التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القسامة

          ░░22▒▒ كِتَابُ الْقَسَامَةِ
          وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ ☺: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ).
          وهذا سلف عندَه مسندًا [خ¦2515] [خ¦2669].
          ثمَّ قال: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ ☺).
          وهذا قال ابنُ المنذِر فيه: رُوِّينا عن مُعَاويَةَ وابنِ عَبَّاسٍ ☺ أنَّهما قالا: القَسَامةُ تُوجب العَقْل ولا تُشيطُ الدَّم. قال البَيْهَقِيُّ: رُوِّينا عن مُعَاويَةَ خلافَه.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: قولُه: (لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ) لا حُجَّةَ فيه مع خلافِ السُّنَّة له والخلفاءِ الرَّاشدين الَّذين أقادوا بها، أو يحتمل أنْ تكون المسألةُ لا لَوْثَ فيها، وقد صحَّ عن مُعَاويَةَ أنَّه أقادَ بها، ذَكَرَ ذلك أبو الزِّنَاد في احتجاجِه على أهلِ العراق. قال: وقال لي خَارِجةُ بنُ زيدِ بن ثابتٍ: نحن واللهِ قَتَلْنَا بالقَسَامَةِ وأصحابُ رسولِ الله صلعم متوافرون، إنِّي لأرى يومئذٍ ألفَ رجلٍ أو نحوَ ذلك فما اختَلف منهم اثنانِ في ذلك.
          قال البَيْهَقِيُّ: وأصحُّ ما رُوِيَ في القَتْلِ بالقَسَامةِ وأعلاهُ بعدَ حديث سَهْلٍ: ما رواه عبدُ الرَّحمن بنُ أبي الزِّنَادِ عن أبيه قال: حدَّثَنِي خَارِجةُ بن زَيْدِ بنِ ثابتٍ قال: قَتَلَ رجلٌ مِن الأنصار وهو سكرانُ رجلًا مِن بني النَّجَّار، ولم يكن على ذلك شهادةٌ إلَّا لَطْخٌ وشُبْهَةٌ، فاجتمعَ رأيُ النَّاسِ على أن يحلِفَ ولاةُ المقتول، ثمَّ يسلَّمَ إليهم فيقتلوه. قال خَارِجةُ: فَرَكِبْتُ إلى مُعَاويَةَ فقصَصْتُ عليه القصَّةَ، فكتبَ إلى سعيد بن العاصِ: إنْ كان ما ذكرنا حقًّا أنْ يُحَلِّفَنا على القاتلِ ثمَّ يُسَلِّمَهُ إلينا، فجئتُ إلى سعيدٍ بالكِتابِ فأحْلَفَنا خمسين يمينًا ثمَّ سلَّمه إلينا.
          قال أبو الزِّنَاد: وأمرني عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ فردَدْتُ قَسامةً على سبعةِ نفرٍ أو خمسةِ نفرٍ.
          ثمَّ ساقه البَيْهَقِيُّ بإسنادِه إليه قال: وَرُوِّيناه مِن وجِهٍ آخرَ عن ابنِ أبي الزِّنَادِ عن أبيه مِن غيرِ ذِكْرِ مُعَاويَةَ وسَعِيدٍ، غيرَ أنَّه قال: وفي النَّاسِ يومَئذٍ الصَّحابةُ وفقهاءُ النَّاسِ ما لا يُحصى، وما اختلف اثنانِ منهم أنْ يحلِفَ ولاةُ المقتولِ أنْ يَقتلوا أو يَسْتَحْيُوا فحلفوا خمسين يمينًا فَقَتَلُوا، وكانوا يُخبِرون أنَّ رسول الله صلعم ((قضى بالقَسَامة)) وَرُوِّينا عن عُمَرَ ☺ أنَّه قال: القَسامةُ تُوجِب العَقْلَ ولا تُشيطُ الدَّمَ، وهو عن عُمَرَ منقطعٌ.
          ورَوَى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن وَكِيعٍ عن حمَّادِ بن سَلَمَةَ عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ أنَّ ابنَ الزُّبَيرِ وعُمَرَ بنَ عبدِ العزيز أقادا بالقَسَامةِ. وحدَّثنا عبدُ الأعلى عن مَعْمَرٍ عن الزُّهْرِيِّ قال: دعاني عمرُ بنُ عبدِ العزيز فسألَني عن القَسامةِ وقال: بدا لي أن أردَّها؛ إنَّ الأعرابيَّ يَشهدُ والرَّجلَ الغائبَ يجيءُ فَيَشهدُ، فقلتُ: يا أمير المؤمنين إنَّك لن تستطيع ردَّها، قضى بها رسولُ الله صلعم والخلفاءُ بعدَه. /
          وحدَّثنا ابنُ نُمَيرٍ حدَّثَنا سَعِيدٌ عن قَتَادَةَ أنَّ سُلَيْمَانَ بن يَسَارٍ حدَّثَ أنَّ عمرَ بنَ عبد العزيز قال: ما رأيتُ مثل القَسامةِ قطُّ أُقِيدَ بها، واللهُ تعالى يقولُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقالت الأسباطُ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] قال سُلَيْمَان: فقلتُ: القَسَامةُ حقٌّ، قَضَى بها رسولُ الله صلعم.
          وكأنَّ البُخَاريَّ ذهبَ إلى تَرْكِ القتْلِ بالقَسامةِ لِمَا ذَكَرَهُ مِن الآثارِ الَّتي صدَّر بها البابَ بغيرِ إسنادٍ. وحديثُ القَسامةِ ذكره قَبْلَ التَّفسير، وفي باب المُوَادَعة والمصالحة مع المشركين [خ¦3173] في باب فرض الخُمُس.
          ورَوَى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عبدِ السَّلامِ بنِ حَرْبٍ عن عَمْرٍو عن الحَسَنِ أنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ والجماعةَ الأُوَلَ لم يكونوا يقتُلونَ بالقَسَامة. وحدَّثَنا عبدُ الرحيم بن سُلَيْمَان عن الحَسَنِ بن عَمْرٍو عن فُضَيلٍ عن إبراهيمَ قال: القَوَدُ بالقَسَامةِ جَوْرٌ. وفي روايةِ ابن مَعْشَرٍ: القَسامةُ يُستحقُّ فيها الدِّيةُ ولا يُقادُ فيها، وكذا قاله قَتَادَةُ، وقال الزُّهْرِيُّ: لا يُقتَلُ بالقَسامةِ إلَّا واحدٌ.
          ثمَّ قال البُخَاريُّ: (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَى البَصْرَةِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ: إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلَّا فَلَا تَظْلِمُ النَّاسَ، فإنَّ هَذَا لَا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
          وهذا خلافً مَا أسلفناه عنه.
          6898- ثُمَّ ساقَ البُخَاريُّ أيضًا مِن حديثِ أَبِي نُعَيْمٍ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، زَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا) الحديثَ، (فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ).
          وسعيدٌ هذا هو أبو الهُذَيلِ الطَّائيُّ الكوفيُّ أخو عُقْبةَ، اتَّفَقَا عليه.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وما نعلمُ في شيءٍ مِن الأحكامِ المرويَّةِ عن رسولِ الله صلعم في الاضطرابِ والتَّضادِّ ما في هذه القصَّةِ؛ فإنَّ الآثارَ فيها متضادَّةٌ متدافعةٌ وهي قِصَّةٌ واحدةٌ.
          وذكر أبو القاسم البَلْخِيُّ في «معرفة الرجال» عن ابنِ إسحاقَ قال: سمعتُ عَمْرَو بنَ شُعَيْبٍ يحلِفُ في المسجدِ الحرام: واللهِ الَّذي لا إله إلَّا هو إنَّ حديثَ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ في القَسامةِ ليس كما حدَّثَ، ولقد أَوْهَم.
          وذكر أبو داودَ سُلَيْمَانُ بنُ الأشعثِ بإسنادٍ جيِّدٍ عن عبدِ الرَّحمن بن بُجَيدٍ: إنَّ سَهْلًا واللهِ أَوْهَمَ الحَديثَ، إنَّه ╕ كَتَبَ إلى يَهُودَ ((قد وُجِدَ بين أَظْهُرِكمْ قَتِيلٌ فَدُوهُ))، فكتبوا يَحلفون بالله خمسين يمينًا ما قَتلْناه ولا عَلِمْنا له قاتلًا، فَوَدَاه رسولُ الله مِن عندِه بمِائَةِ ناقةٍ. وفي روايةِ رافعِ بن خَدِيجٍ: ((فاختاروا مِنهم خمسينَ وأَستحلِفُهم)) فأبَوْا. وفي لفظٍ عندَه: فَبَدَأَ باليَهُودِ وقال: ((أيحلفُ خمسونَ منكم؟)) فَأَبَوْا، فجعلها رسولُ الله صلعم دِيَةً على يَهُودَ لأنَّه وُجِدَ بين أظهُرِهِم.
          ولابنِ أبي عَاصِمٍ مِن حديثِ الزُّهْرِيِّ عن أنسٍ أنَّه ╕ بَدَأَ ببني حارثَةَ في اليمينِ في دمِ صاحبِهم المقتولِ بِخَيْبَرَ، وقال أبو عُمَر: لم يخرِّجه البُخَاريُّ إلَّا لإرسالِ مالكٍ له، وقد خطَّأ جماعةٌ مِن أهلِ الحديثَ حديثَ سعيدِ بن عُبَيْدٍ وذمُّوا البُخَاريَّ في تخريجِه وتَرْكِه روايةَ يَحيى بنِ سَعِيدٍ.
          قال الأَصِيليُّ: أسندَه عن يَحيى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ بنُ عُيَينَةَ وعبدُ الوهَّاب الثَّقفيُّ وعيسى بنُ حمَّادٍ وبِشْرُ بنُ المفضَّل، وهؤلاء سِتَّةٌ، وأرسلَهُ مالكٌ عن يَحيى بن سَعِيدِ عن بُشَيرِ بنِ يَسَارٍ، ولم يَذْكُرْ سَهْل بن أبي حَثْمَةَ، وممَّن رَوَىَ حديثَ يَحيى مسندًا ابنُ عُيَينَةَ وحمَّادُ بن زَيْدٍ وعبَّادُ بنُ العوَّام.
          وقال الأَثْرَمُ: قال أحمدُ: الَّذي أذهبُ إليه في القَسامةِ حديثُ بُشَيْرٍ مِن رواية يَحيى فقد وصله عنه حفَّاظٌ، وهو أصحُّ مِن حديثِ سعيدِ بن عُبَيْدٍ.
          وأخرجه النَّسائيُّ أيضًا مِن حديثِ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه أنَّ ابنَ مُحَيِّصَة الأصغرَ أصبحَ قتيلًا على أبوابِ خَيْبَر. الحديث، وفي آخرِه: ((فقسمَ رسولُ الله صلعم دِيَتَهُ عليهم وأعانهم بِنِصفِها)) ثمَّ قال: لا أعلم أحدًا تابع عَمْرًا على هذه الرِّوايةِ ولا سعيدَ بنَ عُبَيدٍ على روايتِه عن بُشَيرٍ.
          قلتُ: قد ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِن حديثِ حَبِيب بن أبي ثابتٍ عن بُشَيرٍ مثله، وقال البَيْهَقِيُّ: يحتمل أنَّ روايةَ سعيدٍ لا تُخالِفُ روايةَ يَحيى بن سَعِيدٍ عن بُشَيرٍ، وكأنَّه أرادَ بالبيِّنَةِ أَيمان المدَّعين في اللَّوْثِ كما فسَّره يَحيى بن سَعِيدٍ، أو طالبَهم بالبيِّنةِ كما في هذه الرِّوايةِ، فلمَّا لم يكن عندهم بيِّنةٌ عَرَض عليهم الأيمانَ كما في روايةِ يَحيى بن سَعِيدٍ، فلمَّا لم يحلفوها رَدَّها على اليَهُود كما في الرِّوايتينِ جميعًا، ويؤِّيدُه حديثُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ ومرسلُ سُلَيْمَان بن يَسَارٍ، يعني المذكورَينِ قَبْلُ.
