التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص}

          ░3▒ بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178].
          قال قَتَادَةُ: كان أهلُ الجاهليَّةِ فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشَّيطان، فكان الحيُّ إذا كان فيهم عِزَّةٌ ومِنعةٌ فقُتِلَ لهم عَبْدٌ قَتَلَهُ عبدُ قومٍ آخرين قالوا لا نقتلُ به إلَّا حُرًّا، وإذا كان فيهم امرأةٌ قتلتْها امرأةٌ قالوا لا نَقتُلُ بها إلَّا رجلًا. فنهاهم اللهُ عن البَغْيِ، وأخبرَ أنَّ الحُرَّ بالحُرِّ والعبدَ بالعبدِ والأنثى بالأنثى.
          وعن ابنِ عَبَّاسٍ ☻: كانوا لا يَقتلون الرَّجلَ بالمرأةِ ولكنِ الرَّجلَ بالرَّجلِ والمرأةَ بالمرأةِ فأنزل الله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فجعل تعالى الأحرارَ في القِصاص سواءً في النَّفْسِ وما دونَها، وجعل العبيدَ متساوِينَ فيما بينهم مِن العمْدِ في النَّفْس وفيما دونَها رجالهم ونساؤهم.
          قال أبو عُبَيْدٍ: فذهبَ ابنُ عَبَّاسٍ _فيما يُرى_ إلى أنَّ هذه الآيةَ الَّتي في المائدةِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ليستْ ناسخةً للَّتي في البقرة: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ولا هي خِلافها ولكنَّهما جميعًا مُحكمَتان، إلَّا أنَّه رأى أنَّ آيةَ المائدةِ مفسِّرةٌ للَّتي في البقرةِ، وتأوَّل قولَه: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إنَّما هو على أنَّ نفْسَ الأحرارِ متساويةٌ فيما بينهم دونَ العبيدِ ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأنَّ أنفُسَ المماليكِ متساويةٌ فيما بينهم، وأنَّه لا قِصاصَ للمماليك على الأحرار.
          وذهب أهلُ العراق إلى أنَّ قولَه تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نَسَخَتِ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقالوا: ليس بين الأحرار والعبيدَ قِصاصٌ في النَّفْسِ خاصَّةً، ولا فَرْقَ فيما دونَ ذلك بينهم قِصاصًا، واضطربَ قولُهم لأنَّ التَّنزيلَ إنَّما هو على نَسَقٍ واحدٍ، فأخذوا بأوَّلِ الآية.
          وذُكِرَ عن الشَّعْبِيِّ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نزلتْ في حيَّيْينِ مِن قبائلِ العربِ كان بينهم قِتالٌ، كان لأحدِهِما فَضْلٌ على الآخَرِ، فقالوا: نَقتُلُ بالعبْدِ مِنَّا الحرَّ منكم وبالمرأةِ الرَّجلَ فنزلتْ، ثمَّ أُنزِلَتْ بَعْدُ في المائدةِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فبهذا يحتجُّون، قالوا: وليس في قولِه: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نَفْيٌ لغيرِه.
          وقال إسماعيلُ بن إسحاقَ: قدْ قال قومٌ: يُقتل الحرُّ بالعبدِ والمسلمُ بالذِّمِّيِّ، هذا قول الثَّورِيِّ والكوفيِّين، قال أبو حَنيفَةَ: يُقاد المسلمُ بالذِّمِّيِّ في العَمْدِ وَعليه في قتْلِه الخطأِ الدِّيةُ والكفَّارةُ، ولا يُقتَلُ بالمعاهَدِ وإن تعمَّدَ قَتْلَهُ. وقال أحمدُ: دِيَةُ الكِتابيِّ إذا قتلَه مسلمٌ عمدًا مثلُ دِيَةِ المسلم. واحتجُّوا بآية: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.
