَ حَاجَتِهِ، واختلفوا: هَل يَرُدُّ إِذَا أَيْسَرَ؟ على قولين عِنْدَ الشَّافِعِيَّة؛ أحدهما: لا؛ لأَنَّهُ أَكَلَ بِأُجْرَة عَمَلِهِ، وَكَانَ فَقِيرًا، وهذا هو الصَّحِيح عندهم؛ لأنَّ الآيةَ أَبَاحَتِ الأَكْلَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وقَالَ ابْنُ وَهبٍ: حدَّثني نَافِع بن أَبِي نُعَيْم القارئ: قال: سألت يَحْيَى بن سَعِيد الأَنْصَارِيَّ ورَبِيعَة عَن قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَا: ذَلِكَ فِي اليتيم إن كان فقيرًا أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للوليِّ منه شيءٌ، وذكر ابن الجوزيِّ أنَّ هذه الآية محكمةٌ، وقيل: منسوخة بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، ولا يصح ذَلِكَ.
          قُلْت: القائل بأنَّها منسوخة زيد بن أسلم.
          قَوْلُهُ: ({فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}) يعني: بعد بلوغهم الحُلْمَ، وإيناس الرشد، والإشهاد مِن باب الندب خوف الإنكار منهم، وقيل: إنَّ الإشهاد منسوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} أَي: شهيدًا أو كافيًا مِنَ الشهود، وهذا قول أَبِي حَنِيفَة: إنَّ القول قول الوصيِّ فِي الدفع، وقيل: معناه: عالمًا، وقيل: محاسِبًا، وقيل: مجازيًا، والباء في {كَفَى بِاللهِ} صلة، و{حَسِيبًا} منصوب على الحال، وقيل: على التمييز.
          قَوْلُهُ: ({لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}) قال سَعِيد بن جُبَيْر وقَتَادَة: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ للرِّجَال الْكِبَارِ، وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الأَطْفَالَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} وفي «خلاصة البيان»: مَاتَ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ، وَتَرَكَ ثَلاثَ بَنَاتٍ وَامْرَأَةً، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ فَأَخَذَا مَالَهُ، وَلَمْ يُعْطِيَا امْرَأَتَهُ وَلَا بَنَاتِهِ شَيْئًا، فَجَاءَتِ امْرَأَتُهِ / إِلَى النَّبِيِّ صلعم ، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَكَانُوا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ مِمَّنْ طَاعَنَ بِالرمحِ، وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، فَأَبْطَلَ الله ذَلِكَ، فأرسل النَّبِيُّ صلعم إِلَيْهِمَا، وقَالَ: «لَا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أَوْسٍ شَيْئًا، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيبًا»، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمُ هُوَ حَتَّى أَنْظَرَ مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللهُ} الآية، قال الذهبيُّ: أُمُّ كَجَّة زَوْجَةُ أَوْس بْنِ ثَابِتٍ، فِيهَا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ أَيْضًا: قُتِلَ أَوْسٌ يَوْمَ أُحُدٍ ☺ .
          قَوْلُهُ: ({مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ}) أَي: الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الله تَعَالَى، يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الوراثةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ الله لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِمَا يُدْلِي بِهِ إِلَى الْمَيِّتِ؛ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ زَوْجَةٍ، أَوْ وَلَاءٍ؛ فَإِنَّهُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ.
          قَوْلُهُ: ({مَفْرُوضًا}) أَي: مُقَدَّرًا.
          قَوْلُهُ: ({حَسِيبًا} يَعْنِي: كَافِيًا) كَذَا وَقَعَ للأكثرين، وسقط لفظ (يعني) فِي رِوَايَة أَبِي ذرٍّ.
          (ص) وَمَا لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ.
          (ش) فِي بعض النُّسَخ: <باب ما للوصيِّ...> إلى آخره، وفي رِوَايَة الأكثرين: <وما للوصيِّ> وفي رِوَايَة أَبِي ذرٍّ: <وللوصيِّ أن يعمل...> إلى آخره، بدون كلمة (ما)، ورِوَايَة أَبِي ذرٍّ تدلُّ على أنَّ (ما) غير نافية؛ لأنَّ الوصيَّ له البيعُ والشِّراء فِي مال اليتيم بما يتغابن الناس فِي مثله، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس؛ لأنَّ الولاية نظريَّة، ولا نظر فيه، ولا يتَّجر فِي مال اليتيم؛ لأنَّ الْمُفَوَّضَ إليه الحفظُ دون التجارة.
          قَوْلُهُ: (بِقَدْرِ عَمَالَتِهِ) بِضَمِّ العين المُهْمَلة وتخفيف الْمِيمِ، وهي رزق العامل؛ أَي: بقدرِ حقِّ سَعْيِه وأجر مثله.