التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان

          ░15▒ بَابُ مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوِ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَانِ
          6887- 6888- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺، سَمِعَ رَسُولَ الله صلعم يَقُولُ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
          وبِإِسْنَادِهِ: (لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْكَ أَحَدٌ فِي بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ).
          6889- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثنا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صلعم (فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا)، فَقُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: أَنَسٌ ☺.
          الحديثُ الأوَّلُ ظاهرٌ لِمَا ترجَمَ له دون الثَّاني؛ لأنَّ تسديدَ المِشْقَصِ إليه كان مِن فِعْلِه، وكلُّ سلطانٍ يتَأتَّى منه، وحديثُ سَهْلِ بن سَعْدٍ الآتي في بِاب مَن اطَّلع في بيت قومٍ فَفَقئوا عينَه [خ¦6901] شاهدٌ للباب أيضًا، وفي روايةٍ صحيحةٍ: ((فلا تَوْدِيةَ ولا قِصاص)).
          ورُوي عن عُمَرَ أيضًا مع أبي هُرَيْرَةَ، وبه قال الشَّافِعيُّ، وفي «نوادر ابن أبي زَيْدٍ» عن مالكٍ مِثْلُه، والمعروف عن ابنِ وَهْبٍ ويَحيى بن عُمَرَ: إذا عضَّه فجذَبَ يدَه فقلَعَ سِنَّه أنَّه لا شيء عليه وهو هَدَرٌ، ومشهورُ مذهبِ مالكٍ أنَّ عليه القَوَد كما سيأتي.
          وفي روايةٍ لابن أبي عَاصِمٍ: ((حرجٍ)) بدَل (جُنَاحٍ) وفي أُخرى: ((ما كان عليه مِن ذلك شيءٌ)) وفي أخرى: ((يحلُّ لهم فَقْءُ عينِهِ)) ورَوَى مِن حديثِ ثَوْبَانَ مرفوعًا: ((لا يحلُّ لامرئٍ مِن المسلمين أن ينظرَ في جوفِ بيتٍ حتَّى يستأذنَ، فإنْ فعل فقد دخلَ)).
          وقال الطَّحاويُّ: لم أجد لأصحابِنا في المسألة نصًّا غيرَ أنَّ أصلَهم أنَّ مَن فعل شيئًا دَفَعَ به عن نفْسِه ممَّا له فِعْلُه أنَّه لا يضمَنُ ما تَلِف به كالمعضُوضِ إذا انتزعَ يدَه مِنْ فِيِّ العاضِّ لأنَّه دَفَعَ عن نفْسِه، فلمَّا كان مِن حقِّ صاحبِ البيتِ أَلَّا يطَّلِعَ عليه أحدٌ في بيتِه قاصدًا لذلك أنَّ له مَنْعَهُ ودَفْعَهُ فكان ذهابُ عينِه هَدَرًا، على هذا يدلُّ مذهبُهم.
          قال أبو بَكْرٍ الرَّازيُّ: ليس هذا بشيءٍ، ومذهبُهم أنَّه يضمَنُ لأنَّه يمكنه أنْ يمنعَه مِن الاطِّلاع مِن غيرِ فَقْءِ العينِ بخلاف المعضُوضِ لأنَّه لم يمكِنْهُ خلاصُه إلَّا بِكَسْرِ سنِّ العاضِّ.
          وروى ابنُ عبدِ الحكم عن مالكٍ أنَّ عليه القَوَدَ، ولأنَّه ╕ قال: ((لو أعلمُ أنَّك تَنظُرُ لفقأتُ عينك)) وهو لا يقول إلَّا مَا يجوزُ فِعْلُه، ومَن فعَلَ ما يجوزُ فِعْله لم يكن عليه قَوَدٌ.
          وقال المالكيُّون: مما يدلُّ على أنَّ الحديثَ خرجَ مَخرَجَ التَّغليظِ إجماعُهم على أنَّ رجلًا لو اطَّلع على عورةِ رجلٍ أو بيتِه أو دخلَ دارَه بغيرِ إذْنِهِ لا يجب عليه أن يفقأَ عينَه، وهجومُ الدَّارِ أشدُّ وأعظمُ مِن التَّسلُّل، وقد اتَّفقوا على أنَّ مَن فَعَلَ فعلًا استحقَّ عليه العقوبةَ مِن قتلٍ أو غيرِه أنَّه لا يسقط عنه سواءٌ كان في موضعِه أو فارقَه.
