عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا وقف شيئا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائز
  
              

          ░13▒ (ص) بابٌ إِذَا وَقَفَ شَيْئًا فَلَم يَدْفَعْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ فَهُوَ جَائِزٌ.
          (ش) أَي: هَذَا بابٌ يُذكَر فيه: إذا وقف شخص وقفًا فَلَم يدفعه إلى غيره، بأن لم يُخرجه مِن يده؛ فهو جَائز؛ يعني: صحيح لا يحتاج إلى قبض الغير، وهو قول الْجُمْهُور منهم الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، وقالت طائفة: لا يصحُّ الوقف حَتَّى يخرجه عَن يده، ويُقبِضَه غيرَه، وبه قال ابن أبي ليلى ومُحَمَّد بن الحسن، وحجَّة الْجُمْهُور: أنَّ عُمَرَ وعَلِيًّا وفاطمة، ♥ ، أوقفوا أوقافًا، وأمسكوها بأيديهم، وكانوا يصرفون الانتفاع منها فِي وجوه الصدقة، فلم تبطل، واحتجُّ الطَّحَاويُّ أَيْضًا بأنَّ الوقف شَبِيهٌ بالعتقِ؛ لاشتراكهما فِي أنَّهما تمليكٌ للهِ تَعَالَى، فينفذ بالقول المجرَّد عَنِ القبض، ويفارق الهبة؛ فَإِنَّها تمليكٌ لآدميٍّ، فلا يتمُّ إلَّا بالقبض.
          (ص) لأنَّ عُمَرَ ☺ أَوْقَفَ فَقَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ.
          (ش) هذا تعليلٌ لِقَوْلِهِ: (فهو جائز)، قيل: فيه نظرٌ؛ لأنَّ غاية ما ذكر عَن عمر هو أنَّ كلَّ مَن وَلِيَ الوقف أُبِيحَ له التناول، ولا يلزم مِن ذلك أنَّ كلَّ أحدٍ يسوغ له أن يتولَّى الوقف المذكور، بل الوقف لا بُدَّ له مِن متولٍّ.
          وأجيب: بأنَّ عمر لمَّا وقف، ثُمَّ شرط لم يأمره النَّبِيُّ صلعم أن يخرجه مِن يده، فكان سكوته عَن ذلك دالًّا على صحَّة الوقف، وإن لم يقبضه الموقوف عليه.
          (ص) قَالَ النَّبِيُّ صلعم لأَبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ»، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
          (ش) أراد بهذا أَيْضًا الاحتجاجَ على عدمِ اشتراط القبض فِي جواز الوقف، وهذا قد تَقَدَّمَ موصولًا قريبًا، قال الداوديُّ: ما استدلَّ به البُخَاريُّ على صحَّة الوقف قبل القبض مِن قصَّة عُمَرَ وأَبِي طَلْحَةَ حملٌ للشيء على ضدِّه، وتمثيله بغير جنسه، ودفعٌ للظاهر عَن وجهه؛ لأَنَّهُ هو روى أَنَّ عُمَرَ دفع الوقف لابنته، وأنَّ أَبَا طَلْحَةَ دفع صدقته إلى أُبَيِّ بن كَعْبٍ / وحسَّان.
          وأجيب بأنَّ البُخَاريَّ إِنَّما أراد أنَّهُ صلعم أخرج عَن أَبِي طَلْحَةَ ملكه بمجرَّد قوله: هِيَ للهِ صَدَقَة، وبهذا يقول مالكٌ: إنَّ الصدقة تلزم بالقول، وإن كان يقول: إِنَّهَا لا تتمُّ إلَّا بالقبض، ونوزع فِي ذلك باحتمال أنَّها خَرَجَت مِن يد أَبِي طَلْحَةَ، واحتمال أنَّها استمرَّت فلا دلالة فيها، ودُفِع بأنَّ أَبَا طَلْحَةَ أطلق صدقة أرضه وفوَّض إلى النَّبِيِّ صلعم مَصْرِفَها فلمَّا قال له: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» ففوَّض له قسمتها بينهم، صار كأَنَّهُ أقرَّها فِي يده بعد أن مضت الصدقة.
          قُلْت: وفي نفس الْحَدِيث أنَّ الَّذِي تولَّى قسمتها هو أَبُو طَلْحَةَ بنفسه، والنَّبِيُّ صلعم عيَّن له جهة المَصْرِف لكنَّه أَجْمَلَ؛ لأَنَّهُ قال: «فِي الأَقْرَبِينَ» وهذا مجملٌ، ولمَّا لم يمكن له أن يقسمَها على الأَقْرَبِينَ كلِّهم لكثرتهم وانتشارهم فقسمها على بعضهم ممَّن اختار منهم.