الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من رأى النبي في المنام

          ░10▒ (باب: مَنْ رأى النَّبيَّ صلعم في المنام)
          بسط الحافظ الكلام على شرح حديث الباب، وقال في آخره: والحاصل مِنَ الأجوبة ستَّة: أحدها: أنَّه على التَّشبيه والتَّمثيل، دلَّ عليه قوله في الرِّواية الأخرى: ((فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ)). ثانيها: أنَّ معناها: سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التَّعبير. ثالثها: أنَّه خاصٌّ بأهل عصره ممَّن آمن به قبل أن يراه. رابعها: أنَّه يراه في المرآة الَّتي كانت له إن أمكنه ذلك، وهذا مِنْ أبعد المَحامل. خامسها: أنَّه يراه يوم القيامة بمزيدِ خصوصيَّة. سادسها: أنَّه يراه في الدُّنْيا حقيقة، ويخاطبه، وفيه ما تقدَّم مِنَ الإشكال.
          ثمَّ ذكرَ الحافظُ معنيين آخرين زائدين(1) على تلك السِّتَّة نقلا عن القُرْطُبيِّ، فارجع إليه لو شئت. ويمكن عندي في معناه: أنَّه بشارة لتوفيق زيارة قبره صلعم، واستنبطت هذا المعنى مِنْ حديث ابن عمر مرفوعًا: ((مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِى(2) كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي)) والله تعالى أعلمُ بالصَّواب.
          وقالَ الحافظُ أيضًا في شرح قوله صلعم: (وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيطان بي): وفي رواية: ((لا يَتَمَثَّلَ في صُورَتِي))، وفي رواية: ((إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ بي))، وفي رواية: ((فَإِنَّ الشَّيطان لَا يَتَكَوَّنُنِي)) قالَ الحافظُ: والجميعُ راجع إلى معنًى واحدٍ، وقوله: (لا يستطيع) يشير إلى أنَّ الله تعالى، وأن(3) أمكنه مِنَ التَّصوُّر في أيِّ صورة أراد فإنَّه لم يمكنه مِنَ التَّصوُّر في صورة النَّبيِّ صلعم، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث: إنَّ محلَّ ذلك إذا رآه الرَّائي على صورته الَّتي كان عليها، ومنهم مَنْ قال: لا بدَّ أن يراه على صورته الَّتي قُبض عليها حَتَّى يعتبر عدد الشَّعرات البِيض الَّتي لم تبلغ عشرين شعرةً، والصَّواب التَّعميم في جميع حالاته بشرط أن تكون صورتها الحقيقيَّة في وقتٍ ما سواءٌ كان في شبابه أو رجوليَّته أو كهوليَّته أو آخر عمره [الشَّريف]، وقد يكون لِما خالف ذلك تعبيرٌ يتعلَّق بالرَّائي.
          وقالَ الحافظُ أيضًا في موضع آخر: قالَ النَّوويُّ: قالَ عِياضٌ: يحتمل أن يكون المراد مَنْ رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقًّا، ومَنْ رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويلٍ.
          قالَ الحافظُ: ظاهر قول عياض أنَّه يراه في الحقيقة حالين(4) لكن في الأولى تكون الرُّؤيا ممَّا لا يحتاج إلى تعبير، والثَّانية ممَّا يحتاج إلى التَّعبير، قالَ ابنُ العربيِّ: الصَّحيح أنَّه يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها. انتهى ملخَّصًا مِنَ «الفتح».
          وقال شيخنا الكَنكَوهيُّ قُدِّس سِرُّه كما في «هامش اللَّامع» عن «الكوكب الدُّرِّيِّ»: ذهب المتقدِّمون إلى أنَّ ذلك حيث رآه في الحِلية الَّتي هي حلية آخرِ عمره صلعم، وقال الآخرون: بل كلُّ حلية النَّبيِّ صلعم سواء كان حلية آخر عمره أو غير ذلك، وذهب المتأخِّرون_وهو الحقُّ_ إلى أنَّ الرَّائي لمَّا رآه ╧ في أيِّ حليةٍ كانت وعَلم بالقرائن أنَّه النَّبيُّ صلعم فهو هو لا غيره، سواء رآه على حليته المنقولة عنه أو لا، والاختلاف فيه حينئذٍ يرجع إلى اختلاف حال الرَّائي بحسب إيمانه ونيَّاته وأموره الباطنيَّة. انتهى.
