التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين

          ░8▒ بَابٌ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ
          6880- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ رَجَاءٍ: حدَّثنا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ) الحديث. وفيه: ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ صلعم: (إِلَّا الْإِذْخِرَ)، تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ شَيْبَانَ فِي الْفِيلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ: (الْقَتْلَ)، وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ.
          ثمَّ ساقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ قَالَ: (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ...) إلى آخرِهِ كما سلف في تفسيرِ سورة البقرة [خ¦4498].
          وقولُه: (وَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ رَجَاءٍ) هو شيخُه، ومرادُه بإيرادِ ذلك تبيينُ عدمِ تدليسِ يَحيى فقال: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فإنَّ جريرًا قاله عنه عن يَحيى حدَّثَنا أبو سَلَمَةَ، وروايةُ ابنِ أبي عَاصِمٍ عن دُحَيْمٍ: حدَّثَنا الوليدُ بن مُسلمٍ حدَّثنا الأوزاعِيُّ عن يَحيى، ومتابعةُ عُبَيْدِ اللهِ أخرجها مسلمٌ عن إسحاقَ بنِ مَنْصورٍ عنه به.
          والرَّجل مِن قُرَيشٍ هو العبَّاسُ. وقولُه فيه: (يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ) قال عِيَاضٌ: أبو شاهٍ مصروفًا ضَبَطْتُه وقرأتُه أنا، معرفةً ونكرةً، وخطُّ السِّلْفِيِّ الحافظِ في تأليفِه في فَضْلِ الفُرْسِ: مَن قاله بالتَّاء، وقال: إنَّه مِن فُرسان الفُرْسِ المرسولينَ مِن قِبَلِ كِسْرى إلى اليمنِ.
          وقولُه: (اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ) يعني الخطبةَ الَّتي خَطَبَ بها.
          فَصْلٌ: واختلفَ العلماءُ في أخْذِ الدِّيةِ مِن قاتلِ العمدِ، فقالت طائفةٌ: وليُّ المقتول بالخِيَارِ بين القِصاص وأخْذِ الدِّيَةِ وإن لم يرضَ القاتلُ، رُوي ذلك عن ابنِ المسيِّب والحَسَنِ وعَطَاءٍ، ورواه أشهبُ عن مالكٍ، وبه قال اللَّيْثُ والأوزاعِيُّ والشَّافِعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ.
          وقال آخرونَ: ليس له إذا كان عمدًا إلَّا القِصاصُ ولا يأخذ الدِّية إلَّا أن يَرضَى القاتلُ، رواه ابنُ القاسم عن مالكٍ وهو المشهور عنه، وبه قال الثَّورِيُّ والكوفيُّون، وفائدةُ الخلاف تَظهر فيمن قال: عفوتُ مطلقًا ولم يذكرْ دِيَةً، فالمعروف أنَّه لا دِيَةَ له، وقال ابنُ القاسم: يَحلف أنَّه لم يُرِد العفوَ على غيرِ دِيَةٍ.
          حُجَّةُ الأوَّلينَ قولُه تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] أي تَرَكَ له دمَه ورَضِيَ منه بالدِّيةِ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] أي فِعْلُ صاحبِ الدَّمِ اتِّباعٌ بالمعروف في المطالبةِ بالدِّيَة، وعَلى القاتلِ إذْ ذاكَ: {أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:178] معناه أنَّ مَن كان قَبْلَنا لم يُفرَضْ عليهم غيرُ النَّفْسِ بالنَّفْسِ كما ذكره البُخَاريُّ عن ابنِ عَبَّاسٍ.
          واحتجُّوا أيضًا بحديثِ البابِ: (إمَّا أنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ) / وهذا نصُّ في أنَّه جعلَ أخْذَ الدِّيَةِ أو القَوَدِ إلى أولياءِ الدَّمِ، وأيضًا مِن طريقِ النظر: فإنَّما لَزِمَتْهُ الدِّيةُ بغيرِ رضاهُ لأنَّ عليه فرضًا إحياءُ نفْسِه، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
          وحُجَّة الآخَرينَ حديثُ أَنَسٍ: أنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ _وهي الرُّبَيِّعُ_ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جاريةٍ فقال ╕: ((يا أنسُ، كتابُ الله القِصاصُ)) فلمَّا حكم بالقِصاصِ ولمْ يخيِّرْها بينَه وبينَ أَخْذِ الدِّيَةِ، ثَبَتَ بذلك أنَّ الَّذي يجبُ بالكتابِ والسُّنَّةِ في العَمْدِ هو القِصاصُ، إذْ لو كان يجبُ للمَجْنِيِّ عليه التَّخييرُ بينَهُ وبين العفوِ لأعلَمَها بِما لها أنْ تختارَ مِن ذلك، فلمَّا حَكَمَ بالقِصاص وأخبرَ أنَّه كتابُ الله ثبتَ بما قلناه، ووجبَ أن يعطِفَ عليه حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺ ويجعلَ قولَه: ((فهو بالخِيَار بين أن يعفوَ أو يقتصَّ أو يأخذَ الدِّيةَ)) على الرِّضا مِن الجاني بغُرْمِ الدِّية حتَّى تَتَّفِق معاني الأخبار، أَلَا ترى أنَّ حاكمًا لو تقدَّم رجلٌ إليه في شيءٍ يجب له فيه أحدُ شيئينِ فثبتَ عنده حقُّه أنَّه لا يَحكُمُ بأَحَدِ الشَّيئينِ دونَ الآخر، والشَّارعُ أحكمُ الحكماء، وكذا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ مرفوعًا: ((العَمْدُ قَوَدٌ)) أخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ.