          قال: ومَن تكلَّم في دِينِ الله وفي أخبارِ رسولِ الله صلعم فلا ينبغي له أن يحتجَّ في ذلك بروايةِ الكَلْبيِّ عن أبي صالحٍ عن ابن عَبَّاسٍ ☻ عن رسولِ الله صلعم في استحلافِهِ خمسين مِن اليَهُودِ في قِصَّة الأنصاريِّ ثمَّ جعلَ عليهم الدِّيةَ، ولا بِرِوايةِ عُمَرَ بن صُبَيحٍ عن مُقَاتلِ بن حيَّان عن صَفْوانَ عن ابْن المسيِّب عن عُمَرَ في قضائِهِ بنحوِ ذلك وقولِه: ((إنَّمَا قَضَيتُ عَلَيكُم بِقَضَاءِ نَبِيِّنَا)) لإجماعِ أهلِ الحديث على ترْكِ الاحْتجاجِ بهما ولمخالفتِهما في هذه الرِّوايةِ الثِّقاتَ الأثباتَ.
          ورَوَى ابنُ أبي عَاصِمٍ مِن حديثِ ابنِ لَهِيْعَة عن يَزِيْد بن أبي حَبِيبٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن عُبَيْدِ اللهِ بن عبدِ الله عن ابنِ عَبَّاسٍ. الحديث، وفيه: ((فَدَعا ╕ اليَهُودَ لِقَسَامَتِهم؛ لأنَّهم الَّذين ادُّعِيَ عليهم الدَّمُ، فأمرهم أن يَحلِفوا خمسين يمينًا أنَّهم بُرَآءُ مِن قَتْلِهِ، فنَكَلَتْ يَهُودُ عن الأَيمانِ، فدعى بني حارِثَةَ)) الحديث.
          ورواه مُسلمٌ عن سَهْلٍ ورافِعٍ، وقد بيَّن ليثٌ في روايتِه عن يَحيى بن سَعِيدٍ عند مسلمٍ عن بُشَيرٍ أنَّه حِسْبَانٌ، وذلك أنَّه قال: قال يَحيى: حَسِبْتُه قال: وعن رافِعٍ. فحصَلَ بذلك شكُّ يَحيى في ذِكْرِ رافِعٍ، فكأنَّ روايتَه لم يُذْكَر فيها شكٌّ في ذلك بحيث أنْ يُقضَى عليها بِذِكْرِ الشَّكِّ؛ لأنَّ زيادةَ الحُفَّاظِ مقبولةٌ وإنْ جاز نَفْيُه بعدَ الشَّكِّ، وأنْ يَستشكلَه بعد اليقين أيضًا جائزٌ، وسَهْلٌ إنَّما يَروي عن رجالٍ مِن كُبراءِ قومِه لِصِغَرِه، هذا على قولِ مَن قال: عن، وأمَّا مَن قال: عن رجلٍ فهو مُرْسَلٌ واتِّصالُه برافِعٍ، وقد حصل فيه ما بيَّنَّاه.
          6899- ثمَّ ساق البُخَاريُّ مِن حديثِ أَبِي رَجَاءٍ واسمُه سلمانُ (مِنْ آلِ أَبِي قِلَابَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالوا: نَقُولُ: القَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ)، ثمَّ ساقه بِطُولِه.
          وقد اختَلف العلماءُ في القَسامةِ، فقال الجمهور: القَسامةُ ثابتةٌ عن الشَّارعِ يبدأُ فيها المدَّعون بالأَيمانِ، فإنْ حلفوا استحقُّوا وإنْ نَكَلُوا حلَف المدَّعَى / عليهم خمسين يمينًا وبَرِئوا، وهو قولُ أهلِ المدينةِ: يَحيى بن سعيدٍ وأبي الزِّنَاد ورَبِيْعَةَ ومالكٍ واللَّيْثِ والشَّافِعيِّ وأحمدَ وأبي ثورٍ. وحُجَّتُهم حديثُ البُخَاريِّ السَّالفُ الَّذي ذكرْناه أوَّلًا، وهَو صَرِيحٌ يبدأ به المدَّعين للدَّمِ باليمينِ.
          وذهبتْ طائفةٌ إلى أنَّه يبدأ بأَيمانِ المدَّعَى عليهم ويُذَرُونَ. رُوي عن عُمَرَ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، وبه قال الثَّورِيُّ والكوفيُّونَ وأكثرُ البصريِّينَ. واحتجُّوا بحديثِ سعيدِ بن عُبَيْدٍ، عن بُشَيرِ بن يَسَارٍ أنَّه ╕ قال للأنْصارِ: ((تأتونَ بالبيِّنَةِ على مَن قَتَلَهُ؟)) قالوا: ما لنا بيِّنةٌ، قال: ((فيحلِفُون لكم؟)) قالوا: ما نرضَى بأَيمانِ يَهُودَ، فأَبَوْا، فبدأَ بأَيمانِ المدَّعَى عليهم وهم اليَهُودُ، . واحتجُّوا أيضًا بما رواه ابنُ جُرَيْجٍ عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ ☻، أنَّه ╕ قال: ((لو يُعطَى النَّاسُ بِدَعْواهُم لادَّعَى قومٌ دِماءَ قومٍ وأموالَهم، ولكنَّ اليمينَ على المدَّعَى عليه)) أخرجاه.
          وفيها قولٌ ثالثٌ: وَهو التَّوقُّفُ عن الحكم بالقَسامةِ. رُوِيَ عن سَالِمِ بنِ عبدِ الله وأبي قِلابةَ وعُمَرَ بنِ عبد العزيز والحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وروايةٌ عن قَتَادَةَ، وهو قولُ مُسلمِ بن خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ وفقهاءِ أهل مكَّةَ، وإليه ذهب ابنُ عُيَينَةَ.
          واحتجَّ الجمهورُ بأنْ قالوا: حديثُ سَعِيدِ بن عُبَيْدٍ في تبدئةِ اليَهُودِ وَهَمٌ عند أهلِ الحديث كما سلف؛ لأنَّ جماعةً مِن أهلِ الحديثِ أسندوا حديثَ بُشَير بن يَسَارٍ عن سَهْلٍ أنَّه ╕ بدأ بالمدَّعِين.
          قال أحمد: الذي أذهبُ إليه في القَسامةِ حديثُ يَحيى بن سَعِيدٍ عن بُشَير بن يَسَارٍ، وقد وصَلَه عنه حفَّاظٌ، وهو صحيحٌ مِن حديثِ سَعِيدِ بن عُبَيْدٍ، وقد أسلفناه عنه أيضًا.
          قال الأَصِيليُّ: فلا يجوز أن يُعترَضَ بخبرِ واحدٍ على خبرِ جماعةٍ، مع أنَّ سعيدَ بن عُبَيْدٍ قال في حديثِه: ((فودَاهُ رسولُ الله صلعم مِن إبلِ الصَّدقةِ)) والصَّدقةُ لا تُعطَى في الدِّيَاتِ ولا يُصالَحُ بها عن غيرِ أهلِها.
          قال ابن القصَّارِ والمُهَلَّب: وقد يُجمَعُ بينَ حديثِ سعيدٍ ويَحيى بأنَّه ╕ قال للأنصار: ((أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِن اليَهُودِ مَا قَتَلوهُ؟)) بعْدَ عِلْمِهِ أنَّ الأنصارَ قد نَكَلُوا عن اليمين لأنَّهم لم يعيِّنُوا أحَدًا مِن اليَهُود فَيُقسِمُوا عليه، والقَسامةُ لا تكونُ إلَّا على معيَّنٍ، فلمَّا عَلِمَ نُكُولَهم ردَّ اليمينَ، وفي حديثِ يَحيى حين نَكَلَ حُوَيِّصَة ومُحَيِّصَة وعبدُ الرَّحمن، فقال لهم: ((فتبرِّئكم يَهُودُ بأيمانٍ)) بعدَ أنْ قال لهم: ((تحلِفونَ خمسينَ يمينًا وتستحِقُّونَ دَمَ صاحبِكم)).
          وقد رَوَى ابنُ جُرَيْجٍ عن عَطَاءٍ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ أنَّه ╕ قال: ((البَيِّنَةُ على مَن ادَّعى واليمينُ على مَن أنكرَ إلَّا في القَسامةِ)) أخرجه الدَّارَقُطْنِيُّ مِن حديثِ مُسلمِ بن خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ عن ابنِ جُرَيْجٍ به. ومِن حديثِ الزَّنْجِيِّ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه: أنَّه ╕ قال فَذَكَرَ مِثْلَه. قال الدَّارَقُطْنِيُّ: خالفهُ عبدُ الرَّزَّاق وحجَّاجٌ فروياهُ عن ابنِ جُرَيْجٍ عن عَمْرٍو مُرسَلًا، فبيَّن أنَّ اليمين في القَسامةِ لا تكون في جهة المدَّعَى عليه.
          وقد احتجَّ مالكٌ في «الموطَّأ» لهذه المسألةِ بما فيه الكِفايةُ، فقال: إنَّما فُرِقَ بين القَسامةِ في الدَّمِ والأَيْمانِ في الحقوقِ أنَّ الرَّجلَ إذا داينَ الرَّجلَ استثبتَ عليه في حقِّه، وأنَّ الرَّجلُ إذا أراد قتْل الرجل لمْ يَقْتُلْهُ في جماعةٍ مِن النَّاس وإنَّما يلتمسُ الخَلْوةَ، فلو لم تكن القَسامةُ إلَّا فيما تَثْبُتُ فيه البَيِّنَةُ وعُمِل فيها كما يُعمَلُ في الحقوقِ بَطَلَتِ الدِّماءُ واجترأ النَّاسُ عليها إذا عَرَفُوا القضاءَ فيها، ولكنْ إنَّما جُعِلَتِ القَسامةُ إلى وُلاةِ المقتولِ لِيبدؤُوا بها لِيَكُفَّ النَّاسُ عن الدَّمِ، ولِيحذرَ القاتلُ أنْ يُؤخَذَ في مِثْلِ ذلك بقولِ المقتول.
          وهذا الأمر المجمَعُ عليه عندنا والَّذي سمعتُ ممَّن أَرْضَى والَّذي اجتمعتْ عليه الأئمَّةُ في القديمِ والحديثِ أنْ يبدأ المدَّعُونَ، فإنْ قلتَ: الشَّارعُ إنَّما قال: ((تَحلِفُون وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صاحبِكُم)) على وجهِ الاستعظامِ لذلك والإنكارِ عليهم والتَّقريرِ لا على وجهِ الاستفهام لهم. فالجواب: أنَّه لا يجوزُ أنْ يريدَ الإنكارَ عليهم أصلًا؛ وذلك أنَّ القومَ لم يطلبوا اليمينَ فيُنْكِرَ ذلك عليهم، وإنَّما طلبوا الدَّمَ فَبَدَأَهم وقال لهم: ((أتحلفون؟)) فَعُلِمَ أنَّه شَرَعَ لهم اليمينَ وعلَّق استحقاقَه الدَّمَ بها، وإنَّما كان يكون منكِرًا عليهم لو بدأوا وقالوا: نحن نحلِفُ.
          فَصْلٌ: وأمَّا الَّذين أبطلُوا الحكمَ بالقَسامةِ فإنِّهم ردُّوها بآرائِهم لخلافِها عندَهم حديثَ: ((البَيِّنَةُ على المدَّعي واليمينُ على المدَّعَى عليه)) وهو خصَّ القَسامةَ بِتَقْدِمَةِ المدِّعي بالأَيمان وسَنَّهُ لِأُمَّتِه.
          وقد كانت في الجاهليَّةِ خمسين يمينًا على الدِّماء فأقرَّها الشَّارعُ فصارت سُنَّةً، بخلافِ الأموالِ الَّتي سنَّ فيها يمينًا واحدةً، والأصولُ لا يَرُدُّ بعضُها بعضًا ولا يُقاس بعضُها على بعضٍ؛ بل يُوضَعُ كلُّ واحدٍ منها موضِعَهُ كالعَرَايا والمُزَابَنَةِ والمُسَاقَاةِ والقِرَاضِ مع الإجاراتِ، وعلى المسلمين التسليمُ في كلِّ ما سُنَّ لهم.