          وفي الدَّارَقُطْنِيِّ مِن حديثِ ليثٍ عن الحَكَمِ قال: قال عليٌّ وابنُ مَسْعُودٍ: إذا قَتَلَ الحرُّ العبْدَ متعمِّدًا فهو قَوَدٌ. ولا تقومُ به حُجَّةٌ لوقْفِه. وفيه مِن حديثِ حجَّاجٍ عن عَمْرو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه: أنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ ☻ كانا لا يَقتُلانِ الحرَّ بقَتْلِ العبْدِ، وسيأتي عن عليٍّ أنَّه السُّنَّةُ.
          وقال مالكٌ واللَّيْثُ والأوزاعِيُّ والشَّافِعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ: لا يُقتَلُ حرٌّ بعبدٍ، هذا مذهبُ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وعليٍّ وزَيْدِ بن ثابتٍ ♥. وفي الدَّارَقُطْنِيِّ مِن حديثِ جُوَيبرٍ عن الضَّحَّاكِ عن ابنِ عَبَّاسٍ ☻ رَفَعه: ((لا يُقتلُ حرٌّ بعبدٍ)) ومِن حديث جابرٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ ☻ قال عليٌّ: ((مِن السُّنَّةِ أن لا يُقتَلَ مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌّ بعبدٍ)).
          قال إسماعيلُ: وغَلِطَ الكوفيُّونَ في التَّأويلِ لأنَّ معنى الآيةِ إنَّما هي النَّفْسُ المُكافِئةُ للأخرى في حُرمتِها وحدودِها؛ لأنَّ القتْلَ حدٌّ مِن الحُدُود، ولو قذف حرٌّ عبدًا لَمَا كان عليه حدُّ القذفِ، وكذلك الذِّمِّيُّ، والحُدُود في الأحرارِ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ واحدةٌ وحُرمتُهم واحدةٌ، ويبيِّنُ ذلك قولُه تعالى في نَسَقِ هذه الآيات: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] فعلمْنا أنَّ العبْدَ والكافِرَ خارجانِ مِن ذلك لأنَّ الكافِرَ لا يُسمَّى مُصَّدِّقًا ولا مكفَّرًا عنه، وكذا العبدُ لا يجوزُ أن يَصَّدَّقَ بِدَمِه ولا بِجُرْحِه لأنَّ ذلك إلى سَيِّدِهِ، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية [البقرة:178].
          وقال أبو ثورٍ: لَمَّا اتَّفَقَ جميعُهم أنَّه لا قِصاصَ بينَ العبيدِ والأحرارِ فيما دونَ النَّفْسِ كانت النَّفْسُ أَحْرَى بذلك، ومَن فرَّقَ منهم بين ذلك فقد ناقَضَ، وناقَضَ أيضًا أبو حَنيفَةَ إذا قَتَلَ عبْدَهُ فلا يُقْتَلُ به عندَه، وقال ابنُ القصَّار عن النَّخَعِيِّ: يُقتَلُ الحرُّ بعبْدِهِ وعبدِ غيرِهِ. قال: وحُكِي عنه أنَّ بينهما القِصَاص في الأطراف، وأظنُّهُ صحيحًا فمذهبُ النَّخَعِيِّ هذا مُسَتمِرٌّ لم يَتَناقضْ في شيءٍ لأنَّه يُقِيدُ النَّفسَ بالنَّفْسِ في كلِّ نَفْسٍ والأطرافَ أيضًا.
          فَصْلٌ: وقولُه تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178] قيل: أَخْذُ الدِّيَةِ، وذلك أنَّهم في بني إسرائيلَ يقتصُّون ولم يكن بينهم دِيَةٌ، فخفَّفَ الله عن هذه الأُمَّةِ بالدِّيَةِ كما سلف في التَّفسيرِ عن ابنِ شِهَابٍ، فذلك تخفيفٌ ممَّا كُتِبَ على أهلِ الكتابَيْنِ، والمكتوبُ على اليَهُودِ أَلَّا يُعفَى عن قاتلِ عَمْدٍ وأن يُقتَلَ قاتلُ الخطأِ إلَّا أن يعفوَ الوليُّ، وعلى أهلِ الإنجيلِ تَرْكُ القِصَاصِ وأَخْذُ الدِّيَةِ في العَمْدِ والخطأِ، وقيل: هذا في الرَّجُلِ يُقتَلُ عمدًا أو له أولياء فيعفو بعضُهم فلِلآخرين أن يَطلبُوا مِن الدِّية بِقَدْرِ حِصَصِهم.