          وأمَّا قولُهم: إنَّ عليه فرضًا إحياءُ نفْسِه، فإنَّا رأيناهم قد أجمعوا أنَّ الوليَّ لو قال للقاتلِ: قد رضيتُ أن آخذَ دارَكَ هذه على ألَّا أقتُلَكَ، أنَّ الواجبَ على القاتلِ فيما بينَه وبين الله تعالى تسليمُ ذلك وحَقْنُ دَمِ نفْسِه، فإنْ أَبَى لم يُجبِرْهُ عليها ولم تُؤخذْ منه كَرْهًا فيُدفَعُ إلى الوليِّ، فكذلك الدِّية لا يُجبر عليها ولا تُؤخذُ منه كَرهًا.
          قال المُهَلَّب: وفي قولِه: (فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) حضٌّ وندْبٌ لأولياءِ القتيلِ أن ينظروا خيرَ نظرٍ، فإنْ كان القِصاصُ خيرًا مِن أَخْذِ الدِّيةِ اقتصُّوا ولم يَقبلوها، وإنْ كان أَخْذُها أقربَ إلى الأُلفة وقطْعِ الضَّغائنِ بين المسلمين أُخِذَتْ مِن غيرِ جَبْرِ القاتل على أَخْذِها منه، ولا يقتضي قولُه: (بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) إكراهَ أحدِ الفريقين، كما لا يقتضي قولُه تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] أَخْذَ الدِّيَة مِن القاتل كَرْهًا، وقال جماعةٌ مِن المفسِّرين: ذلك يقتضي أَخْذَها منه كَرْهًا إذْ لم يَعْقِلْهُ بِرِضَى أحدٍ، وانفصلَ عنه بعضُهم بأنَّه تعالى ذكرَ الشَّيءَ مُنَكَّرًا لَا مُعَرَّفًا، والعفوُ يكون للبدلِ في اللغةِ كما يكون في التَّركِ.
          فَصْلٌ: وفي حديثِ البابِ حُجَّةٌ للثوريِّ والكوفيِّين والشَّافِعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ في قولِهم أنَّه يجوز العفوُ في قَتْلِ الغِيلةِ، وهو أن يُغتال الإنسانُ فيُخدَعَ بالمشيِ حتَّى يصيرَ إلى موضعٍ فيختفي فيه فإذا صار إليه قَتَلَهُ، وقال مالكٌ: الغِيلةُ بمنزلةِ المحارَبة، وليس لِوُلاةِ الدَّمِ العفوُ فيها، وذلك إلى السُّلطانِ أن يَقتُلَ به القاتلَ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ المنذرِ: وقولُه: ((فأهْلُهُ)) وظاهرُ الكتابِ يدلُّ على أنَّ ذلك للأولياءِ دونَ السُّلطانِ.
          فَصْلٌ: قولُه: (إِمَّا أَنْ يُوْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ) وقال في آخرِه: (وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِمَّا أَنْ يُفَادَى أَهْلُ الْقَتِيلِ) قال الدَّاودِيُّ: إنْ كان المحفوظُ بالفاء فيحتمل أن يكونَ للمقتول وليَّانِ فيخاطبهما على التَّثنيةِ، فقال: إمَّا أن يُقاد أو يَقتلهما، وهذا غير صحيحٍ كما نبَّه عليه ابنُ التِّين لأنَّه لو كان للتَّثنية لكان: يُودَيان أو يُفَادَيان، وهذه الرِّوايةُ إنْ صحَّت فإنَّما هي بالفاء: إمَّا أن يُودَى القتيلُ، وإمَّا أن يُفادَى.