          فإنْ قلتَ: كيف يَحلِفُ الأولياءُ وهم غُيَّبٌ عن موضِعِ القتلِ؟ قيل: اليمينُ يكون تارةً على وجه اليقينِ وتارةً على وجه الاستدلال؛ كالشَّهادةِ تكون باليقينِ وتكونُ بالاستدلالِ على النَّسَبِ والوفاةِ وأنَّ هذه زوجةُ فلانٍ وهذا باستدلالٍ، كما يدَّعي الوارثُ لأبيه دَيْنًا على رجلٍ مِن حساب أبيه فيحلِفُ كما يحلِفُ على يقينٍ، وذلك على ما ثبتَ عندَه بإِخبارِ مَن يُصدِّقُهُ، ليس أحدٌ مِن العلماء يُجيز لأحدٍ أن يحلفَ على ما لم يعلمْ، ولكنَّه يحلفُ على ما لم يحضُرْ إذا صحَّ عندَه وعَلِمَهُ بما يقعُ العلمُ بمثلِه.
          وقيل لابنِ المسيِّب: أعجبُ مِن القَسامةِ، أن يأتيَ الرَّجلُ يُسأَلُ عن القاتل والمقتول لا يعرفُ واحدًا منهما ويُقسِمُ، قال: قَضَى رسولُ الله صلعم بها في قتيلِ خَيْبَرَ، ولو علمً أنَّ النَّاس يَجترؤون عليها ما قَضَى بها.
          وقال أبو الحَسَنِ القابِسِيُّ: العجبُ مِن عُمَرَ بن عبدِ العزيز على مكانتِه في العِلم كيف لم يُعَارِضْ أبا قِلابةَ في موضعِه وليس أبو قِلابة مِن فقهاءِ التابعين؟ قال المُهَلَّب: وما اعترض به أبو قِلابة مِن حديثِ / العُرَنيِّينَ لا اعتراض فيه على القَسامةِ بوجهٍ مِن الوجوه؛ لجوازِ قيامِ البيِّنَةِ والدَّلائلِ الَّتي لا رَفْعَ لها على تحقيقِ الجِنايةِ على العُرَنيِّين، وليس هذا مِن طريق القَسامةِ في شيءٍ؛ لأنَّها إنَّما تكون في الدَّعاوى والاختفاء بالقتلِ حيثُ لا بيِّنةَ ولا دليلَ، وأَمْرُ العُرَنيِّين كان بين ظهرانَيِ النَّاسِ ويُمكنُ فيه الشَّهادةُ؛ لأنَّهم كشفوا وجوهَهم لِقَطْعِ السَّبيلِ والخروجِ عن المسلمين بالقتلِ واستياقِ الإبِلِ، فقامتْ عليهم الشَّواهدُ البَيِّنَةُ، فأمْرُهم غيرُ أَمْرِ مَن ادُّعِي عليه بالقتلِ ولا شاهدَ يقومُ عليه.
          وما ذُكِر مِن الَّذين انهدم عليهم الغارُ لا يُعارَض به ما تقدَّم من السُّنَّة في القَسامةِ، وليس رأيُ أبي قِلابةَ حجَّةً على جماعةِ التَّابعين ولا تُردُّ بمثلِه السُّننُ، وكذلك محوُ عبدِ الملكِ مِن الدِّيوانِ لأسماءِ الَّذين أقسموا لا حجَّةَ فيه على إبطالِها، وقد يكون عبدُ الملك إنَّما قَدِم على ما صَنَعَ كأنْ لم يكن في تلك القصَّةِ ما يُوجِب القَسامة مِن اللَّوْثِ.
          فَصْلٌ: اختلفوا في وجوب القَوَدِ بها فأوجبتْ طائفةٌ القَوَدَ بها، رُوي عن عبدِ الله بنِ الزُّبَيرِ وعمرِ بنِ عبدِ العزيز والزُّهْرِيِّ ورَبِيْعَةَ وأبي الزِّنَادِ وابنِ أبي ذِئبٍ، وبه قال مالكٌ واللَّيْثُ وأحمدُ وداودُ وأبو ثورٍ. واحتجُّوا بحديثِ يَحيى بن سَعِيدٍ عن بُشَيرِ بنِ يَسَارٍ أنَّه ╕ قال للأنصارِ: ((أتحلِفُون وتَستحقُّون دمَ صاحبِكُم _أو قاتلِكُم؟_)) وهذا يُوجِبُ القَوَدَ، وقال إسحاقُ: مَن قال بالقَوَدِ فيها لا أَعيبُه، وأمَّا أنا فأذهبُ إلى ما رُويَ عن عُمَرَ بن الخطَّاب ☺ أنَّه قال: لا يُقاد بالقَسامةِ وإنَّما تجب فيها الدِّية.
          وقالت أُخرى: لا قَوَدَ بها وإنَّما توجب الدِّيةَ، رُوي عن عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والحَسَنِ، وإليه ذهب الثَّورِيُّ والكوفيُّونَ والشَّافِعيُّ في مشهورِ مذهبِه وإسحاقُ. واحتجُّوا بما رواه مالكٌ عن ابنِ أبي ليلى عن عبدِ الله عن سَهْلِ بن أبي حَثْمةَ، وهو قولُه ╕ للأنصارِ: ((إِمَّا أن تَدُوا صاحِبَكُم أو تُؤذِنُوا بحربٍ)) وهذا يدلُّ على الدِّيَةِ لا على القَوَدِ.
          قالوا: ومعنى قولِه ╕ في حديثِ يَحيى بن سَعِيدٍ: ((وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ)) يعني به دِيَةَ دمِ قتيلِكم لأنَّ اليَهُودَ ليس بصاحبٍ لكم، فإذا جاز أن يُضمِروا فيه جاز أن يُضمِرَ فيه دِيَةَ دمِ صاحبِكم، فكان مِن حُجَّة أهلِ المقالة عليهم أنْ قالوا: إنَّ قولَه: ((إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ)) معارِضٌ لقولِه: ((تَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ)) فلمَّا تعارضَا وجبَ طلبُ الدَّليلِ على أيِّ المعنيينِ أَوْلى بالصَّواب، فوجدْنا الأوَّلَ انفردَ به أبو ليلى في حديثِه، وقد قال أهلُ الحديث: إنَّ أبا ليلى لم يَسمَعْهُ مِن سَهْلٍ، وقيل: إنَّه مجهولٌ لم يروِ عنه غيرُ مالكٍ.
          واختُلِف في اسمِ أبي ليلى هذا _كما قال أبو عُمَرَ_ فقيل: عبدُ الله بنُ عبدِ الله بنِ عبدِ الرَّحمن بنِ سَهْلٍ، وقيل: عبدُ الرَّحمن بنُ عبدِ الله بنِ سَهْلٍ، وقال ابنُ إسحاقَ: عبدُ الله بن سَهْلٍ.
          وقد اتَّفق جماعةٌ مِن الحفَّاظ على يَحيى بن سَعِيدٍ على هذا الحديثِ وقالوا فيه: ((تَسْتَحِقُّونَ دَمَ قتيلِكم)) يعني يسلَّمُ إليكم القتيلُ لأنَّه لم يَقُلْ: وتستحقُّونَ دِيَةَ دمِ صاحبِكم. والدَّليلُ على ذلك أنَّهم كانوا ادَّعَوا قَتْلَ عَمْدٍ لا خطأٍ، والَّذي يجب على قاتل العَمْدِ القَوَدُ أو الدِّيةُ إنِ اختارَ ذلك وليُّ القتيل.
          وروى حمَّادُ بنُ زَيْدٍ عن يحيى بن سَعِيدٍ عن بُشَيرٍ عن سَهْلٍ ورافِعِ بن خَدِيجٍ أنَّه ╕ قال للأنصارِ: ((يُقسِم خمسون منكم على رجلٍ منهم فَيُدفَعُ بِرُمَّتِهِ)) وهذه حجَّةٌ قاطعةٌ، وهذا الحديث يبيِّنُ أنَّ قولَه: ((دَمَ صَاحِبِكُمْ)) معناه القاتلُ لأنَّه قتلَ الَّذي قَتَلَ وليَّهم، وقد يصحُّ أن يقولوا: هذا صاحبُنا الَّذي ادَّعينا عليه أنَّه قَتَلَ وليَّنا.
          ويجوزُ أن يكونَ معناهُ وتستحقُّون دمَ قاتِلِ صاحبِكم؛ لأنَّه مَن ادَّعى إثباتَ شيءٍ على صِفةٍ وحقَّقَهُ بيمينِه فإنَّ الذي يجب له هو الشَّيء الَّذي حقَّقَهُ بيمينِه على صِفتِه؛ فلو ادَّعى إتلافَ عبْدٍ أو دابَّةٍ أو ثوبٍ وحلف المدَّعِي بعد نُكُولِ المدَّعَى عليه حُكِمَ له بما ادَّعاه على صِفتِه ولم يجبْ له سواه، والدَّليلُ على ذلك قولُه تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] فأخبر تعالى أنَّ القَوَدَ هو الَّذي يُحيِي النُّفوسَ لأنَّ القاتلَ إذا عَلِمَ أنَّه يُقتلُ انزجرَ عن القتْلِ وكفَّ عنه أكثرَ مِن انزجارِه إذا لَزِمتْهُ الدِّيةُ.
          فَصْلٌ: النَّاسُ في وجوب القَسامةِ على معنيينِ: فقومٌ اعتبروا اللَّوْثَ فَهُم يَطلبون ما يَغلِبُ على الظنِّ وتكونُ شُبهةً يتطرَّقُ بها إلى حراسة الدِّماء، ولم يَطلبْ أحدٌ في القَسامةِ الشَّهادةَ القاطعةَ ولا العِلْمَ البَتَّ، وإنَّما طلبوا شُبهةً وسمَّوها لَطْخةً لأنَّهُ يُلطَخُ المدَّعَى عليه بها، وبهذا قال مالكٌ واللَّيْثُ والشَّافِعيُّ، إلَّا أنَّهم اختلفوا في اللَّوْثِ، فذهب مالكٌ في روايةِ ابن القاسم عنه أنَّه الشَّاهدُ العَدْلُ، ورَوَى عنه أشهبُ: غيرُ العَدْلِ.
          وذهبَ الشَّافِعيُّ إلى أنَّه الشَّاهدُ العَدْلُ أو أنْ يأتيَ بِبَيِّنَةٍ مفرَّقةٍ وإنْ لم يكونوا عُدُولًا، قال: وكذلك لو دخل بيتًا مع قومٍ لم يكن معهم غيرُهم، أو تكونَ جماعةٌ في صحراءَ فيتفرَّقُون على قتيلٍ، أو يُوجدَ قتيلٌ وإلى جنبِه رجلٌ معه سِكِّينٌ مخضوبةٌ بدمٍ وليس ثَمَّ أثرُ سَبُعٍ ولا قَدَمُ إنسانٍ آخر.
          ولا يقبل الشَّافِعيُّ قولَ المقتول: دِمي عند فلانٍ لأنَّ السُّنَّة المجْمَع عليها أنَّه لا يُعطَى أحدٌ بدعواهُ شيئًا، وعند مالكٍ واللَّيْثِ أنَّ القَسامةَ تجبُ باللَّوْثِ أو بقولِ المقتول: دِمي عند فلانٍ، وقد سلف بيانُ هذه المسألةِ قريبًا في باب إذا قتل بحجرٍ أو بِعَصا.
          وقومٌ أوجبوها والدِّيةَ بوجودِ القتيلِ فقط واستغنَوا عن مراعاةِ قولِ المقتولِ وعنِ الشَّاهِدِ، وهو قولُ الثَّورِيِّ والكوفيِّين، ولا قَسامةَ عندهم إلَّا في القتيل يُوجدُ في المَحَلَّة خاصَّةً، قالوا: فإذا وُجِدَ في مَحَلَّة قومٍ وبه أثرٌ مِن جِرَاحةٍ أو ضَرْبٍ أو خَنْقٍ حَلَفَ أهلُ الموضع أنَّهم لم يَقتلوه، ويكون عَقْلُه عليهم، وإذا لم يكن به أثرٌ لم يكن على العَاقِلةِ شيءٌ، / وكذا لو كان الدَّمُ يجري مِن أَنفهِ أو دُبُرِه فليس قتيلًا، فإنْ جُرَحَ مِن أُذُنه أو عينِه فهو قتيلٌ.