          واختُلِفَ إذا طَلَبَ وليُّ القومِ الدِّيةَ وأَبَى القاتلُ، ففي «المدوَّنة»: لا يُجبَرُ القاتلُ، وليس لوليِّ المقتولِ إلَّا القِصَاصُ، ورَوَى أشهبُ عن مالكٍ: يَلزَمُ القاتلَ الدِّيَةُ شاءَ أو أبَى.
          فَصْلٌ: وقولُه بعدَ ذلك: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178] قال ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُه: يُقتَلُ ولا تُؤخذُ منه الدِّيَةُ.
          فَصْلٌ: احتُجَّ لأبي حَنيفَةَ فيما سبقَ بقولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} الآية [النساء:92]، ثمَّ قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} فلمَّا كانت الكفَّارةُ واجبةً في قَتْلِ الكافر الذِّمِّيِّ وَجَبَ أن تكونَ الدِّيَةُ كذلك، قال تعالى: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] كما قال في المؤمنِ، فأراد الكافرَ لأنَّه لو أرادَ / المؤمنَ لقالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} وهو مُؤمِنٌ، كما قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:92] فأوجب فيه تحريرَ رقبةٍ دونَ الدِّيَة لأنَّه مؤمِنٌ مِن قومٍ حَرْبِيِّينَ، عدوٌّ للمسلمين.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وتأوَّلَ مالكٌ هذه الآيةَ في المؤمنينَ لأنَّه قال في «الموطَّأ»: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ثمَّ قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يعني المؤمنَ المقتولَ خطأً، وردَّ قولَه هذا بعضُ مَن ذَهَبَ مَذْهَبَ الكوفيِّين فقال: الحُجَّةُ عليه أنَّ الله تعالى قال في هذه الآيةِ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فقال ذلك على أنَّه لم يَعْطِفْهُ على ما تقدَّم مِن قولِه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} لأنَّه لو كان معطوفًا عليه ما قال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأنَّ قولَه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} يُغني عن وصفِه بالإيمان لأنَّه مستحيلٌ أن يقول: وإنْ كان المقتولُ خطأً مِن قومٍ عَدُوٍّ لكم وَهُو مُؤمِنٌ. قالوا: وكذلك قولُه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} غيرُ مُضْمَرٍ فيه المؤمنُ الَّذي تقدَّمَ ذِكْرُه، والتَّأويلُ مانعٌ في الآيةِ الكريمة للفريقين، وأصْلُ الدِّيَاتِ التَّوقيفُ ولا توقيفَ في ذلك إلَّا ما أجمعوا عليه، على أنَّ أقلَّ ما قيل فيه واجبٌ، وقد اختلفوا فيمن زادَ والأصلُ تَرْكُهُ الدِّيَةَ.
          وقد احتُجَّ أيضًا له ما رواه التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ أبي سَعْدٍ البقَّالِ عن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ ☻: ((أنَّه ╕ وَدَى العامريَّين بِدِيَةِ المسلمين، وكان لهما عَهْدٌ مِن رسولِ الله صلعم)) ثمَّ قال: غريبٌ لا نعرفه إلَّا مِن هذا الوجه. وقال في «عِلله الكبير»: سألتُ مُحَمَّدًا عنه وقلتُ له: أبو سَعدٍ، فقال: مُقَارِب الحديث.