          واحتُجَّ بها لمالكٍ أنَّ القاتل لا يُجبَرُ على الدِّيَة، والصَّحيحُ (يُقَادَ) بغيرِ ألِفٍ، يُقال: أقدتُ القاتلَ بالقتيلِ، أي قتلتُهُ به، وأقادَهُ السلطان، ومعنى رواية عُبَيْد اللهِ يُؤخَذُ لهم بثأْرِهم، والمفاداةُ لا تكون إلَّا من اثنينِ غالبًا، وقد يَرِدُ خِلافُه، ويحتمل على غيرِ جنس الدِّية لا يصحُّ إلَّا برضاهما.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: وقولُه: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ) ليدخلوا في دينِ الله أفواجًا فكان ذلك ساعةً مِن نهارٍ، فلمَّا دخلُوا عادتْ حُرمتُها المعظَّمةُ على سائرِ الأرضِ مِن تضعيفِ إثمِ مُنتهِكٍ للذُّنوب فيها، وزالت حُرمتُها الغير مشروعةٍ مِن الله ولا مِن رسولِه مِن تَرْكِ مَن لجأَ إليها ودخلَها مستأمِنًا فارًّا بِدَمٍ أو بِخَرَبَةٍ، وجَعْلِ القِصاص في قتيلِ الحَرَمِ لقولِه ╕: ((مَن قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النَّظَرين)) قاله في قتيلِ خُزَاعةَ المقتولِ في الحَرَمِ، عَلِمْنا أنَّه يجوز القِصاصُ في الحَرَمِ، ولو لم يَجُزْ ذلك لبيَّنَه الشَّارعُ.
          وبيَّنَ أنَّ الحُرْمةَ الباقية بمكَّة على ما كانت في الجاهليَّةِ هو تعظيمُ الدَّمِ فيها عند الله على سائرِ الأرض الحديثُ الآتي بعدُ: ((أبغضُ النَّاس إلى الله مُلحدٌ في الحَرَم)) [خ¦6882] فهذا نصٌّ منه على المعنى الباقي للحَرَمِ، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى لَمَّا ذكرَ تحريمَ الأربعةِ الأشهُرِ الحُرُمِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] تعظيمًا للظُّلمِ فيهنَّ؛ إذِ الظُّلم في غيرهنَّ محرَّمٌ أيضًا، فدلَّ أنَّ لها مَزيَّةً على غيرِها في إثمِ الظُّلْمِ والقتلِ وغيرِه.
          فَصْلٌ: السَّاعةُ الَّتي أُحلِّت له لم يكن القتلُ فيها مُحرَّمًا لإدخالِه إيَّاهم في شرائع الإسلام، فكذلك كلُّ قتْلٍ يكون على شرائعِ الإسلام لا تُعظَّم فيها ويُقتصُّ فيها مِن صاحبِه، وقد سلف اختلافُ العلماء في هذه المسألةِ في الحجِّ.
          قولُه: (لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا) أي لا يُجعَل خَلَا، والخَلَا _مقصورٌ_ الحشيشُ اليابسُ، وقيل الرَّطْبُ. وقولُه: (وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا) أي لا يُقطَعُ بالمِعضَدِ، وَهي حَديدةٌ يُقطع بها.
          والمنْشِدُ: المعرِّفُ، يُقال: نَشَدْتُ الضَّاَّلة إذا طلبْتُها، وأَنشدتُها عرَّفتُها. ومشهورُ مذهبِ مالكٍ أنَّ لُقَطَةَ مكَّة كغيرها مِن البلاد سواءٌ تُعرَّفُ سنَةً، وظاهرُ الحديثِ خِلافُه، وهو قولُ الشَّافِعيِّ.
          و(الإذْخِرَ) جمع إِذْخِرَةٍ، وَهو نبتٌ إذا يبِسَ صار كالتِّبنِ يوقِدُهُ الصَّاغةُ، ويُجْعَلُ في الطِّين يُطيَّنُ به.
          فَرْعٌ: إذا قُلنا: وليُّ المقتول بالخِيار، فهلْ يكون ذَلك في الجِراح أيضًا أمْ لا؟ فالمعروفُ أنَّه ليس له ذلك، وذَكَرَ في «المعونة» في الرَّهنِ جِرَاحَ العَمْدِ الَّتي يُقادُ فيها، وقتلُ العَمْدِ على قولِ مالكٍ أنَّه مخيَّرٌ بين القَوَدِ والدِّية، فإذا لَزِمَتِ الدِّيةُ جاز الرَّهنُ بها.
          فَصْلٌ: رَوَى ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» بإسنادٍ جيِّدٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ ☻ أنَّه قال: يُزاد في دِيَةِ القتيلِ في الأشهُرِ الحُرُمِ أربعةُ آلافٍ، والمقتولُ في مكَّة يُزاد في دِيَتِه أربعةُ آلافٍ، قيمةُ دِيَةِ الحرمِ عشرين ألفًا، وَفي حديث ابنِ أبي نَجِيحٍ عن أبيه: أنَّ عُثْمَانَ قَضَى في امرأةٍ قُتِلَتْ في الحَرَمِ بدِيةٍ وثُلُثِ دِيةٍ، / وَعن ابنِ المسيِّب وسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ ومُجَاهِدٍ وابنِ جبيرٍ وَعَطَاءٍ: إذا قَتَلَ في البلدِ الحرام فَدِيةٌ وثُلُثُ دِيَةٍ، وفي الشَّهرِ الحرامِ وهو مُحْرِمٌ فَدِيَةٌ مغلَّظَةٌ، وحكاه أيضًا عن ابن شِهَابٍ.