نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعًا

          ░20▒ (باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ) بفتحات والعين مهملة، وهي وقتُ صلاةِ العشاء الأخيرة، وقال الخليل: هي اسم لثُلثِ اللَّيل بعد غيبوبة الشَّفقِ، وأعتم إذا دخل في العتمة، والعَتم الإبطاء، يُقال: / أعتمَ الشيء وعتَّمه إذا أخَّره، وعَتَمَت الحاجة وأَعْتَمت، إذا تأخَّرت (وَمَنْ رَآهُ) أي: رأى إطلاق اسم العتمة على العشاء (وَاسِعاً) أي: جائزاً، وإنَّما غاير المصنِّف بين هذه التَّرجمة والتي قبلها مع أن سياق الحديثين الواردين فيهما واحد وهو النَّهي عن غلبة الأعراب على التَّسميتين؛ لأنَّه لم يَثبُت عن النَّبي صلعم إطلاق اسم العشاء على المغرب، وثبتَ عنه إطلاق اسم العَتَمة على العِشاء فتصرَّف المصنِّف في التَّرجمتين بحسب ذلك.
          وقد اختلفَ السَّلفُ في ذلك فمنهم مَنْ كرهه كابن عمرَ ☻ ، وقد مرَّ حديثه قبيل هذه التَّرجمة [خ¦562]، وزاد الشَّافعيُّ في روايته فيه: وكان ابن عمر ☺ إذا سمعهم يقولون: العتمة صاح وغضب، ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصِّدِّيق ☺ وغيره، ومنهم مَنْ جعلَهُ خلافَ الأولى وهو الرَّاجح وسيأتي للمُصَنِّف [في شرح هنا الباب]، وكذا نقله ابن المُنذر عن مالك والشَّافعي واختاره.
          ونقلَ القُرطبيُّ عن غيره: إنَّما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشرعيَّة الدِّينيَّة عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيويَّة وهي الحَلَبة التي كانوا يحلبونها ذلك الوقت ويسمُّونها العتمة.
          وذكر بعضهم أن تلك الحَلَبة إنما كانوا يعتملونها في زمان الجَدْب خوفاً من السُّؤَّال والصَّعاليك، فعلى هذا هي فِعْلَة دنيويَّة مكروهة لا تطلق على فعلة دينيَّة محبوبة.
          وقال الطَّبري: العَتَمة بقيَّة اللَّبَن تَغْبق بها الناقةُ بعد هوًى من الليل، فسمِّيت الصلاة بذلك؛ لأنَّهم كانوا يصلُّونها في تلك السَّاعة، وروى ابن أبي شيبة من طريق ميمون بن مِهْرَان قال: قلت لابن عمر ☺: من أوَّل من سمَّى صلاة العشاء العتمة؟ قال: الشَّيطان.
          (قَالَ) وفي رواية: <وقال> (أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺، وهذا شُروعٌ في إيرادِ أطراف أحاديث محذوفة الأسانيد كلها صحيحة مخرَّجة في أمكنةٍ أخرى حاصلها ثبوت تسمية هذه الصَّلاة تارةً عتمة، وتارة عشاء، وأمَّا الأحاديث الَّتي لا تسمية فيها، بل فيها إطلاق الفعل كقوله: أعتم النَّبي صلعم ففائدة إيراده الإشارة إلى أنَّ النَّهي عن ذلك إنَّما هو لإطلاق الاسم لا لمنع تأخير الصَّلاة عن أوَّل الوقت.
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ) / لأنه وقت راحة البدن، وقد وَصله المؤلِّفُ في باب فضل العشاء جماعة.
          (وَقَالَ) أي: النَّبي صلعم أو أبو هريرة ☺: (لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ) أي: لأتوهما ولو حبواً، فسمَّى النَّبي صلعم هذه الصَّلاةَ تارة عشاء، وتارة عتَمة، وقد وصَلَه المؤلِّفُ في باب الأذان [خ¦615] والشَّهادات [خ¦2689].
          (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هو البخاري نفسه: (وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ الْعِشَاءُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) وفي رواية: <لقول الله تعالى> ({وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ}) [النور:58] وكأنَّه اقتبس ممَّا ثبت أنَّه صلعم قال: ((لا تغلبنَّكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء)).
          وقال ابن المنيِّر: هذا لا يتناوله لفظ التَّرجمة، فإن لفظ التَّرجمة يفهم منه التَّسوية، وهذا ظاهر في التَّرجيح.
          وأُجيب عنه: بأنَّه لا تُنَافي بين الجواز والأولويَّة، فالشَّيئان إذا كانا جائزي الفعل قد يكون أحدهما أولى من الآخر، وإنَّما صار عنده أولى لموافقته لفظ القرآن، ويترجَّح أيضاً بأنَّه أكثر ما وَرَدَ عن النَّبيِّ صلعم ، وبأنَّ تسميتها عشاء يُشْعِر بأوَّل وقتها بخلاف تسميتها عتمة فإنه يُشْعِرُ بخلافِ ذلك، على أنَّا لا نسلم أنَّ لفظ التَّرجمة يُفْهَمُ منه التَّسوية غاية ما في الباب أنَّه يُفْهم منه الخلاف، ومن نقل الخلاف لا يمتنع عليه أن يختار.