          وهذا لا سَلَفَ لهم فيه، وحديثُ يَحيى بن سَعِيدٍ عن بُشيرٍ بخلافِ قولِهم؛ لأنَّه ╕ لم يَحكُمْ عَلى اليَهُودِ بالدِّيةِ بِنَفْسِ وجودِ القتيل في محلَّتِهم، ولم يطالبهم بها بلْ أدَّاها مِن عندِه، ولو وجبت عَلى أهلِ المَحَلَّة لأوجبَها على اليَهُودِ، وأمَّا اشتراطُهم أن يكون به أَثَرٌ فليس بشيءٍ لأنَّه قد يُقتَلً بما لا أثر به.
          قال ابنُ المنذر: والعجبُ مِن الكوفيِّينَ أنَّهم ألزموا العاقِلَة مالًا بغيرِ بيِّنةٍ تَثبُتُ عليهم وَلا إقرارٍ منهم، بل ثُمَّ أعجبُ مِن ذلك إلزامُهم العاقِلَةَ جنايةَ عمْدٍ ولا تثبُتُ ببيِّنةٍ وَلا إقرارٍ؛ لأنَّ الدَّعوى الَّتي ادَّعاها المدَّعِي لو ثبتتْ ببيِّنةٍ لم يلزم ذلك العاقِلَةَ، فكيف يجوز أن يُلزمُوه بغيرِ بيِّنةٍ؟ والخطأ محيطٌ بهذا القولِ مِن كلِّ وجهٍ.
          وذهبَ اللَّيْثُ ومالكٌ والشَّافِعيُّ إلى أنَّ القتيلَ إذا وُجِدَ في مَحَلَّةِ قومٍ فهو هَدَرٌ لا يُؤخَذُ به أقربُ النَّاس دارًا ولا غيرُه؛ لأنَّ القتيل قد يُقتَلُ ثمَّ يُلقَى على بابِ قومٍ لِيُلْطَخُوا به، فلا يُؤخَذُ أحدٌ بمثلِ ذلك. وقد قال عمرُ بنُ عبدِ العزيز: هذا ممَّا يؤخَّر فيه القضاءُ حتَّى يقضيَ الله فيه يومَ القيامة.
          وقال القاسم بن مَسْعَدَةَ: قلتُ للنَّسائيِّ: مالكٌ لا يقولُ بالقَسامةِ إلَّا بِلَوثٍ، فَلِمَ أوردَ حديثَ القَسامةِ ولا لَوْثَ فيه؟ قال النَّسائيُّ: أنزل مالكٌ العداوةَ الَّتي كانت بينهم وبين اليَهُودِ بمنزلةِ اللَّوْثِ، وأنزلَ اللَّوْثَ أو قولَ الميِّتِ بمنزلةِ العَدَاوةِ.
          وقال الشَّافِعيُّ: إذا كان مِن السَّببِ الَّذي حكمَ فيه رسولُ الله صلعم وجبت القَسامةُ، كانت خَيْبَرُ دارَ يَهُود محضةً، وكانت العداوةُ بينهم وبين الأنْصارِ ظاهرًة، وخرج عبدُ الله بنُ سَهْلٍ بعد العصر فوُجِد قتيلًا قَبْل اللَّيل فيكادُ يَغلِبُ على مَن سمعَ هذا أنَّه لم يَقتُلْهُ إلَّا بعضَ اليَهُود. وكذلك قال أحمدُ: إذا كان بين القومِ عداوةٌ كما كان بين الصَّحابة واليَهُودِ.
          ووجهُ قولِ مالكٍ: أنَّ قَوْلَ المقتولِ تجِبُ فيه القَسامةُ أنَّ الغالب مِن الإنسانِ أنَّه يتخوَّفُ عندَ الموتِ ويَجْهَدُ في التَّخلُّصِ مِن المظالمِ ويَرغبُ فيما عند الله تعالى ويُحدث توبةً، ولا يُقْدِم على دَعْوى القتلِ ظُلمًا، فصار أقوى مِن شهادة الشَّاهدِ وأقوى مِن قولِ مَن خالفَ أنَّ الوليَّ يُقسِمُ إذا كان بِقُرْبِ وَليِّه وهو مقتولٌ ومع الرَّجل سكِّين؛ لأنَّه يجوز أن يكون غيرُه قَتَلَهُ فَضَعُفَ هذا اللَّوْثُ ووجبَ أن يُستعمَلَ ما هو أقوى منه وهو قولُ المقتول: دَمِي عند فلانٍ. ولا يُسلَّم ذلك له.
          قال ابنُ أبي زَيْدٍ: وأصلُ هذا في قِصَّةِ بني إسرائيلَ حين أحيا اللهُ الَّذي ضُرِبَ بالبقرةِ وقال: قتلني فلانٌ، فهذا يدلُّ على قَبول قولِه: دمِي عند فلانٍ؛ لأنَّه كان في شرْعِ بني إسرائيلَ، وسواءٌ كان قبل الموتِ أو بعدَه. واعتُرِضَ عليه بأنَّ ذلك كان معجزةً لمُوسَى وأنَّه كان بعد الموت.
          تنبيه: المتقرِّرُ عند أبي حَنيفَةَ وصاحبيهِ أنَّه إذا وُجِدَ القتيلُ في مَحَلَّةٍ وبه أثرٌ أو ادَّعى الوليُّ على أهلِ المَحَلَّةِ أنَّهم قتلوهُ أو على واحدٍ منهم بعينِهِ، استحلَفوا مِن أهلِ المَحَلَّةِ خمسين يختارُهم الوليُّ، فإنْ لم يبلغوا خمسين كُرِّرت عليهم الأيمانُ ثمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيةَ، فإنْ نَكلُوا عن اليمينِ حُبِسُوا حتَّى يُقرُّوا أو يَحلفُوا. وهو قولُ زُفَرَ. ورَوَى الحَسَنُ بنُ زِيَادٍ عن أبي يُوسُف: إذا أَبَوْا أن يُقسِموا تَركهم ولم يَحبِسْهُم وتُجعلُ الدِّيةُ على العاقِلَةِ في ثلاثِ سنين.
          وقالوا جميعًا: إذا ادَّعى الوليُّ على رجُلٍ مِن غيرِ أهلِ المَحَلَّة فقد أبرأَ أهلَ المَحَلَّةِ وغيرَهم. وقال ابنُ شُبْرُمةَ: إذا ادَّعى الوليُّ على رَجُلٍ بِعَينِه مِن أهلِ المَحَلَّة فقد أبرأَ أهلَ المَحَلَّةِ، وصار دمُه مُهدَرًا إلَّا أن يُقِيمَ البيِّنةَ على ذلك الرَّجُلِ. وقال البَتِّيُّ: يُستحلفُ مِن أهلِ المَحَلَّة خمسون رجلًا: ما قتلناه ولا عَلِمْنا له قاتلًا، ثمَّ لا شيءَ عليهم غيرَ ذلك، إلَّا أن يُقيم البيِّنةَ على رجُلٍ بِعَيْنِه أنَّه قَتَلَه. قال أبو عُمَرَ: وهذا القولُ مخالفٌ لِمَا قضى به عُمَرُ ☺ مِن روايةِ ابنِ إسحاقَ عن الحارثِ بن الأَزْمَعِ: أنَّ عُمَرَ استحلفَ الَّذي وَجَدَ عندهم القتيلَ وأَغْرَمَهُم الدِّيةَ.
          فَصْلٌ: واختلفوا في العددِ الَّذين يَحلفون ويستحقُّون الدَّمَ، فقال مالكٌ: لا يُقسِمُ في قتْلِ العَمْد إلَّا اثنانِ فصاعدًا تُردُّ الأيمانُ عليهما حتَّى يحلفَا خمسين يمينًا وذلك الأصلُ عندنا. والحُجَّة أنَّ الشَّارع عَرَضَهَا على ولاةِ الدَّمِ بلفظ جماعةٍ فقال: ((تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ)) وأقلُّ الجماعةِ اثنانِ فصاعدًا. وقال اللَّيْثُ: ما سمعتُ أحدًا ممَّن أدركتُ يقولُ: إنَّه يَقتصرُ على أقلَّ مِن ثلاثةٍ.
          وقال الشَّافِعيُّ: إذا تَرَكَ وارثًا استحقَّ الدِّيةَ بأنْ يُقْسِمَ وارثُه خمسين يمينًا. واحتجَّ له أبو ثورٍ فقال: قد جَعل اللهُ للأولياءِ أنْ يُقسِمُوا، فإذا لم يكن إلَّا واحدًا كان له ذلك، ولو لم تكن إلَّا ابنةٌ وهي مولاتُه حلفَتْ خمسين يمينًا وأُخِذَ مِن الكلِّ النِّصْفُ بالنَّسَبِ والنِّصْفُ بالولاء.
          فَصْلٌ: وفي قولِه: ((تَسْتَحِقُّونَ)) دِلالةٌ على أَلَّا يمينَ لغيرِ مُسْتَحِقٍّ، وعلى أَلَّا يَحلِفَ إلَّا وارثٌ كما نبَّه عليه ابنُ المنذر.
          وفيه مِن الفقهِ أنْ تُسمَعَ حُجَّةُ الخصمِ على الغائب. وأنَّ أهلَ الذِّمَّة إذا مَنَعُوا حقًّا رَجعُوا حَرْبًا. ومقاتَلَةُ مَن منعَ حقًّا حتَّى يؤدِّيَه. وأنَّ مَن صحَّ عندَه أمرٌ ولم يَحضُرْهُ أنَّ له أن يَحلِفَ عليه لأنَّه ╕ عرضَ على أولياءِ المقتولِ اليمينَ ولم يحضرُوا بخيبرَ.
          فَصْلٌ: وفيه أيضًا وجوبُ ردِّ اليمين على المدَّعِي في الحقوقِ، واختلف العلماء في ذلك فقالت طائفةٌ: إنَّ مَن ادَّعَى حقًّا على آخَرَ ولا بيِّنَةَ له فالقولُ قولُ المدَّعَى عليه مع يمينِه، فإنْ حَلَفَ بَرِئَ وإنْ لم يَحلِفْ رُدَّت اليمينُ على المدَّعِي، فإنْ حَلَفَ استَحَقَّ وإلَّا فلا شيءَ له. رُوِيَ هذا عن عُمَرَ وعُثْمَان، وهو قولُ شُرَيْحٍ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، وبه قال مالكٌ والشَّافِعيُّ وأبو ثورٍ.
          وذهب الكوفيُّونَ أنَّ المدَّعَى عليه إنْ لم يَحْلِفْ لزِمَهُ الحقُّ ولا تُردُّ اليمينُ على المدَّعِي، وكان أحمدُ لا يرى ردَّ اليمينِ. وحُجَّتهم في ذلك أنَّه ╕ حكم بالبيِّنة على المدَّعِي واليمينِ على المدَّعَى عليه، فلمَّا لم يَجُزْ نَقْلُ حُجَّة المدَّعِي وهي البَيِّنَةُ عن الموضعِ الَّذى جعلَها فيه النَّبِيُّ صلعم إلى جهةِ المدَّعَى عليه كذلك لم يَجُزْ نَقْلُ حُجَّةِ المدَّعَى عليه وهي اليمينُ إلى المدَّعي؛ لأنَّ قولَه ╕: ((اليمينُ على المدَّعَى عليه)) إيجابٌ عليه أن يَحلفَ، فإذا امتنعَ ممَّا يجبُ عليه أَخذه الحاكمُ بالحقِّ، هذا قولُ ابنِ أبي ليلَى وغيرِه مِن أهل العِلم.
          واحتجَّ أهلُ المقالةِ الأُولى بحديث القَسامةِ، وقالوا: إنَّ الشارعَ جعل اليمينَ في جهةِ المدَّعِي بقولِه للأنصار: ((أتحلِفُون؟)) فلمَّا أَبَوا أحالَها إلى اليَهُودِ لِيَبْرَؤُوا بها، فلمَّا وجدْنا في سُنَّتِه أنَّ المدَّعِي قد تنتقلُ إليه اليمينُ في الدِّماء / وحُرْمتُها أعظمُ جعلناها عليه في الحقوقِ لنأخذَ بالأرفق، والمدَّعى عليه إذا نَكَلَ عن اليمينِ ضَعُفَتْ جِهَتُه وصار مُتَّهمًا وقَوِيَتْ حجَّةُ المدَّعِي؛ لأنَّ الظَّاهر صار معه فوجب أن تصيرَ اليمينُ في جهتِه لِقُوَّةِ أَمْرِه.