          وقد رُوي عن أصحابِ رسولِ الله صلعم أنَّهم توعَّدوا بما لم ينفِّذُوهُ، فروى الزُّهْرِيُّ عن عُمَرَ أنَّه قال لقيسِ بن مَكْشُوحٍ المُرَادِيِّ: نُبِّئت أنَّك تشربُ الخمرَ، قال: واللهِ يا أمير المؤمنين لقد أقللتَ وأسأت، أمَا والله ما مشيتُ خلف مَلِكٍ قطُّ إلَّا حدَّثْتُ نفسي بِقَتْلِهِ، قال: فهلْ حدَّثَتْكَ نفسُكَ بِقَتْلِي؟ قال: لو هَمَمْتُ فَعَلْتُ، قال: أمَا والله لو قلتَ لضربتُ عُنُقَكَ، اخْرُج لعنك الله، واللهِ لا تَبِيتُ الليلةَ معي فيها، فقال له عبدُ الرَّحمن بن عوفٍ: لو قال: نعم، ضربتَ عُنُقَه؟ قال: لا واللهِ، ولكنِ اسْتَرْهَبْتُهُ بذلك.
          ورَوَى جَرِيرُ بنُ عبدِ الحميد عن عَطَاءِ بن السَّائب عن أبي عبد الرَّحمن قال: قال عليٌّ ☺: لا أُوتَى بأحدٍ وقعَ بجاريةِ امرأتِهِ إلَّا رجمْتُه، فما كان إلَّا يسيرًا حتَّى أُتِي برجلٍ وقَعَ بجاريةِ امرأتِه فقال: أخرجوه عني أخزاه الله. قلتُ: وحمْلُ الحديثِ على ظاهرِه أَوْلى.
          فَصْلٌ: اتَّفق أئمَّةُ الفتوى _كما نقله المُهَلَّب وغيرُه_ على أنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يقتصَّ مِن أحدٍ حقَّه دونَ السُّلطان، وليس للنَّاس أن يَقتصَّ بعضُهم مِن بعضٍ لأنَّ ذلك مِن الفساد، وإنَّما ذلك للسُّلطانِ أو منصوبِه، ولهذا جعلَه اللهُ لقبْضِ أيدي النَّاس وليُوصِلَ الطَّالِبَ إلى حقِّه وينتصفَ المظلومُ مِن ظالمِه، ولو تُرِكَ الأمر إلى أن يَنتصف كلُّ امرئٍ بنفْسِه فَسَدت الأمور، وقد يتجاوز المرْءُ فيأخذُ ما يجبُ له أو يتجاوزُ ما يجبُ له.
          وتأوَّل أكثرُهم هذا الحديثَ على أنَّه خَرَجَ على التَّغليظِ والتوعُّدِ والزَّجْر عَن الاطِّلاع على العورات، وإنَّما اختلفوا فيمن أقام الحدَّ على عبدِه أو أمَتِه كما سلف، ويجوز عند العلماء أن يأخذَ حقَّه دون السُّلطان في المال خاصَّةً إذا جحدَهُ إيَّاه ولم تَقُم له بَيِّنَةً على حقِّه، على ما جاء في حديث هِنْدٍ مع أبي سُفْيَانَ السَّالف قَبْلُ. فإنْ كان السُّلطان لا يَنتصِرُ للمظلوم ولا يُوصِلُه إلى / حقِّه جازَ له أن يقتصَّ دونَ الإمام.
          فَصْلٌ: قولُه: (فَخَذَفْتَهُ) هو بالخاء والذَّال المعجمتين، أي رميتَه بحَصَاةٍ أو نَوَاةٍ تأخُذُها بين سبَّابَتَيْكَ، أو تَجعَلُ مِخذفةً ترمي بها بينَ إبهامِك والسَّبَابة، قاله الهَرَويُّ.
          وقولُه: (فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا) هو بالسِّينِ المهمَلَةِ مِن سدَّد كما هو في الأصول، وقال ابن التِّين: رُوِّيناه بتشديد الشِّينِ المعجَمَةِ، كذا قال، ومعناه أوثَقَهُ. قال: ورُوي بالسِّين أي: قوَّمه وهدَاهُ إلى ناحيتِه، والمِشْقَصُ مِن السِّهام ما طالَ وعَرُض، وقيل: هو العَرِيضُ النَّصْلِ، وسلف الخلافُ فيه.
          فَصْلٌ: وقولُه: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) يعني آخِرَ الأُمَمِ في الدُّنيا وسابقيهم في الآخرة إلى الجنَّة، وأدخله في البابِ وليس منه لأنَّه سمع الحديثين معًا.