مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة

          ░5▒ باب ما يكره من لعن الشارب
          فيه حديث عمر أن رجلاً كان على عهد رسول الله اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك(1) رسول الله، وكان رسول الله صلعم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، الحديث.
          وحديث أبي هريرة: أتي رسول الله بسكران.. الحديث.
          قوله: (اسمه عبد الله) أسلفنا أنه النعيمان. قال الدمياطي: وما هنا وهم، وقد أسلفنا في الباب الماضي أن المراد من قوله: ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) الإيمان الكامل؛ لأن الشارع شهد له بحب رسول الله وبالإسلام، وسماه أخاً فيه وأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة / .
          فإن قلت: فقد لعن ◙ شارب الخمر وجماعات معه، ولعن كثيراً من أهل المعاصي، منهم من ادعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، ولعن المصور وجماعات يكثر عددهم، قيل: لا تعارض، ووجه لعنته لأهل المعاصي، يريد الملازمين لها غير التائبين منها؛ ليرتدع بذلك من فعلها وسلوك سبيلها، والذي نهى عن لعنه هنا قد كان أخذ منه حد الله الذي جعله مطهراً له من الذنوب، فنهى عن ذلك؛ خشية أن يوقع الشيطان في قلبه أن من لعن بحضرته ولم يغير ذلك ولا نهى عنه، فإنه مستحق العقوبة في الآخرة وإن نالته في الدنيا فينفره بذلك ويغويه، وقيل: إنما أراد أن لا تلعنوه في وجهه، والذي لعن الشارع إنما لعن الجنس لا على معنى الإرداع ولم يعين أحداً، وذهب (خ) إلى نحو هذا، وأنه إن لم يسمه جاز لعنه؛ لأنه بوب باب: لعن السارق إذا لم يسم، كما سيأتي. وأتى بحديث أبي هريرة: ((لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل)).
          وفيه جواز إضحاك العالم والإمام بنادرة يندرها، وأمر يعني به عن الحق لا شيء من الباطل.
          قوله: (كان يلقب حماراً) لعله كان لا يكره ذلك اللقب، وكان قد اشتهر به.
          قال والدي ⌂:
          (كتاب الحدود) (باب لا يشرب الخمر).
          قوله: (أبو بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث المخزومي راهب قريش ولا يشرب الخمر، قال ابن مالك: هذا مما حذف فاعله، و(النهبة) بفتح النون مصدر وبضمها المال المنهوب؛ يعني: لا يأخذ الرجل مال غيره قهراً وظلماً وهم ينظرون إليه ويتضرعون ويبكون ولا يقدرون على دفعه.
          فإن قلت: ما فائدة ذكر رفع الأبصار؟ قلت: إخراج مثل الموهوب المشاع والموائد العامة فإن رفعها لا يكون عادة إلا في الغارات ظلماً صريحاً.
          فإن قلت: كلمة حين متعلقة بما قبلها أو ما بعدها؟ قلت: يحتملهما أي: لا يشرب في أي حين كان إذ وهو مؤمن حين يشرب.
          وفيه تنبيه على جميع أنواع المعاصي؛ لأنها إما بدنية كالزنا أو مالية إما سرًّا كالسرقة أو جهراً كالنهب أو عقلية كالخمر، فإنها مزيلة له، واحتج المعتزلة به على أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً كما أنه ليس كافراً.
          وأجيب: بأنه من باب التغليظ لما ثبت أن المعصية لا تخرج الشخص عن التصديق الذي هو الإيمان أو معناه نفي الكمال أو فعله مستحلًّا أو ينزع منه نور الإيمان كما قال ابن عباس أو المراد منه الإنذار بزوال الإيمان إذا اعتاده فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه مر الحديث في كتاب المظالم.
          و(سعيد) هو ابن المسيب، و(إلا النهبة) أي لم يذكر حكم الانتهاب بل أخواته الثلاث فقط أو لم يذكر لفظ النهبة مع صفتها، بل لا ينتهب حين ينتهب وهو مؤمن.
          قوله: (آدم بن أبي إياس) بتخفيف التحتانية وبالمهملة، و(الجريد) السعف رطبه أو يابسه والذي يقشر من خوصه.
          قوله: (ابن أبي مليكة) مصغر الملكة عبد الله، و(عقبة) بضم المهملة وسكون القاف وبالموحدة ابن الحارث القرشي المكي، و(النعمان) بضم النون ابن عمرو الأنصاري، ويقال له نعيمان مصغراً وشك الراوي في أنه النعيمان أو ابن النعيمان كان مزاحاً يضحك رسول الله صلعم.
          روي أنه جاء أعرابي وأناخ ناقته فقيل لنعيمان لو نحرتها فأكلنا ويغرم رسول الله صلعم ثمنها فنحرها فخرج الأعرابي فصاح واعقراه يا محمد فقال صلعم: ((من فعله؟)) فقالوا النعيمان فضحك ◙ وغرم ثمنها وله حكايات.
          وقال في ((الاستيعاب)): أنه كان رجلاً صالحاً، وكان له ابن انهمك في شرب الخمر فجلده النبي صلعم، وقال في موضع آخر أظن النعيمان هو الذي جلد في الخمر أكثر من خمس مرات، مر الحديث في باب الوكالة في الحدود.
          قوله: (وهيب) مصغراً ابن خالد، و(مسلم) بفاعل الإسلام ابن إبراهيم البصري، و(هشام) أي: الدستوائي اختلفوا في قدر حد الخمر فقال الشافعي: أربعون وللإمام أن يبلغ ثمانين على سبيل التعزير لتعرضه للقذف وأنواع / الإيذاء ونحوه، وقال الآخرون: ثمانون.