          وقد احتجَّ الشَّافِعيُّ على الكوفيِّين فقال: رُدَّ اليمينُ في كتابِ الله في آيةِ اللِّعان أيضًا؛ وذلك أنَّ اللهَ جعلَ اليمينَ على الزَّوجِ القاذفِ لزوجتِه إذا لم يأتِ بأربعةِ شهداءَ، وجعل له بيمينِه البراءةَ مِن حدِّ القذفِ، وأوجبَ الحدَّ على الزَّوجةِ إن لم تَلْتَعِن، فهذه يمينٌ رُدَّتْ على مُدَّعٍ كانتْ عليه البيِّنَةُ في رَمْيِهِ زوجتَه، فكيف يُنكِرُ مَن له فهمٌ وإنصافٌ ردَّ اليمينِ على المدَّعِي؟
          وقال ابنُ القصَّار: قد ذكر اللهُ في كتابِه اليمينَ على المدَّعِي الصَّادقِ فقال لِنَبِيِّه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس:53] وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3] واحتجَّ أيضًا بقولِه تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة:108] قال أهلُ التَّفسيرِ يعني: تبطُلُ أيمانُهم وتُؤخَذُ أيمانُ هؤلاء.
          قلتُ: ورَوَى الحاكمُ في «مستدرَكِه» عن ابن عُمَرَ ☻: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم ردَّ اليمينَ على طالِبِ الحقِّ)) ثمَّ قال: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد.
          فَصْلٌ: قولُه: (يَتَشَحَّطُ فَي الدَّمِ) التَّشحُّطُ الاضطرابُ في الدَّمِ.
          وقولُه: (أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْيَهُودِ؟) هو بالنُّون والفاءِ، أي يمينَ خمسين، يُقال: نَفَّلْتُهُ فَتَنَفَّلَ أي حلَّفْتُهُ فَحَلَف، ونَفَل وانْتَفَلَ إذا حَلَفَ، وأصْلُ النَّفَلِ النَّفْيُ، يُقال: نَفَلْتُ الرَّجلَ عن نَسَبِه، وانْفُلْ عن نَفْسِكَ إذا كنتَ صادقًا، أي انْفِ ما قيلَ فيكَ، وَسُمِّيَتِ الْيَمِينُ فِي الْقَسَامَةِ نَفَلًا لأَنَّ القِصاص يُنْفَى بِهَا، ومنه حديثُ عليٍّ ☺: لَوَدِدْتُ أَنَّ بَنِي أُمَيَّة رَضُوا ونَفَّلْناهم خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْلِفُون مَا قَتَلْنا عُثْمَانَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ قاتِلًا، يريد: نَفَلْنَا لهم. وكذا قال صاحبُ «العين»: انْتَفَلْتُ مِن الشَّيءِ انتفيتُ منه. فَنَفَلُ اليَهُودِ هو أيمانُهم أنَّهم ما قتلوهُ وانتفاؤُهم عن ذلك.
          وقولُه: (ثُمَّ يَنْفلُوْنَ) هو بكسر الفاء وضمِّها. وفيه تبرئةُ المدَّعَى عليهم، إلَّا أنَّه مُرْسَلٌ لا يُقابَلُ به أخبارُ الجماعة المسندَةِ الَّتي قدَّمْناها.
          فَصْلٌ: وقولُه: (قُلتُ: وَقَد كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا حَليفًا لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ فَأَخَذُوا الْيَمَانِيَ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ ☺ بِالْمَوْسِمِ...) إلى آخرِه. كانت العربُ يَتعاهدون ويَتعاقدون على النُّصرةِ والإعانةِ، وأنْ يُؤخَذَ كلٌّ منهم بالآخَر، فإذا أرادوا أن يتبرَّؤوا مِن إنسانٍ قد حالفوه أظهروا ذلك للنَّاس وسمَّوْا ذلك الفعلَ خَلْعًا، والمتبرَّأَ منه خَلِيعًا أي مَخْلُوعًا، فلا يُؤخذونَ بجنايتِهِ ولا يُؤخَذُ بجنايتِهم، فكأنَّهم قد خَلَعوا اليمينَ الَّتي كانوا قد لَبِسُوها معه، وسمَّوْه خَلْعًا وخَلِيعا مجازًا واتِّساعًا، وبه سُمِّي الأميرُ والإمامُ إذا عُزِلَ خَلِيعًا، كأنَّه قد لَبِسَ الخلافةَ والإمارةَ ثمَّ خَلَعَها.
          فَصْلٌ: فإنْ قلتَ: قد اختلفتْ ألفاظُ حديثِ القَسامةِ، فرواه سعيد بن عُبَيْدٍ عن بُشَيرِ بن يَسَارٍ: ((فَوَدَاهُ رسولُ الله صلعم مائةً مِن إبِلِ الصَّدقةِ)) ورواه سائرُ الرُّواةِ عن يَحيى بن سَعِيدٍ عن بُشَيرٍ: ((فَوَدَاهُ مائةً مِن عندِه)) فما وجهُ الجمع؟ وإبِلُ الصَّدقة للفقراءِ والمساكينِ ولا تُؤدَّى في الدِّياتِ، فما وجه تأديتِها في دِيَةِ اليَهُود؟
          فالجوابُ: أنَّ روايةَ مَن رَوَى: ((مِن عندِه)). تُفسِّرُ روايةَ مَن رَوَى: ((دَفَعَ مِن إبلِ الصَّدقة)) وذلك أنَّه ╕ لَمَّا عَرَضَ الحُكْمَ في القَسامةِ على أولياءِ الدَّمِ بأن يَحلفُوا ويَستحقُّوا، ثمَّ نَقَلَهُم إلى أنْ يَحلِفَ لهم اليهودُ ويبرَؤُوا مِن المطالبةِ بالدَّمِ قالوا: كيف نأخذُ أَيْمانَ قومٍ كفَّارٍ؟ وتعذَّرَ إنفاذُ الحكمِ خَشِيَ ╕ أن يبقَى في نُفِوسِ الأنْصارِ ما تُتَّقى عاقبتُهُ مِن مطالبتِهم لليَهُودِ بعد حينٍ، فَرَأَى أنَّ مِن المصلحةِ أنْ يَقطَعَ ذلك بينهم وَوَدَاهُ مِن عندِه وتَسلَّف ذلك مِن إبِلِ الصَّدقةِ حتَّى يؤدِّيَها ممَّا يُفيءُ اللهُ عليه مِن خُمُسِ المغنَمِ؛ لأنَّه ╕ لم يكنْ يَجتمعُ عندَه ممَّا يصيرُ له في سُهْمَانِه مِن الإبِلِ ما يبلُغُ مئةً لإعطائِه لها وتفريقِها على أهلِ الحاجةِ؛ لقولِه: ((ما لِي مِمَّا أفاءَ اللهُ عليكم إلَّا الخُمُسُ وهو مردودٌ فيكم)) فمَنْ رَوَى: ((مِن إِبِلِ الصَّدقةِ)) أخبرَ عن ظاهرِ الأمر ولم يَعلَمْ باطِنَهُ، ومَن رَوَى: ((مِن عندِه)) عَلِمَ وجْهَ القِصَّةِ وباطِنَها فلم يذكُرْ إبِلَ الصَّدقةِ.
          وكانَ في غُرْمِه لها صُلحًا عنِ اليَهُودِ وجهانِ مِن المصلحةِ، أحدُهما: أنَّه عوَّضَ أولياءَ الدَّمِ دِيَةَ قتيلِهم فسَكَنَ بذلك بعضُ ما في نفوسِهم، وقَطَعَ العداوةَ بينهم وبين اليهود. والثَّاني: استئلافُ اليَهُودِ بذلك وكان حريصًا على إيمانِهم.
          وقيل: كانتِ الإبلُ مِن الخُمُسِ فعبَّر عنها بالصَّدقةِ، وقيل: كان ولاةُ الدَّمِ فقراءَ فأعطاهم مِن إبلِ الصَّدقةِ، يوضحُّه حديثُ «الموطَّأ»: خرجُوا إلى خَيْبَرَ مِن جَهْدٍ أصابهم.
          وقد رَوَى ابنُ أبي عَاصِمٍ حديثًا يدلُّ عليه في أمْرِ الجنينِ المتقدِّم، أخرجَهُ مِن حديثِ أبي المَلِيح عن أبيه، قال ╕ لأخي القاتِلَةِ: ((دِيَتها)) فقال: يا رسولَ الله، إنَّ لها بنونَ فهم أحقُّ بِعَقْلِ أمِّهم منِّي، قال: ((أنت أحقُّ بِعَقْلِ أُختِكَ مِن ولدِها)) فقال: يا رسولَ الله، ما لي شيءٌ يُعْقَلُ منه، فقال: ((يا حَمَلُ بنَ مالكٍ اقبضْ مِن تحتِ يدِك مِن صدقاتِ هُذَيلٍ مئةً وعشرين شاةً)) قال ابنُ أبي عَاصِمٍ: دلَّ هذا على أنَّ مَن كان مِن العاقِلَةِ فقيرًا لم يَحمِلْ ولم يُرَدَّ قِسطُه على باقي العاقِلَةِ وأدَّى الإمامُ عنه.
          وقال ابنُ الطَّلاع: إنَّما أعطَى الشَّارعُ مِن حقِّ الغارِمينَ الَّذين لهم سهْمٌ مِن الصَّدقةِ.
          وفيه دِلالةٌ أنَّه يُعطَى مِن الزَّكاةِ أكثرُ مِن نِصابٍ.
          فَصْلٌ: القَسامةُ بفتْحِ القافِ وتخفيفِ السِّينِ: مشتقَّةٌ مِن القَسَمِ والإقسامِ وهو اليمينُ، يُقالُ: أقسمْتُ إذا حلفتُ وقَسَمْتُ قَسامةً لأنَّ فيها اليمين، فالصَّحيح أنَّها اسمٌ للأَيمان، وقال الأَزْهَرِيُّ: إنَّها اسمٌ للأولياءِ الَّذين يَحلِفُون على استحقاقِ دمِ المقتول.
          فَصْلٌ: وحاصلُ الكلام فيها في سِتَّةِ مواضعَ: هل تُوجِبُ حكمًا أم لا؟ وما الَّذي توجبه؟ ومَا الَّذي يُوجِبُها؟ ومَن يبدأُ باليمين؟ وفي موضِعِ اليمين، وكم عِدَّةُ مَن يَحلف فيها؟ وقد أوضحْنا ذلك بحمدِ الله ومَنِّهِ ويأتي بعضُه، وأنَّ الجمهور على أنَّها تُوجِبُ حُكمًا، وأنَّه عندَ مالكٍ القَوَدُ في واحدٍ، وقال الشَّافِعيُّ في الجديد: توجِبُ الدِّيةَ.
          وإذا قلنا بوجوبِ الدِّية فقال في القديم: يُقاد مِن جميعِ المدَّعَى عليهم، وهو قولُ المغيرة، وإذا قلنا: يُقاد بها / مِن واحدٍ هل يُقسَمُ عليه؟ قاله مالكٌ، أو على الجماعةِ ثُمَّ يَقتُلُون واحدًا؟ قاله أشهبُ.
          فَصْلٌ: واخْتُلِفَ في مسائلَ هل تُوجبُ القَسامةَ؟ محلُّ الخوضِ فيها كتبُ الفُرُوع وبَسَطهُ المالكيَّةُ.
