نجاح القاري لصحيح البخاري

باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام

          ░18▒ (باب) جواز (دُخُولِ) أرض (الْحَرَمِ وَ) دخول (مَكَّةَ) وهو من باب عطف الخاص على العام؛ لأنَّ المراد بمكة هنا البلد والحرم أعم (بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) لمن لم يرد الحجَّ والعمرة (وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ مكة حال كونه (حلالاً) بغير إحرامٍ.
          وهذا التَّعليق وصله مالك في «الموطأ» عن نافع قال: أقبلَ عبد الله بن عمر ☻ من مكَّة حتى إذا كان بقُديد _بضم القاف_ جاءه خبرٌ عن الفتنة، فرجع فدخل مكَّة بغير إحرامٍ.
          وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن عليِّ بن مسهرٍ، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله وبلغه بقديد أنَّ جيشاً من جيوش الفتنة دخلوا / المدينة، فكره أن يدخلَ عليهم فرجع إلى مكة، فدخلها بغير إحرام.
          قال البخاريُّ: (وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلعم بِالإِهْلاَلِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ) أي: لم يذكر النبيُّ صلعم الإهلال؛ أي: الإحرام، وفي رواية: <ولم يذكر> بدون ضمير المفعول.
          (لِلْحَطَّابِينَ) أي: الَّذين يجلبون الحطب إلى مكة لبيع (وَغَيْرِهِمْ) بالجرِّ عطفاً على السابق المجرور باللام، وفي رواية أبي ذرٍّ: <ولم يذكر الحطابين وغيرهم> بالنصب عطفاً على المفعول السابق، والمراد بالغير من يتكرَّر دخوله كالحشاشين والسَّقائين.
          وأشار المؤلف ☼ بهذا إلى أنَّ مذهبه أنَّ من دخل مكة من غير أن يريد الحج أو العمرة فلا شيء عليه. واستدلَّ على ذلك بمفهوم حديث ابن عبَّاس ☻ ممَّن أراد الحج والعمرة، ومفهوم هذا أنَّ المتردد إلى مكة من غير قصد الحجِّ أو العمرة لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا الباب:
          فقال ابن القصَّار: واختلف قول مالك والشَّافعي في جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لا يريد الحج والعمرة فقالا مرَّة: لا يجوز دخولها إلَّا بالإحرام لاختصاصها ومباينتها لجميع البلدان إلَّا الحطَّابين، ومن قرب منهما مثل جدَّة والطائف وعسفان لكثرة تردُّدهم إليها، وبه قال أبو حنيفة والليث. وعلى هذا فلا دم عليه، نصَّ عليه في المدونة. وقالا مرَّة أخرى: دخولها به مستحبٌّ لا واجب، انتهى.
          قال العينيُّ: ومذهب الزُّهري والحسن البصريِّ والشَّافعي في قولٍ ومالكٍ في رواية وابن وهب وداود بن علي وأصحابه الظَّاهرية: أنَّه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرامٍ.
          ومذهب عطاء بن أبي رباح واللَّيث بن سعد والثَّوري، وأبي حنيفة وأصحابه، ومالك في رواية، وهي قوله الصَّحيح، والشَّافعي في المشهور عنه، وأحمد، وأبي ثور، والحسن بن حيٍّ أنَّه لا يصلح لأحدٍ كان منزله من وراء الميقات أن يدخل مكة إلَّا بإحرام، فإن لم يفعلْ أساءَ ولا شيءَ عليه عند الشَّافعي وأبي ثور، وعند أبي حنيفة عليه حجَّة أو عمرة.
          وقال أبو عمر: لا أعلم خلافاً بين فقهاء الأمصار في الحطَّابين ومَن يُدْمِنُ الاختلافَ إلى مكة، ويكثره في اليوم واللَّيلة أنَّهم لا يؤمرون بذلك لما عليهم فيه من المشقَّة.
          وقال ابنُ وهب / عن مالك: لست آخذُ بقول ابن شهابٍ في دخول الإنسان مكَّة بغير إحرامٍ.
          وقال مالك: إنَّما يكون ذلك على مثل ما عمل به عبد الله بن عمر ☻ من القرب إلَّا رجلاً يأتي بالفاكهةِ من الطَّائف أو ينقل الحطب يبيعه، فلا أرى بذلك بأساً قيل له: فرجوع ابن عمر ☺ من قُديد إلى مكة بغير إحرامٍ، فقال: ذلك أنَّه جاءه خبرٌ من جيوش المدينة، والله أعلم.
          والحاصل: أنَّ المشهور من مذهب الشَّافعي فيمن يدخلُ مكة غير مريدٍ للحجِّ أو العمرة عدم وجوب الإحرام عليه مطلقاً، وفي قول يجب مطلقاً، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب، وفي رواية عن كلٍّ منهم أنَّه لا يجب، والله أعلم.