          (وَيُذْكَرُ) على البناء للمفعول (عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعري ☺ (قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ صلعم ) أي: نأتي نوبة بعد نوبة (عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا) أي: أخَّرها حتَّى اشتدَّت ظلمة اللَّيل.
          وهذا التَّعليق وَصَله المؤلِّفُ في باب فضل العشاء مُطوَّلاً، ولفظه فيه: فكان يتناوب النَّبيَّ صلعم عند صلاة العشاء كلَّ ليلةٍ نفرٌ منهم، فوافقنا النَّبي صلعم أنا وأصحابي وله بعض الشُّغل في أمره فأعَتَم بالصَّلاة، الحديثَ، وكأنَّه لم يجزم به لأنَّه اختصر لفظه.
          نبَّه على ذلك الشَّيخ الحَافِظُ أبو الفَضْل، وأجاب به مَن اعترض على ابن الصَّلاح حيث فرَّق بين الصِّيغتين، وقال: إنَّ تعليقاتِ البُخَاريِّ التي تُذْكر بصيغة التَّمريض لا تكون صحيحة عنده.
          وحاصل الجواب: أنَّ صيغة الجزم تدلُّ على القوَّة، وصيغة التَّمريض لا تدلُّ (1)، ثمَّ بيَّن مناسبة العُدُولِ في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحَّته إلى التَّمريض بأنَّ البخاري ☼ قد يفعل ذلك لمعنىً غير التَّضعيف، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى، وكذا الاقتصار على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه وإن كان المؤلِّف يرى الجواز.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (وَعَائِشَةُ) ♦ / : (أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلعم بِالعَتَمَةِ) أي: أخَّر صلاة العَتَمة أو أبطأ بها؛ وقوله: (بِالْعِشَاءِ) بدل من قوله: «بالعتمة».
          أمَّا حديث ابن عبَّاس ☺ فوَصَلَه المؤلِّفُ في باب النَّوم قبل العشاء ولفظه فيه: قلت لعطاء: فقال سمعتُ ابن عبَّاسٍ ☻ يقول: ((أعتم رسول الله صلعم ليلةً بالعشاء حتَّى رقد النَّاس...)) [خ¦571] الحديثَ.
          وأمَّا حديثُ عائشةَ ♦ فوصله المؤلِّف في باب فضل العشاء ولفظه: عن عروة، أنَّ عائشة ☺ أخبرته: أعتم رسول الله صلعم ليلة بالعشاء [خ¦566].
          وكذلك وَصَله في باب النَّوم قبل العشاء عن عروة: أنَّ عائشة ☺ قالت: أعتم رسول الله صلعم بالعشاء... الحديثَ [خ¦569].
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) يُرْوَى (عَنْ عَائِشَةَ) ♦: (أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلعم بِالْعَتَمَةِ) أي: دخل في وقت العتمة، وقد وصَلَه المُؤلِّف في باب خروج النِّساء إلى المساجد باللَّيل، من طريق شُعَيبٍ عن الزُّهريِّ عن عُرْوة فيها [خ¦864] وأخرجه النَّسائي أيضاً بهذا الطريق، ولمَّا ذكر المُؤلِّفُ ☼ ثلاث تعليقات عن ثلاثة من الصَّحابة وهم أبو موسى الأشعري، وابن عبَّاسٍ، وعائشةَ ☺ وفيها ذكر العَتَمة وأعتم: شرع يذكر عن خمسة من الصَّحابة ☺ تعليقات أخرى فيها ذكر العشاء فقال:
          (وَقَالَ جَابِرٌ) أي: ابن عبد الله الأنصاريُّ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي الْعِشَاءَ) أي: أحياناً وأحياناً، وهذا طرف من حديث وصله المؤلِّف في باب وقت المغرب [خ¦560]، وفي باب وقت العشاء مطوَّلاً [خ¦565] (وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ) الأسْلَميُّ ☺: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ) وهذا طرف من حديث وَصَلَه المؤلِّفُ في باب وقت العصر [خ¦547] الذي مضى قبلَ هذا الباب بستَّة أبواب من حديث سيَّار بن سلامة.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) أي: ابن مالك ☺: (أَخَّرَ النَّبِيُّ صلعم الْعِشَاءَ الآخِرَةَ) وهذا طرف من حديث وصله المؤلِّف مطوَّلاً في باب وقت العشاء إلى نصف اللَّيل [خ¦572] (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطَّاب ☻ (وَ) قال (أَبُو أَيُّوبَ) الأنصاريُّ خالد بن زيد الخزرجي ☺.
          (وَ) قال (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (صَلَّى النَّبِيُّ صلعم الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) أمَّا حديث ابن عمر ☺ فوَصَله المؤلِّف في الحج [خ¦1673] بلفظ: ((صلَّى النَّبي صلعم / المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً)).
          وأما حديث أبي أيُّوب فوصله أيضاً بلفظ: ((جمع النَّبي صلعم في حجَّة الوداع بين المغرب والعشاء)) [خ¦1674]. وأمَّا حديث ابن عبَّاس ☻ فوَصَلَه في باب تأخير الظُّهر إلى العصر [خ¦543] كما تَقدَّم، وكذا أسنده أبو داود وابن ماجه.


[1] في هامش الأصل: قوله: وصيغة التمريض لا تدل: وإنما قال: لا تدلُّ، ولم يقل: يدلُّ على الضَّعف؛ لأنها قد تدلُّ على معنى غير التضعيف عند البخاري كما هاهنا. منه.