          واخْتُلِف عندهم هل يَحلِفُ قائمًا أو قاعدًا؟ وهل يَستقبِلُ القِبْلَةَ؟ وهل يزيدُ: عالمِ الغيبِ والشَّهادة الرَّحمنِ الرَّحيم؟ وهل يحلفُ جميعُ العَصَبَةِ إذا كانوا أكثرَ مِن خمسين؟ وإذا استوتْ حالتُهم في كَسْرِ يمينٍ هل يُقْرِعونَ أو يَحلِفُ جميعُهم أو تُستَكْمَلُ على أحدِهم؟ وإذا قلنا بردِّ اليمينِ في الخطأِ هل يُجتَزَأُ بيمينِ بعضٍ؟ وإذا كانوا خمسين هل يَحلِفُ بعضُهم؟
          فَصْلٌ: تكلَّفتِ الحنفيَّةُ في الجواب عن الحديثِ السَّالفِ: ((إلَّا في القَسامةِ)) فقال الطَّحاويُّ: معناه فإنَّه يَحلِفُ مَن لم يدَّع القَتْلَ نفسه؛ قال: ويحتمل ((إلَّا في القسامة)) فإنَّه لا يبرأُ باليمينِ مِن الخصومةِ لأنَّ الدِّيةَ تجبُ مع اليمينِ فيها.
          قال مَن احتجَّ لمالكٍ: كما تبيَّن أنَّكم خالفتم الخبرَ مِن وجهٍ واحدٍ. قال: لا بل يُخالفُه مِن وجهين: وذلك أنَّ الاستثناءَ مِن الإثباتِ نفيٌ، فهو أثبتَ اليمينَ على مَن أنكَرَ ونفاها بالاستثناء عنهم إلى غيرِهم، فقلتم أنتم: أثبتَها فيهم واستْثنى إثباتًا على المنكِر ثانيًا، والثَّاني: أنَّه ╕ نَفى بالاستثناءِ أن يكون اليمينُ على المنكِرِ وحدَه، فأثبتُّم أنتم اليمينَ عليه وعلى غيرِه.
          فخالفتم الخبرَ مِن وجهينِ: الشَّارعُ قال: ((اليمينُ على مَن أنكر إلَّا في القَسامة)) قلتم أنتم: على مَن أنكرَ في القَسامةِ، والثَّاني: قلتم: اليمينُ على المنكِر وغيرِه. وقالوا أيضًا: إلَّا القَسامةَ، فإنَّ اليمينَ فيها واحدةٌ.
          والجوابُ: أنَّ الاستثناء يَرجع إلى ما ذُكِرَ وتقدَّم، وإنَّما تقدَّم ذِكْرُ اليمينِ لا ذِكْرُ أعدادِه.
          فَصْلٌ: قصَّةُ عُمَرَ فيمن وُجِدَ عند بيوتِ السَّمَّانين لا تخالف مالكًا لأنَّه لا يُوجبُ بوجودِه في المَحَلَّة شيئًا، وإنَّما يوجب الدِّيةَ في ذلك أبو حَنيفَةَ، كما سلفَ أنَّه ╕ لم يُوجِبْ على اليَهُودِ شيئًا بوجودِ القتيلِ في محلَّتهم.
          فَصْلٌ: قولُه: (الْكُبْرَ الْكُبْرَ) هو منصوبٌ على الإغراء، أي الزمُوا تَقْدِمَةَ الكبير، أيضًا على تقدير فِعْلٍ، أي لِيتكلَّمِ الكبيرُ. و(الْكُبْرَ) بضمِّ الكافٍ وسكون الباءِ الكبيرُ. قال الجَوْهَرِيُّ: هو كُبْرُ قومِهِ، أي أقعدُهُم في النَّسَبِ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ) يُستدلُّ به على سماعِ حُجَّةِ الخصم على الغائب.
          فَصْلٌ: قولُه: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ) أي أَظْهَرَه.
          وقولُ النَّاسِ: (القَسَامَةُ حقٌّ القَوَدُ بِهَا...) إلى آخرِه فيه حُجَّةٌ للجمهورِ القائلين بها.
          وقولُه: (وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ) أي أقامَني.
          وقولُ أبي قِلابة: (لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ زَنَى ولَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟) قال الشَّيخُ أبو الحَسَنِ: لم يمثِّل أبو قِلابة بما شبَّهَهُ؛ لأنَّ الشَّهادةَ طريقُها غيرُ طريقِ اليمين. قال: والعجبُ مِن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز على مكانِه مِن العلمِ كيفَ لم يُعَارِضْ أبا قِلابةَ في قولِه، وليس أبو قِلابة مِن فقهاء التَّابعين، وهو عند النَّاسِ معدودٌ في البلد؟!
          وقد أسلفْنا بعضَ هذا، ويدلُّ على صِحَّةِ مقالةِ الشَّيخِ أبي الحَسَنِ في الفَرْقِ بين الشَّهادةِ واليمينِ أنَّه ╕ عَرَضَ على أولياءِ المقتولِ اليمينَ وعَلِمَ أنَّهم لم يحضروا بخيبرَ.
          وقولُه: (قَطَعَ فِي السَّرَقِ) هو بفتْحِ السِّينِ والرَّاءِ مصدرُ سَرَقَ سَرَقًا.
          وقولُه: (فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ) هو بكسْرِ القافِ على وزن عَلِم.
          وقولُه: (أَفَتَسْتَحِقُّوْنَ الدِّية بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟) احتجَّ به الشَّافِعيُّ _كما قدَّمناه_ أنَّ القَسامة تجبُ بها الدِّيةُ دونَ الدَّمِ، وفيه دليلٌ أيضًا أنَّ الحُكْمَ لا يكون بمجرَّدِ النُّكُولِ دونَ أنْ يُرَدَّ اليمينُ على المدِّعِي خلافًا لأبي حَنيفَةَ في منعه الردَّ؛ وموضعُ الدِّلالةِ أنَّه حلَّف المدَّعينَ.
          فَصْلٌ: في القتلِ بالقَسامةِ: جاء في حديثِ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ: ((أنَّه ╕ قَتَلَ بالقَسامةِ رَجُلًا مِن بني نَصْر بن مالكٍ)) وفي حديثِ أبي المغيرةِ: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم أقادَ بالقَسامةِ بالطَّائفِ)) وكِلَاهُما مُنقطِعٌ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حَزْمٍ: أمَّا مَن جعل اليمينَ في دعوى الدَّمِ خمسين يمينًا ولا بُدَّ، لا حُجَّةَ لهم إلَّا القياسُ، وأمَّا مَن رَوَى عن الزُّهْرِيِّ أنَّ القَسامةَ كانت في أَمْرِ الجاهليَّةِ فأقرَّها الشَّارعُ تعظيمًا للدَّمِ ومِن سُنَّتها، ومَا بلغَنَا فيها أنَّ القتيلَ إذا تكلَّمَ بَرِئَ أهلُه، وإنْ لمْ يتكلَّم حَلَفَ المدَّعِي، وذلك فِعْلُ عُمَرَ وهو الَّذي أدركْنا النَّاسَ عليه. فَمُرْسَلٌ، وفيه رجلٌ متَّهمٌ بالوضْعِ.
          قال ابنُ عبد البَرِّ في «استذكارِه»: لم يَختَلِفْ قولُ مالكٍ وأصحابُه أنَّ قول المقتولِ قبل موتِه: دمِي عندَ فلانٍ أنَّه لَوْثٌ يُوجِبُ القَسامةَ، ولم يُتابِع مالكًا على ذلك أحدٌ إلَّا اللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ. وَرَوَى ابنُ القاسمِ عن مالكٍ أنَّ الشَّاهدَ الواحدَ العَدْلَ لَوْثٌ. وفي روايةِ أشهبَ: وإنْ لم يكنْ عَدْلًا فهو لَوْثٌ. وقد أسلفنا ذلك عنه. قال مالكٌ: واللَّوْثُ: الَّذي ليس بقويٍّ ولا قاطعٍ. واختلفوا في المرأةِ الواحدةِ هل تكون شَهادتُها لَوْثًا يُوجبُ القَسامةَ؟ وكَذلك اختلفوا في النِّساء والصِّبيانِ.
          فَصْلٌ: قال ابن حَزْمٍ: وأمَّا المالكيُّون فإنَّهم خالفوا هذا الحكمَ ولا يَرون فيه قَسامةً أصلًا إذا لم يتكلَّم، وذكروا ما حدَّثَناه عبدُ الله بن بَزِيع حدَّثنا مُحَمَّد بن مُعَاويَة حدَّثنا أحمدُ بن شُعَيْبٍ إلى ابنِ عَبَّاسٍ ☻ قال: أولُ قَسامةٍ كانت في الجاهليَّة أنَّ رجلًا مِن بني هاشمٍ استأجره رجُلٌ مِن قريشٍ فانطلقَ معه، فمرَّ رجلٌ مِن بني هاشمٍ انقطعت عُرْوَةُ جُوالِقِه فقال: أَغِثْنِي بِعِقَالٍ أشدُّ عُرْوَةَ جُوالِقي، فأعطاه، فلمَّا نزلوا عَقَل الإبلَ إلَّا بعيرًا واحدًا، فقال الَّذي استأجرهُ: ما شأْنُ هذا البعيرِ؟ قال: ليس له عقال، قال: فأينَ عِقَالُه؟ قال: أعطيتُه رجلًا مِن بني هاشِمٍ، فَحَذَفَه بِعَصا كان فيها أَجَلُهُ، فترَكَهُ وانصرفَ، فمرَّ به رجلٌ مِن أهلِ اليمن، فقال له وهو يموتُ: أتشهَدُ الموسمَ؟ قال: نعم، قال: إذا شهدْتَهُ فنادِي: يا آل قُرَيشٍ، ثمَّ يا بني هاشمٍ، ثمَّ اسأل عن أبي طالبٍ فأخبرْهُ أنَّ فلانًا قَتَلَنِي في عِقَالٍ، ومَاتَ المستأجَرُ، فلمَّا قَدِم الَّذي كان استأجرَه سأله أبو طالبٍ عن صاحبِهم: ما فعل؟ قال: مرِضَ ومات، فمكث حينًا.
          ثمَّ إنَّ الرَّجلَ شهدَ الموسِمَ وأخبرَ أبا طالبٍ الخبرَ، فقال: اخترْ منَّا إحدَى ثلاثٍ: إمَّا أن تُودِيَ مئةً مِن الإبل؛ فإنَّك قتلتَ صاحبَنا خطأً، وإنْ شئت حلَفَ خمسونَ مِن قومِك أنَّك لم تَقتلْه، فإنْ أبيتَ قتلْنَاكَ به، فأتى قومَهُ فذكَرَ ذلك لهم فقالوا: نحلفُ، فجاءت امرأةٌ مِن بني هاشمٍ كانت تحتَ رجُلٍ منهم قد وَلَدَتْ له، فقالت: يا أبا طالبٍ أحبُّ أن تُجِيز ابنِي هذا بِرَجُلٍ غيرَه، ولا تُصْبِرْ يمينَهُ، ففَعَلَ. وأتاه آخرُ منهم فقال: يا أبا طالبٍ، يُصيبُ كلَّ رجلٍ مِن الخمسين بعيرانِ فاقبلْهما منِّي ولا تُصْبِرْ يميني حيث / تُصْبَرُ الأيمانُ فَقَبِلهما، وجاء ثمانيةٌ وأربعون فحلفوا. قال ابنُ عَبَّاسٍ: فوالَّذي نفْسِي بيدِه ما حالَ الحولُ ومِن الثَّمانيةِ والأربعين عينٌ تَطْرِفُ.
          قال ابنُ حَزْمٍ: وإنْ كان قد احتجُّوا بهذا فلقد خالفوه في ثلاثةِ مواضعَ؛ لأنَّ قول المقتولَ لم يتبيَّن بشاهدَينِ وهُم لا يرون القَسامةَ بمثلِ هذا، وأنَّ أبا طالبٍ بدأ بالمدَّعَى عليهم بالأَيمان وهُم لا يقولون بهذا، وأنَّ أبا طالبٍ أقرَّ أنَّ ذلك الَّذي قَتَلَ الهاشميَّ خطأ، ثمَّ قال له: إن أبيتَ قتلناكَ به، وهم لا يرون القَوَدَ في قتْلِ الخطأ، فمِن العجَبِ احتجاجُهم بخبرٍ هُم أوَّلُ مخالفٍ له. وأمَّا نحنُ فلا ننكِرُ أن تكونَ القَسامةُ كانت في الجاهليَّةِ في القتيلِ يوجَدُ فأقرَّها الشَّارعُ على ذلك، وهو حقٌّ عندَنا لِصحَّةِ الخبرِ.
