التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا قتل نفسه خطأً فلا دية له

          ░17▒ بَابٌ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً فَلَا دِيَةَ فِيهِ
          زاد الإسماعيليُّ: ولَا إذا قتلَها عمدًا.
          6891- ذَكَرَ فيه حديثَ سَلَمَةَ ☺: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ) الحديث.
          ولم يُبَيِّنْ فيه صِفَةَ قَتْل عامرٍ نَفْسَه كما ترجم له حتَّى قال الإسماعيليُّ: ليس مطابقًا لِمَا بوَّب له. وبيَّنَهُ قَبْلُ في كتابِ الأدَبِ [خ¦6148] أنَّ سيفَهُ كان قصيرًا فتناول به يَهُوديًّا ليضرِبَه، فرجع ذُبَابُه فأصابَ رُكبَتَهُ فماتَ منه، وفي آخرِه: ((قَلَّ عَرَبيٌّ نشأَ بها مِثْلَهُ)) بدل قولِه هنا: (وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ) وفي روايةِ أبي ذرٍّ: <وَأَيُّ قَتِيلٍ يَزِيدُ عَلَيْهِ> قال ابنُ بطَّالٍ وأبو الفضل: وكأنَّه الصَّوابُ.
          واختلف العلماء فيمن قتَلَ نفْسَهُ أو أصابَها عَمْدًا أو خطأً، فقال رَبِيْعَةُ ومالكٌ والشَّافِعيُّ وأبو حَنيفَةَ والثَّورِيُّ: لا تَعْقِلُهُ العَاقِلَةُ. وقال الأوزاعِيُّ وأحمدُ وإسحاقُ: دِيَتُه على عَاقِلَتِه، فإنْ عاشَ فهي له وإنْ ماتَ فهي لِوَرَثَتِه، واحتجُّوا بما رُوِيَ أنَّ رجلًا كان يسوقُ حمارًا فضربه بعصا فأصابتْ عينَ نَفْسِهِ فَفَقَأَتْها، فقضى عُمَرُ ☺ بِدِيَتِهِ على عَاقِلَتِه وقال: أصابَتْه يدٌ مِن أيدي المسلمين.
          وحديثُ الباب حُجَّةٌ للأوَّلِ حيث لم يوُجِبِ الشَّارعُ لعامرٍ دِيَةً على عَاقِلَتِهِ وَلا غيرِها، ولو وجب عليها شيءٌ لَبَيَّنَهُ لأنَّه مكانٌ يُحتاج فيه إلى البيان، بلْ شَهِدَ له بأنَّ له أَجْرَينِ، والنَّظرُ يَمنعُ أنْ يجِبَ للمرْءِ على نفْسِه شيءٌ بدليلِ الأطرافِ وَكذا النَّفْسِ.
          واحتجَّ مالكٌ في ذلك بقولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] ولم يقلْ: ومَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خطأً، وإنَّما يُجعل العَقْلُ فيما أصابَ به إنسانٌ إنسانًا، ولم يذكُرْ مَا أصاب به نفْسَهُ، ثمَّ إنَّ الدِّيَةَ إنَّما وجبتْ على العاقِلَة تخفيفًا عَلى الجاني، فإذا لم يجب عليه لأحدٍ شيءٌ لم يَحْتَجْ إلى التَّخفيفِ عنه، وجُعِلَتِ الدِّيةُ أيضًا على العاقِلَةِ معونةً للجاني فتؤدَّى إلى غيرِه، فمُحَالٌ أن يُؤدَّى عنه إليه.
          فَصْلٌ: قولُه: (إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ) لعلَّه يريد أنَّه نَزَل به مِن البلاء ما امتُحِنَ به حتَّى اختارَ الموتَ وتمنَّاه، وهذا فسَّر به الهَرَويُّ، قولَه: ((أعوذُ بك مِن جَهْدِ البَلَاء)).
          وقولُه: (مُجَاهِدٌ) أي في سبيل الله، وقيل: معناه جَاهِدٌ في الخيرِ مُجاهدٌ في سبيلِ الله، ورُوي: <إنَّه لمُجاهِدٌ مَجَاهِدَ> أي حَضَرَ مواطِنَ مِن الجهادِ عِدَّةً، مَجَاهِدَ جمْعُ مَجَهَدٍ.
          وقولُه: (وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ) ورُوي: <يَزِيدُ> ورُوِيَ <قَتِيلٍ> أي أنَّه بَلَغَ أَرْقَى الدَّرجاتِ وفَضْلَ النِّهايةِ، وإنَّما قالوا: حَبِطَ عمَلُه؛ لِقولِه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] وهذا إنَّما هو فيمن يتعمَّدُ قَتْلَ نفْسِه، إذِ الخطأُ لا يُنهَى عنه أحدٌ.
          قال الدَّاودِيُّ: ويحتمل أن يكون هذا قَبْلَ قولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}.
          وقولُه: (أَسْمِعْنا مِنْ هُنَيَّاتِكَ) ورُوِيَ: <هُنَيْهَاتِك> هُنَيَّةٌ تصغيرُ هَنَاةٍ، وأصلُها: خَصلاتُ سُوءٍ.
          وفيه جوازُ قَوْلِ الشِّعْرِ والرَّجَزِ لمن يستعينُ به على عَمَلِ البِرِّ الَّذي هو فيه؛ لأنَّ فيه معونةً على السَّيْرِ وراحةً للقلوبِ.