          قلت: قد اختَلف في ذلك مشايخُنا الدِّهْلويَّةُ على ثلاثة أقوال: الأوَّل: قول الشَّاه رفيع الدِّين قُدِّس سِرُّه: إنَّ مَنْ رآه صلعم على هيئته المعروفة بلا تغيُّر أصلًا فهو مصداق الحديث، حَتَّى أن(5) لو في لحيته صلعم كانت عشرون شعرة بيضاء، وهو رأى إحدى وعشرين مثلًا فلم يره صلعم، ووجه ذلك أنَّ الصَّحابة الَّذِين حكوا رؤياهم النَّبيَّ صلعم، فكانت الصَّحابة يسألونهم عن صفة رؤياهم، فإذا طابقت صفة النَّبيِّ صلعم الَّتي رأَوها صدَّقوا / الرُّؤيا، وإلَّا كذَّبوا. والثَّاني: قول شيخ المشايخ عبد العزيز نوَّر الله مرقده: إنَّ رؤيته صلعم في أيِّ هيئة كانت، كانت رؤيته صلعم في الواقع ونفس الأمر إذا شهد قلب الرَّائي في الرُّؤيا أنَّه صلعم. والقول الثَّالث: قول الشَّاه محمَّد إسحاق المهاجر المكِّيِّ: إنَّه رؤيته صلعم إذا كانت في هيئة أتقياء زمانه، فهو رؤيا حقٍّ، وإلَّا فلم يره صلعم. انتهى معرَّبًا وملخَّصًا مِنْ كتابِ «أرواح ثلاثة».
          ثمَّ إنَّه قد يختلج هاهنا إشكال، أشار إليه وإلى الجواب عنه الشَّيخ الكَنكَوهيُّ في «اللَّامع» حيث قال: ولعلَّ الوجه في أنَّ الشَّيطان لا يتكوَّن بصورته صلعم، ويقدر على تخييل الرَّائي صورة الرَّبِّ تبارك وتعالى أنَّه صلعم رحمةٌ محضة وهداية بحتة، فلا يقدر الشَّيطان أن يتصوَّر به لكونه إضلالًا محضًا وغواية صِرفة بخلاف الرَّبِّ سبحانه، فإنَّ ذاته تعالى قد اندمجت فيها جملة صفات الجلال والجمال، فمنه الهداية والرَّشاد، ومنه الإبعاد والإضلال، فلكلِّ صفة مِنَ الصِّفات ومنها الإضلال انتسابًا إليه، فلم يكن بينهما غاية البعد كما كان هاهنا. انتهى.
          ثم هاهنا اختلاف آخر، وهو إمكان رؤيته صلعم بعد وفاته في الدُّنْيا في اليقظة، وهو بحث طويل ذكرها [الشَّيخ]ابن حجَر المكِّيُّ في «الفتاوى الحديثيَّة»، وللسُّيوطيِّ فيه رسالة «تنوير الحَلَك في رواية(6) النَّبيِّ والمَلَك»، وقد وقع لكثير مِنَ المشايخ كما ذكر بعضها الشَّعْرانيُّ في «الميزان».
          وفي «البذل»: وقد نصَّ على وقوع ذلك كرامة الأولياء خلقٌ مِنَ الأمَّة كحجَّة الإسلام الغزاليِّ وابن العربيِّ وعزِّ الدِّين. انتهى. كذا في «هامش اللَّامع».


[1] في (المطبوع): ((زائداً)).
[2] قوله: ((بعد موتي)) ليس في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((وإن)).
[4] في (المطبوع): ((يراه حقيقة في الحالين)).
[5] في (المطبوع): ((إن)).
[6] في (المطبوع): ((رؤية)).