          ومِن غامضِ انتزاعِهم ولا حُجَّة لهم فيه أيضًا لأنَّه حُكْمٌ كان في بني إسرائيلَ ولا يَلْزَمُنَا مَا كان فيهم إلَّا أن يُلزِمَنَاهُ عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، وهو قولُه تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثمَّ ذَكَرَ مَا أسلفْناه عن ابنِ جُبَيرٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ مِن قِصَّة البقرةِ، وأنَّهم ضَرُبوا قبْرَ الميِّت ببعضِها فقام وقال: قتَلَنِي ابنُ أخي.
          فإنِ احتجُّوا بحديثِ رضِّ اليهوديِّ رأسَ الجارية فليس صحيحًا لأنَّهم لا يرونَ القَسامةَ بِدَعْوَى مَن لم يبلُغْ، والأظهرُ في هذه الجاريةِ أنَّها لم تبلُغْ لأنَّ في الحديثِ أنَّها جاريةٌ ذاتُ أَوْضاحٍ، وهذه الصِّفةُ عند العربِ _الَّذين بِلُغَتِهم يتكلَّمُ أنسُ بنُ مالكٍ_ يُوقعونَها على الصَّبِيَّةِ لا على المرأةِ البالِغِ.
          وليس القَوَدُ بالشَّاهدينِ إجماعًا _كما ادَّعاه بعضُهم_ لأنَّ الحَسَنَ بنَ أبي الحَسَنِ يقول: لا يُقبَلُ في القَوَدِ إلَّا أربعةٌ، وقد صحَّ أنَّه ╕ قال في حديثِ سَهْلٍ لليَهُود: ((إمَّا أن تَدُوا صاحبَكم أو تُؤذَنوا بحربٍ)) وكان ذلك قبلَ فتْحِها، كما في الحديث الثَّابت عن بُشَير بن يَسَارٍ: أنَّ خيبرَ يومئذٍ كانت صُلحًا. ولم تكن قطُّ صلحًا بعدَ فتحِها عَنْوةً، بل كانوا ذِمَّةً يجري عليهم الصَّغَارُ ولا يُسمَّون صلحًا ولا يمكن أن يُؤذَنُوا للحرب.
          فصحَّ يقينًا أنَّ ذلك الحكمَ مِن الشَّارع إجماعٌ مِن جميع الصَّحابةِ أوَّلِهم وآخرِهم بيقينٍ لا شكَّ فيه؛ لأنَّ اليَهُود بينهم وبين المدينةِ مئةُ ميلٍ إلَّا أربعةُ أميالٍ يتردَّدُ في ذلك الرُّسُل، فلَمْ يَخْفَ ذلك على أحدٍ من الصَّحابةِ بالمدينةِ ولا على اليَهُودِ، وليس الإسلامُ يومئذٍ في غيرِ المدينةِ إلَّا مَن كان مُهَاجِرًا بالحبشةِ أو مُسْتَضْعَفًا بمكَّةَ، وكَذا قال الشَّافِعيُّ: كانت خَيْبَرُ دارَ يَهُودٍ مَحْضَةً لا يُخالطُهم غيرُهم كما أسلفناه عنه.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حَزْمٍ: فإنْ قيل: فما تقولون في قتيلٍ يُوجَدُ وفيه رَمَقٌ فيُحمَلُ فيُموتُ في مكانٍ آخرَ أو في الطَّريق؟ فجوابُنا: أنَّه لا قَسامةَ في هذا، إنَّما فيه التَّداعي فقط، فإن وُجِدَ لا أَثَرَ فيه فقد قلنا إنَّه ╕ إنَّما حكمَ في المقتولِ، وليس كلُّ ميِّتٍ ماتَ حَتْفَ أنفِه مقتولًا.
          فإنْ تيقَّنَّا أنَّه قُتِلَ بأثرٍ وُجِدَ فيه مِن ضَرْبٍ أو شَدْخٍ وشِبْهِ ذلك فهو مقتولٌ بالقَسامةِ فيه، فإنْ أشكلَ أمْرُه فأمكنَ أن يكون ميِّتًا حتفَ أنفه مقتولًا فإنْ تيقَّنَّا أنَّه بشيءٍ وُضِعَ على فِيهِ فقطَعَ نَفَسَهُ فالقَسامة فيه.
          وسواءٌ وجدْنا القتيلَ في دار أعداءٍ مِن الكفَّارِ أو مِن المؤمنين أو أصدقاءٍ مؤمنينَ أو كفَّارٍ أو في دارِ أخيه أو ابنِه أو حيثُ ما وُجِد فالقَسامة في ذلك، وهو قولُ ابنِ الزُّبَيرِ ومُعَاويَةَ بحضرةِ الصَّحابةِ ولا يصحُّ خلافُهما عن أحدٍ مِن الصَّحابة؛ فإنَّهما حَكَمَا في إسماعيلَ بنِ هبَّارٍ وُجِدَ مقتولًا بالمدينةِ وادَّعى قومُه قَتْلَهُ على ثلاثةٍ مِن قبائلَ شتَّى متفرَّقةِ الدُّورِ، زُهْرِيٍّ وتَيْمِيٍّ ولَيْثِيٍّ كِنَانيٍّ، ولم يُوجَد المقتولُ بين أظهُرِهم.
          قال ابنُ حَزْمٍ: وسواءٌ وُجِدَ المقتولُ في مسجدٍ أو في دارِ نفْسِه أو في المسجدِ الجامعِ أو في السُّوقِ أو الفلاةِ أو في سفينةٍ أو نهرٍ يجري أو في بحْرٍ أو على عُنُقِ إنسانٍ أو في سقفٍ أو في شجرةٍ أو في غارٍ أو على دابَّةٍ واقفةٍ أو سائرةٍ فكلُّه سواءٌ كما ذكرنا.
          وقالوا: إنْ وُجِدَ بين قريتَينِ فإنَّه يُذْرَعُ ما بينهما فإلى أيِّهما كان أقربَ حَلَفُوا وَوَدُوا، فإنْ تعلَّقوا في ذلك بما رُوِّيناه عن عطيَّةَ العَوْفيِّ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قال: ((وُجد قتيلٌ بين قريتَينِ فأمَرَ ╕ فَقِيس بينهما إلى أيِّهما هو أقربُ؟ فوُجد أقربَ إلى أحدهما بِشِبْرٍ، فقضى به على مَن كانت أقربَ له)).
          ومِن طريقِ عبدِ الرَّزَّاق عن ابنِ جُرَيْجٍ عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه قال: كانت أمُّ عَمْرو بن سَعْدٍ عند الجُلَاسِ بن سُويدِ بن الصَّامتِ، فقال الجُلَاس في تَبُوكَ: إنْ كان ما يقولُ مُحَمَّدٌ حقًّا لنحن شرٌّ مِن الحمير، فسَمِعها عُمَيرٌ وأخبر رسولَ الله صلعم، فدَعَا الجُلَاسَ فأنكَرَ، فأنزل الله تعالى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة:74] فقال الجُلَاسُ: أي ربِّ فإنِّي أتوبُ إلى الله، قال عُرْوَةُ: وكان مولى الجُلَاسِ قُتِلَ في بني عَمْرو بن عوفٍ فأبى بنو عَمْرِو بن عوفٍ أن يَعْقِلوه، فلمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلعم جعل عَقْلَه على بَنِي عَمْرو بن عوفٍ.
          ومِن حديثِ عبدِ الله الشَّعْبِيِّ عن مَكْحُولٍ: ((أنَّ قتيلًا وُجِدَ في هُذَيلٍ، فأتَوْا رسولَ الله صلعم فأخبروه فَدَعا خمسين منهم، فأحلفَهُم كلَّ رجلٍ عن نفْسِه يمينًا باللهِ ما قَتلْنَا ولا عَلِمْنا ثمَّ أَغْرَمَهم الدِّية)).
          ومِن حديثِ شُعْبَة عن حمَّاد بن أبي سُلَيْمَانَ عن إبراهيمَ: كانت القَسامةُ في الجاهليَّةِ إذا وجدوا القتيلَ بين ظَهْرانَيْ قومٍ أقسمَ منهم خمسون: مَا قَتَلْنَا ولا عَلِمْنَا قَاتِلًا، فَإِنْ عَجَزَتِ الْأَيْمَانُ رُدَّتْ عَليهِم ثُمَّ عَقَلُوا.
          ومِن حديث مَكْحُولٍ: حدَّثنا عَمْرُو بن أبي خُزَاعةَ أنَّه قُتِلَ فيهم قتيلٌ على عهدِ رسولِ الله صلعم فجعل القَسامة على خُزَاعةَ: بالله مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا، وَحَلَفَ كُلٌّ مِنهُم عَن نَفْسِه وَغَرِمُوا الدِّيَةَ.
          قال ابنُ حَزْمٍ: لا يجِبُ الاشتغالُ بهذه كلِّها، أمَّا الأوَّلُ: فهالكٌ لأنَّه تفرَّد به عطيَّةُ وهو ضعيفٌ جدًّا ساقطٌ وما ندري أحدًا وثَّقه، قلتُ: ذَكَرَهُ ابنُ سَعْدٍ في «طبقاتِه» وقال: كان ثقةً إن شاء الله وله أحاديثُ صَالحةٌ، وذكره أبو حفصٍ البَغْداديُّ في «ثقاتِه» وَقال يَحيى بن مَعِينٍ: صالحٌ، وقال أبو حاتمٍ: ضعيفٌ يُكتَبُ حديثُه.
          قال ابنُ حَزْمٍ: رواه عنه أبو إسرائيلَ وهو إسماعيلُ بن أبي إسحاقَ، بَلِيَّةٌ عن بَلِيَّةٍ؛ لأنَّ الْمُلَائِيَّ ضعيفٌ جدًّا، وليس في الذَّرع / بين القريتينِ حديثٌ غيرَ هذا البتَّةَ لا مسندٌ ولا مرسلٌ.
          قلتُ: أبو إسرائيلَ اسمُه إسماعيلُ بن خَلِيفة، قال أحمد: يُكتَبُ حديثُه، وقال ابنُ مَعِينٍ: لا بأس به، وفي روايةٍ: صالحٌ، وعند السَّاجِيِّ عنه: ثِقَةٌ، وقال أبو حاتمٍ: حسنُ الحديثِ جيِّدُ اللقاءِ، وقال أبو زُرعةَ: صَدُوقٌ، وذكره ابنُ حِبَّان في «ثقاتِه» وقال: يُخطئ، حكاه الصَّيرَيفينيُّ عنه، وقال ابنُ سَعْدٍ: يقولون إنَّه صَدُوقٌ، ووثَّقه يَعْقُوبُ بن سُفْيَان الفَسَويُّ.
          قال: وخبرُ الجُلَاسِ مُرْسَلٌ؛ لأنَّ راويه عُرْوَةُ أنَّه ╕، وليس فيه أيضًا ذِكْرُ القَسامةِ ولا أنَّه وُجد قتيلًا بينهم، إنَّما فيه أنَّه قُتِلَ فيهم، فالعَقْلُ عليهم على هذا، وهذه صِفةُ قَتْل الخطأ.
          قلتُ: عُمَيرُ بن سَعْدٍ راويهِ كان عاملًا لعُمَرَ على حِمْصَ وتوفِّي بعد عُمَرَ، فسماعُ عُرْوَة منه غيرُ ممتَنعٍ؛ يوضِّحهُ قولُ عُرْوَة آخِرَهُ: فما زال عُمَيرٌ مَكينًا عند النَّاس حتَّى مات، فهذا إخبارٌ مِن عُرْوَة برؤيتِه ومشاهدتِه، وإذا كان كذلك كان حديثُه هذا غيرَ مرسَلٍ.
          ثم قال ابنُ حَزْمٍ: وأمَّا حديثُ عَمْرِو بن أبي خُزَاعة فَمُرْسلٌ وعَمْرٌو مجهولٌ. قلتُ: عَمْرٌو مذكورٌ في كتبِ الصَّحابةِ فلا تضرُّ جهالتُه.
