التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث المقداد: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله

          6865- الحديثُ الخامسُ: حديثُ المقدادِ بن عَمْرٍو ☺ (قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا) الحديث.
          6866- الحديثُ السَّادسُ: وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: قَالَ صلعم لِلْمِقْدَادِ: (إِذَا كَانَ رَجُلٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ) وهو مُسِرٌّ مؤمِنٌ.
          وقولُه: (وَقَالَ حَبِيْبٌ...) إلى آخرِه، أخرجهُ ابنُ سَعْدٍ في «طبقاتِه» عن عُبَيْد الله بن مُوسَى حدَّثَنا إسرائيلُ عنه عن سعيدِ بن جُبَيرٍ به.
          فإنْ قلتَ: كيفَ قَطَعَ يدَه وهو ممَّن يكتمُ إيمانَه؟ قيل: إنَّما دفَعَ عن نفْسِه مَن يريدُ قَتْلَه، فجاز له ذلك كما جاز للمؤمنِ إذا أرادَ أن يَقتُلَه مؤمنٌ أنْ يَدفَعَ عن نفْسِه، فإنِ اضطرهُ الدَّافع عن نفْسِه إلى قَتْلِ الظَّالمِ دون قصْدٍ إلى إرادةِ قَتْلِه فهو هَدَرٌ؛ فلذلك لم يُقِدْ ╕ مِن يدِ المقدادِ كما لم يُقِدْ قتيلَ أُسَامَةَ، لأنَّه قَتَلَهُ متأوِّلًا. قلتُ: المقدادُ لم تُقطَعْ يدُه، وإنَّما قال ذلك للشَّارعِ على جهةِ التَّمثيلِ لأنَّه قال: (إِنْ لَقِيتُ كَافِرًا) إلى آخرِه.
          ويحتمل قولُه: (فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ) أنَّه مغفورٌ له بشهادةِ التَّوحيدِ كما أنتَ مغفورٌ لك بشهادة بدرٍ.
          وقولُه: (فإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ) يعني إنَّكَ قاصدٌ لقتْلِهِ عمدًا آثمٌ كما كان هو أيضًا قاصدًا لقتلِك عمدًا آثمًا، فأنتَ في مِثْلِ حالِه مِن العصيانِ، لَا أنَّ واحدًا منهما يكفُرُ بقتْلِ المسلم لأنَّ إتيانَ الكبائر لمن صحَّ له عَقْد التَّوحيد لا يُخرِجُهُ إلى الكفرِ، وإنَّما هي ذُنوبٌ مُوبِقَاتٌ، للهِ تعالى أن يَغفرَها لكلِّ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا.
          وقال ابن القصَّار: معنى قولِه (وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ / قَبْلَ أَنْ يَقُوْلَهَا) في إباحةِ الدَّمِ لا أنَّه كافرٌ بذلك، وإنَّما قَصَدَ رَدْعَهُ وزَجْرَهُ عن قَتْلِه لأنَّ الكافرَ إذا أسلمَ فقتْلُهُ حرامٌ. وقال الدَّاودِيُّ: يعني أنَّك صِرْتَ قاتلًا كما كان هو قاتلًا، قال: وهذا مِن المعاريضِ لأنَّه أراد الإغلاظَ في ظاهرِ اللَّفْظِ خلافَ باطنِه.
          فَصْلٌ: قولُه: (ثُمَّ لَاذَ بِشَجَرَةٍ) أي لجأَ إليها وعاذَ بها؛ لقولِه للمقداد: (فإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَها) ومعناه أنَّه يجوز أنْ يكونَ اللَّائذُ بالشَّجرةِ القاطعُ لليدِ مؤمنًا يَكتُمُ إيمانَه مع قومٍ كفَّارٍ غَلَبوه على نفْسِه، فإنْ قتلتَهُ فأنت شاكٌّ في قتْلِكَ إيَّاهُ أنَّى يُنَزِّلُه اللهُ مِن العَمْد والخطأ كما كان هو مشكوكًا في إيمانِه، يجوز أن يكونَ يكتُمُ إيمانَه، وكذلك فسَّره المقدادُ كما فَهِمَه مِن رسولِ الله صلعم بقولِه: (فَكَذَلِكَ...) إلى آخرِه. وأنتَ مع قومٍ كفَّارٍ في جُملتِهم وعَدَدِهم مُكثَرًا ومُحْزَبًا، فكذلك الَّذي لاذَ بِشجرةٍ وأظهرَ إيمانَه لعلَّه كان ممَّن يكتمُ إيمانَه، وهذا كلُّه معناه النَّهيُ عن قَتْلِ مَن يشهد بالإيمان.