مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله

          ░10▒ باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات / الله
          فيه حديث عائشة قالت: ما خير رسول الله صلعم بين أمرين.. الحديث.
          يحتمل كما قال ابن بطال أن يكون هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يخير رسوله بين أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد، وإلا اختار لهم أيسرهما ما لم يكن عليهم في الأيسر إثماً؛ لأن العباد غير معصومين من ارتكاب الإثم، ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثماً في أمور الدين، وذلك أن الغلو في الدين مذموم، والتشديد فيه غير محمود؛ لقوله ◙: ((إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)) فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئاً شاقًّا من العبادة ثم لم يقدر على التمادي فيه، كان ذلك إثماً، ولذلك نهى الشارع أصحابه عن الترهب. قال أبو قلابة: بلغ رسول الله أن قوماً حرموا الطيب واللحم، منهم عثمان بن مظعون، وابن مسعود، وأرادوا أن يختصوا، فقام على المنبر فأوعد في ذلك وعيداً شديداً، ثم قال: ((إني لم أبعث بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة، وإن أهل الكتاب إنما هلكوا بالتشديد، شددوا فشدد عليهم)).
          وقد جعل مطرف بن الشخير، ويزيد بن مرة الجعفي مجاوزة القصد في العبادة وغيرها والتقصير عنه سيئة، فقالا: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان. إحداهما: مجاوزة القصد، والثانية: التقصير عنه، والحسنة التي بينهما هي: القصد والعدل.
          وقدم ابن التين على هذين الاحتمالين أنه قيل: إنه يريد في أمر الدنيا، وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثواباً، واستدل قائل هذا بقوله: (ما لم يكن إثماً). وفي رواية: (ما لم يكن يأثم).
          قولها: (ما انتقم لنفسه) قال الداودي: يعني: إذا أوذي بغير السبب الذي [لا] يخرج إلى الكفر، مثل الأذى في المال والجفاء في رفع الصوت فوق صوته، ونحو التظاهر الذي تظاهرت عليه عائشة وحفصة، ومثل جبذ الأعرابي الرداء حتى أثرت حاشية البرد في عنقه أخذاً منه بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} الآية [الشورى:43]، وأما [إذا] أوذي بسب فهو كفر وهو انتهاك حرمة الله فيجب عليه الانتقام لنفسه؛ كفعله في ابن خطل يوم الفتح، حين تعوذ بالكعبة من القتل، فأمر بقتله دون سائر الكفار؛ لأنه كان يكثر من سبه، وقد أمر بقتل القينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه وانتقم لنفسه؛ لأنه من سبه فقد كفر ومن كفر فقد آذى الله ورسوله؛ ولذلك قال: ((من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله)) فانتقم منه لذلك.
          قال المهلب: ولا يحل لأحد من الأئمة ترك حرمات الله أن تنتهك، وعليهم تغيير ذلك.
          وقيل: المراد بقول عائشة السالف الأموال؛ لأنها روت خبر لد وأكل من كان في البيت إلا العباس فإنه لم يحضر معهم واعتزل نساءه شهراً تواطأت عليه عائشة وحفصة، وقتل عقبة بن أبي معيط يوم بدر من بين الأسرى. وقيل: أرادت أنه لم يكن ينتقم لنفسه غالباً، حكاهما ابن التين.
          وروي عن مالك أنه قال كان القاسم بن محمد يحلل من ظلمه يكره لنفسه الخصوم وكان ابن المسيب لا يحلل أحداً.