          قال ابنُ حَزْمٍ: وأمَّا ما ذكروا عن عُمَرَ وعليٍّ فالَّذي عن عليٍّ لا يصحُّ البتَّةَ لأنَّه عن أبي جَعْفَرٍ وهو منقطعٌ، وعن الحارثِ وقد وصفهُ الشَّعْبِيُّ بالكذبِ، وفيه أيضًا الحجَّاجُ بن أرطأةَ، والرِّوايةُ عن عُمَرَ غيرُ صحيحةٍ، ولا يُعلَمُ في القرآنِ ولا في السُّنَّةِ الثابتة عن رسول الله صلعم ولا في الإجماعِ ولا في القياسِ أن يَحلِفَ مدَّعَى عليه ويَغْرَمَ.
          قلتُ: الرِّوايةُ عن عُمَرَ أخرجها ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عبدِ الرَّحيم عن أشعثَ عن الشَّعْبِيِّ قال: قُتِلَ قتيلٌ بين وادِعَةَ وخَيْوانَ، فبعثَ معهم عُمَرُ المغيرةَ بن شُعْبَةَ فقال: انطلِقْ معهم فَقِسْ ما بين القريتين. الحديثَ. وحدَّثَنا وَكِيع حدَّثنا إسرائيلُ عن أبي إسحاقَ عن الحارثِ بنِ الأَزْمع قال: وُجِدَ قتيلٌ باليمن بين وَدَاعَةَ وأرحبَ، فكتب عاملُ عُمَرَ إليه، فكتب إليه عُمَرُ ☺ أنْ قِسْ ما بين الحيَّينِ. الحديث.
          وكِلَا الإسنادين صحيحٌ مُتَّصِلٌ؛ عبدُ الرَّحيم بنُ سُلَيْمَانَ ثقةٌ حافظٌ مصنِّفٌ رَوَى له الجماعةُ، وأشعَثُ هو ابن سَوَّارٍ الكِنْديُّ مِن رجالِ مسلمٍ، وإنْ كان قال فيه أبو زُرعة: لَيِّنٌ، وقال عبدُ الله بن أحمد الدَّوْرَقِيُّ عن يَحيى بنِ مَعِينٍ: ثقةٌ، وقال ابنُ عَدِيٍّ: لم أجدْ له فيما يرويهِ مُنكرًا، إنَّما في الأحايين يخلِطُ في الأسانيدَ ويُخالِفُ، وقال العِجْليُّ: لا بأس به، وذكره أبو حَفْصٍ البغداديُّ في «ثِقاتِه» وَقال: قال عُثْمَانُ بنُ أبي شَيْبَةَ: هو صَدُوقٌ، وخرَّج له ابنُ حِبَّانَ في «صحيحِه»، وذَكرُه في «ثقاتِه» الصَّيرَيفِينيُّ. وصرَّح جماعةٌ بسماعِ الشَّعْبِيِّ مِن المغيرةِ.
          وسندُ الثَّاني لا يُسأل عنه، والحارثُ ذكرَهُ ابنُ حِبَّان في «ثقاتِه» ووصفَهُ بالرِّوايةِ عن عُمَرَ وابنِ مَسْعُودٍ، ووصفهُ أيضًا بأنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عنه، وقال: مات في إمارةِ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ على الكوفةِ سنةَ سِتِّين في آخِرِ وَلايةِ مُعَاويَةَ.
          وعندَ ابنِ حَزْمٍ نفْسِه أنَّ الضَّحَّاك رواه عن مُحَمَّد بن المُنْتَشِرِ. وفي «الاستذكار» رَوَى الحَسَنُ عن الأحنفِ بن قيسٍ عن عُمَرَ: أنَّه اشترط على أهلِ الذِّمَّةِ إنْ قُتِلَ رجلٌ مِن المسلمين بأرضكم فعليكم الدِّيةُ.
          فَصْلٌ ينعطِفُ على ما مضى:
          قيل: إنَّ أوَّلَ مَن حَكَمَ بالدِّيةِ في القَسامةِ عُمَرُ وأنَّه لا يصحُّ فيها عن أبي بَكْرٍ شيءٌ.
          مِن مراسيلِ الحَسَنِ: قال الحَسَنُ: القتلُ بالقَسامةِ جاهليَّةٌ.
          وذَكَرَ عبدُ الرَّزَّاق أنَّ هذه القَسامةَ أوَّلُ قَسامةٍ كانتْ في الإسلام، وذكر أيضًا عن مَعْمَرٍ قال: قلتُ لعُبَيْد اللهِ بن عمرَ: أعلمتَ أنَّ رسولَ الله صلعم أقادَ بالقَسامةِ؟ قال: لا، قلتُ: فأبو بَكْرٍ وعُمَرُ؟ قال: لا، قلتُ: فكيف تَجْترؤون عليها؟ فسَكَتَ، قال: فقلتُ ذلك لمالكٍ، فقال: لا تضعْ أمْرَ رسولِ اللهِ على الخَتْلِ لو ابتُلِيَ بها أقادَ بها.
          قال عبدُ الرَّزَّاق: وأخبرَنا ابْن جُرَيْجٍ أخبرني يُونُس بن يُوسُف قلتُ لابن المسيِّب: أعجَبُ مِن القَسامةِ يأتي الرَّجلُ فيُسأل عن القاتل والمقتولِ لا يُعرف القاتلَ مِن المقتولِ ثمَّ يُطَلُّ، قال: نعم، قَضَى رسولُ الله صلعم بالقَسامةِ في قتيلِ خَيْبرَ، ولو علِمَ أنَّ النَّاسَ يَجترؤون عليها ما قَضَى بها.
          قال ابنُ جُرَيْجٍ: وسمعتُ ابنَ شِهَابٍ يقول: سنَّةُ رسولِ الله صلعم أنْ يكونَ اليمينُ على المدَّعَى عليهم إنْ كانوا جماعةً، وعلى المدَّعَى عليه إن كان واحدًا وعلى أوليائِه، يحلِفُ منهم خمسونَ رجلًا إذا لم تكن بيِّنةٌ تُؤخَذُ، وإنْ نكلَ منهم رجلٌ واحدٌ رُدَّت قسامَتُهم ووَلِيَها المدَّعونَ فيحلِفُون مثل ذلك، فإن حلَفَ منهم خمسونَ استحقُّوا الدِّيةَ، وإن نقَصَتْ قَسامتُهم ورجع منهم واحدٌ لم يُعطَوا الدِّيةَ.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وهذا يخالفُ ما تقدَّم عن ابنِ شِهَابٍ أنَّه يُوجبُ القَوَدَ بالقَسامةِ لأنَّه لم يُوجب بها هنا إلَّا الدِّيةَ.
          قال عبدُ الرَّزَّاق: أخبرَنا مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ عن أبي سَلَمَةَ وسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عن رجالٍ مِن أصحابِ رسولِ الله صلعم مِن الأنصار: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قالَ ليَهُودَ وبدَأَ بهم: ((يحلفُ منكم خمسون رجلًا)) فأبَوا فقالَ للأنصارِ. الحديث، وفيه: ((فجعلها دِيَةً على اليَهُودِ لأنَّه وُجِدَ بينَ أظهُرِهم)) قال أبو عمر: وهذا حُجَّةٌ قاطعةٌ لأبي حَنيفَةَ وسائرِ أهلِ الكوفةِ، وقد سلفَ ذلك أيضًا.
          قال عبدُ الرَّزَّاق: أخبرنا ابن جُرَيْجٍ أخبرني الفضْلُ عن الحَسَن أنَّه أخبره: ((أنَّ رسولَ الله صلعم بدأَ باليَهُودِ فأَبَوْا أن يحلِفوا، فردَّ القَسامةَ على الأنْصارِ وجعل العَقْلَ على اليَهُودِ)).
          قال: وقد أُنكِرَ على مالكٍ قولُه: الأمر المجتَمَعُ عليه عندَنا والَّذي أرضاهُ، والَّذي اجتمعتْ عليه الأئمَّةُ في القديمِ والحديثِ أنْ يبدأَ المدَّعونَ في الأَيمانِ في القَسامةِ، وأنَّها لا تجِبُ إلَّا بأحدِ أمرَين: أن يقولَ المقتولُ: دمِي عند فلانٍ، أو يأتيَ ولاةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ، قالوا: فكيف؟ قال: اجتمعتْ عليه الأئمَّةُ في القديمِ والحديثِ، وابنُ شِهَابٍ يروي عن سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ وأبي سَلَمَةَ، وأبو سَلَمَةَ أثبتُ وأجلُّ مِن بُشَير بن يَسَارٍ، وهذا الحديثُ وإنْ لم يكنْ مِن روايتِه فمِن روايتِه عن ابنِ شِهَابٍ عن سُلَيْمَان وعِرَاكِ بن مالكٍ أنَّ عُمَر بن الخطَّاب قال للجُهينيِّ الَّذي ادَّعى دمَ وَلِيِّه على رجلٍ مِن بني سَعْدِ بن ليثٍ وكان أجرى فَرَسَهُ فوطِئَ على أصبغَ الجُهَنيِّ فمات منها، فقال عُمَرُ للّذي ادَّعى عليهم: أتحلِفُون باللهِ خمسينَ يمينًا / أنَّه مَا ماتَ منها؟ فأَبَوْا وتحرَّجوا، فقال للمدَّعينَ: أتحلِفُون؟ فأَبَوا، فقَضَى بِشَطْرِ الدِّية على السَّعديِّين.
          قالوا: فأيُّ أئمَّةٍ اجتمعتْ على مَا قال!؟ ولم يَبْدُ في ذلك وَلا في قولِ المقتولِ: دمِي عند فلانٍ، عن أحدٍ مِن أئمَّةِ المدينةِ لا صَاحبٍ ولا تابِعٍ ولا أحدٍ يُعْلَمُ قِيْله ممَّن يُروَى قولُه. وقد أنكرتْ طائفةٌ مِن العلماء القولَ بالقَسامةِ ودفعوها جملةً واحدةً ولم يقضُوا بشيءٍ منها كما سلف.
          فَصْلٌ: اختُلِفَ فيما إذا كان الأولياءُ في القَسامةِ جماعةً، فقال مالكٌ وأحمدُ: تُقسَمُ الأيمانُ بينهم بالحسابِ ولا يَلزَمُ كلَّ واحدٍ منهم خمسونَ يمينًا، وإنْ كانوا خمسةً حَلَفَ كلُّ واحدٍ منهم عشرةَ أيمانٍ، وإنْ كانوا ثلاثةً حَلَفَ كلُّ واحدٍ سبعةَ عشرَ يمينًا وجُبِرَ الكسرُ، إلَّا في إحدى الرِّوايتينِ عن مالكٍ فإنَّه قال: يحلف منهم رجلانِ يمينَ القَسامةِ وهي خمسون.
          وقال الشَّافِعيُّ في أحدِ قوليهِ: يحلِفُ كلُّ واحدٍ منهم خمسين يمينًا، وَالآخَرُ كقولِ مالكٍ في المشهورِ عنه وعن أحمدَ. وقال أبو حَنيفَةَ: تُكرَّرُ عليهم الأَيمان بالإدارةِ بعدَ أنْ يبدأَ أحدُهم بالقُرعةِ ثمَّ يُؤخَذُ على اليمين حتَّى تبلُغَ خمسين يمينًا.
          فَصْلٌ: اختُلِفَ في إثباتِ القَسامة في العبيد، فقال أبو حَنيفَةَ وأحمد: وعليهنَّ قيمتُه في ثلاثِ سنينَ ولا يُبْلَغُ بها دِيَةُ الحرِّ. وقال مالكٌ وأبو يُوسُف: لا ولا غرامةَ وهو مُهدَرٌ، وقاله الأوزاعِيُّ أيضًا بزيادةِ: ويَغْرَمون ثَمَنَه. وللشَّافعيِّ قولان أصحُّهما: نعم.
          واختُلِف أيضًا هل تُسمع أيمانُ النِّساءِ في القَسامةِ؟ فقال الأوَّلانِ: لا في العمْدِ وَلا في الخطأ.
          وقال زُفَرُ بالقَسامةِ والقيمةِ يَغْرَمُونها. والظَّاهريَّةُ جعلوه كالحرِّ في كلِّ أحكامه، وقال مالكٌ: تُسمع في الخطأ دون العَمْد.