الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من رأى الهبة الغائبة جائزة

          ░10▒ (باب: مَنْ رَأَى الهِبَة الغَائِبَة جَائِزة)
          قالَ العلَّامةُ العينيُّ: الهبة الغائبة أي: الَّتي تُوهب، لأنَّ نفس الهبة مصدر، فلا يوصف بالغَيبة.
          وفي «الفيض»: أراد مِنَ الهبة الشَّيء الموهوب، والمعنى أنَّ هبة الشَّيء جائزة، وإن كان غائبًا مِنَ المجلس، أو كان الموهوب له أيضًا غائبًا، وحاصله أنَّه لا يشترط لصحَّة الهبة حُضُور الموهُوب له أو الشَّيءِ الموهُوب. انتهى.
          قلت: ويتفرَّع عليه أنَّ القبض لا يشترط لصحَّة الهبة كما هو مختار المصنِّف، والمسألة خلافيَّة ستأتي في (باب: إذا وهب هبة أو وعد...) إلى آخره.
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ بعد ذكر الحديث: ومراد المؤلِّف منه هنا قوله صلعم: (وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ منكم أَنْ يُطَيِّبَ ذلك فَلْيَفْعَلْ) مع قولهم: ((طيَّبنا لك))، ففيه أنَّهم وهبوا ما غنموا(1) مِنَ السَّبي قبل أن يُقْسَم، وذلك في معنى الغائب وتركهم إيَّاه في معنى الهبة، كذا قرَّره في «فتح الباري» وفيه مِنَ التَّعسُّف ما لا يخفى، وإطلاق التَّرك على الهبة بعيد، وزعم ابن بطَّالٍ أنَّ فيه دليلًا على أنَّ للسُّلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان في ذلك مصلحة، وتعقَّبه ابن المنيِّر بأنَّه لا دليل فيه على ذلك بل في نفس الحديث أنَّه صلعم لم يفعل ذلك إلَّا بعد تطييب نفوس المالكين، ولا يسوغ للسُّلطان نقل أملاك النَّاس وكلُّ أحدٍ أحقُّ بماله، وتعقَّبه ابن الدَّمامينيِّ مِنَ المالكيَّة فقال: لنا في المذهب صورة ينقل فيها السُّلطان مِلك الإنسان جبرًا كدار ملاصقة للجامع الَّذِي احتيج إلى توسعته لكنَّه لا ينقل إلَّا بالثَّمن. انتهى.
          كتب الشَّيخ في «اللَّامع»: ولا يمكن الإيراد بذلك على مَنْ وقف تمامها على القبض فإنَّ الهبة جائزة عنده / إلَّا أنَّها لم تتمَّ بعد، أو يكون ما ورد في الرِّواية عدة فلا يرد الَّذِي أوردتم. انتهى.
          قلت: إنَّ كلام الشُّرَّاح هاهنا نصٌّ في أنَّه صلعم ردَّ سبي هوازن قبل القسمة، وسيأتي في (باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة) مِنْ قوله: (وقد وهب النَّبيُّ صلعم وأصحابه لهوازن ما غنموا منهم، وهو غير مقسوم) ويشكل على هذا ما يأتي في المغازي في هذه القصَّة في باب قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التَّوبة:25] وفيه قوله: (قد اسْتَأْنَيْت بكم)، أي: أخَّرت قَسْم السَّبْي لتَحْضُروا فأَبْطَأتم حتَّى ظننت أنَّكم لا تقدمون، وقد قسمت السَّبي. انتهى.
          ففيه تصريح بأنَّ ردَّ السَّبايا كان بعد القسمة، ولم يتعرَّض لذلك الشُّرَّاح هاهنا بل كلُّهم متظافرون(2) على أنَّ ردَّها كان قبل القسمة، وعليه بنَوا كلامهم في شروح التَّراجم، اللَّهمَّ إلَّا أن يقال: إنَّ هذا مبنيٌّ على اختلاف الرِّوايات، فقد تقدَّم في كتاب الوكالة في (باب: إذا وهب شيئًا لوكيل أو شفيع قوم) عن العلَّامة العينيِّ أن ردَّ سَبْيِهم إليهم كان قبل القسمة عند ابن إسحاق وعند غيره بعدها. انتهى مِنْ «هامش اللَّامع» مختصرًا.


[1] في (المطبوع): ((غنموه)).
[2] في (المطبوع): ((متضافرون)).