          قوله: (أبو جمرة) بفتح المعجمة وسكون الميم وبالراء، أنس الليثي أي: الأسدي، و(يزيد) بالزاي ابن عبد الله بن أسامة بن الهاد، و(لا تعينوا عليه الشيطان) فإنه يريد خزيه وأنتم إذا دعوتم عليه بالخزي فقد عاونتم الشيطان، أو فإنه إذا دعي عليه بحضرته صلعم ولم ينه عنه ينفر عنه أو لأنه يتوهم أنه مستحق لذلك فيوقع الشيطان في قلبه وساوس.
          قوله: (خالد) ابن الحارث البصري، و(سفيان) هو الثوري، و(أبو حصين) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية عثمان، و(عمير) مصغر عمر بن سعيد النخعي مات سنة خمس عشرة ومائة لم يتقدم ذكره وفي بعضها بدون الياء وهو سهو قاله الغساني.
          قوله: (فيموت) بالنصب، و(أحد) بالرفع، و(وديته) أي: أعطيت ديته وغرمتها وهو بتخفيف الدال، و(لم يسنه) أي: الضرب بالسياط أو فوق الأربعين.
          النووي: أي لم يقدر فيه حدًّا مضبوطاً وأجمعوا على أن من وجب عليه الحد فجلد فمات فلا دية فيه ولا كفارة لا على الإمام ولا على الجلاد ولا في بيت المال.
          قوله: (مكي) منسوب إلى مكة المشرفة، و(الجعيد) مصغر الجعد بالجيم والمهملتين ابن عبد الرحمن، و(يزيد) بالزاي ابن عبد الله ابن خصيفة مصغر الخصفة بالمعجمة وبالمهملة والفاء الكوفي، و(السائب) بالهمز بعد الألف ابن يزيد من الزيادة، و(إمرة) بكسر الهمزة؛ أي: إمارة يعني: خلافته، و(عتوا) بالفوقانية، جاوزوا الحد.
          قوله: (خالد بن يزيد) بالزاي الجحمي الفقيه، و(سعيد) ابن أبي هلال الليثي، و(زيد بن أسلم) مولى عمر بن الخطاب، و(عبد الله) هو الملقب بالحمار وكان يهدي إلى النبي صلعم العكة من السمن والعكة من العسل فإذا جاء صاحبها يتقاضاه وجاء به وقال يا رسول الله أعط هذا ثمن متاعه فما يزيد رسول الله صلعم على أن يتبسم ويأمر به فيعطى ثمنه.
          قوله: (ما أكثر) فيه دلالة على تكرره منه.
          فإن قلت: لا تلعنوه معارض بما روي أنه صلعم لعن شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها؟ قلت: هذا كان لعنة على معين وذلك على غير معين كقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، أو هذا بعد التكفير بالحد، وذلك قبله أو هذا للتأمين وذلك للملازمين.
          وفيه جواز الإضحاك.
          قوله: (والله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) فإن قلت: ما موصولة لا نافية فكيف وقع جواباً للقسم؟ قلت: جوابه أنه يحب الله وهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو ما علمتُهُ منه والجملة معترضة بين القسم وجوابه أو ما نافية ومفعول علمت محذوف.
          قوله: (علي) هو ابن المديني، و(أنس) بفتح الهمزة والنون ابن عياض بكسر المهملة وخفة التحتانية وبالمعجمة، و(يزيد) بالزاي ابن الهاد المتقدمان آنفاً مع الحديث.
          الزركشي:
          (ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد) بالنصب فيهما.
          (إلا صاحب الخمر) بالنصب على الأفصح.
          (لم يسنه) بفتح أوله.
          (كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً) قيل: هذا وهم وإنما اسمه النعيمان، وقد سبق في الباب قبله على الصواب.
          (فو الله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) بتاء المتكلم مضمومة، و((أنه)) بفتح الهمزة، ومعناها الذي علمت، أو لقد علمت، وليست نافية، و((أنه)) وما بعده في موضع المفعول بـ(علمت) ووقع عند بعضهم بكسر الهمزة، وقيل: إنه وهم يحيل المعنى بضده ويجعل ((ما)) نافية، وعند ابن السكن: ((علمت)) بتاء المخاطب على طريق التقرير له، ويصح على هذا كسر ((إن)) وفتحها.
          وقال أبو البقاء: / فيه وجهان:
          أحدهما: أن تكون ((ما)) زائدة، أي: فوالله علمت أنه، والهمزة على هذا مفتوحة.
          والثاني: أن لا تكون زائدة ويكون المفعول محذوفاً؛ أي: علمت عليه أو به سوءاً، ثم استأنف فقال: إنه يحب الله ورسوله، انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          الحدود هي محارم الله وعقوباته التي قرنها بالذنوب وأصل الحد المنع والفصل بين السنن وكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام، فمنها ما لا تقرب كالفواحش المحرمة، ومنه قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187].
          ومنها: ما لا يتعدى كالمواريث المعينة وتزويج الأربع، ومنه قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا(2)}.
          قوله: (عبد الله) وكان يلقب حماراً قال الدمياطي: هذا وهم واسمه النعمان كما تقدم.


[1] في المخطوط: ((يصحب)) ولعل الصواب ما أثبتناه
[2] في هامش المخطوط: في (ط): تعتدوها.