          قلتُ: ضعَّفَهُ أيضًا غيرُه، ووافَقَه وَكِيعٌ وأبو أُسَامَة حمَّادُ بن أُسَامَة، وخرَّج له الحاكمُ في «مستدركِه»، وذكرَهُ في جملةِ الثِّقاتِ في عِكْرِمَةَ، وقال ابنُ المبارك: كَتَبْنا عنه لِقُرْبِ إسنادِه، وقال أبو مُوسَى المَدِينيُّ في كتابِه: وعَابَه الشَّافِعيُّ، مختلَفٌ في حالِه ويُجمَعُ حديثُه. وقال أبو داودَ: كان مِن القُرَّاء. وقال الشَّافِعيُّ: صَدوقٌ فيه ضَعْفٌ. وقال أبو زُرْعةَ الرَّازِيُّ: ليِّنُ الحديثِ مُدَلِّسٌ، قيل: هو صَدوقٌ؟ قال: نعم كان لا يكذِبُ. وقال الجُوْزَجَانِيُّ: يُكْتَبُ حديثُه ولا يُترك.
          واحتُجَّ له أيضًا بحديثِ أُسَامَةَ أنَّه ╕ جعل دِيَةَ المعاهَد كَدِيَةِ المسلمِ ألفَ دِينارٍ. وعِلَّتُهُ عُثْمَان بن عبدِ الرَّحمن الوَقَّاصِيُّ، قال الدَّارَقُطْنِيُّ: متروكُ الحديث.
          وروى الدَّارَقُطْنِيُّ من حديث أبي كُرْزٍ عبدِ اللهِ بن عبد الملك الفِهْريِّ حدَّثنا نافِعٌ عن ابنِ عُمَرَ ☻: ((أنَّه ╕ وَدَى ذِميًّا ديةَ مسلمٍ)). ثمَّ قال: أبو كُرْزٍ متروكُ الحديثِ، ولم يَرْوِهِ عن نافِعٍ غيرُه. وقال ابنُ حِبَّان: لا أصلَ له مِن كلامِ رسولِ الله صلعم ولفظُهُ: دِيَةُ ذِمِّيٍّ دِيَةُ مُسلمٍ.
          وفي «مراسيلِ أبي داودَ» عن رَبِيْعَةَ بنِ أبي عبد الرَّحمن قال: كان عَقْلُ الذِّمِّيِّ مثلَ عَقْلِ المسلم في زمنِ رسولِ الله صلعم وأبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ، حتَّى كان _يعني صدرًا مِن خلافةِ مُعَاويَة_ صَيَّرَها على النِّصْفِ مِن دِيَةِ المسلم. وأسنده ابنُ عَدِيٍّ مِن طريق برَكَة بن مُحَمَّد _وهو غيرُ ثقةٍ ولا مأمونٍ_ عن الوليد بن مُسلمٍ عن الأوزاعِيِّ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ عنه بزيادة: فلمَّا استُخلِفَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيز ردَّ الأمْرَ إلى القضاء الأوَّلِ. وقال أبو عُمَر: هذا أثرٌ لا يُثبته أحدٌ مِن أهل العلم لضعفه.
          وأخرج أبو داودَ مِن حديثِ ابنِ وَهْبٍ عن عبدِ الله بن يَعْقُوبَ عن عبدِ الله بن عبد العزيز بن صالحٍ الحَضْرَمِيِّ قال: قَتَلَ رسولُ الله صلعم مُسلمًا بكافرٍ قتلَهُ غِيْلَةً، وقال: ((أنا أَوْلَى وأَحَقُّ مَن أوفى بِذِمَّتِهِ)) قال الجَوْزَقَانِيُّ في «موضوعاته»: هذا حديثٌ منكرٌ وإسنادهُ منقطِعٌ ولا يصحُّ عن رسولِ الله صلعم. وقال ابنُ القطَّانِ: عبدُ الله بن يَعْقُوب وعبدُ الله بن عبد العزيز مجهولانِ، لم أجِدْ لهما ذِكرًا.
          قال ابنُ حَزْمٍ: رُوِّينا عن إبراهيمَ أنَّ رجلًا مسلمًا قَتَلَ رجلًا من أهلِ الحِيرة، فَأَقَادَهُ عمرُ بنُ الخطَّاب. قال وَكِيعٌ: وحدَّثَنا أبو الأشهب عن أبي قُرَّةَ مثلَه سواءٌ وهذا مُرْسَلٌ. ومِن حديثِ ابنِ أبي سُلَيمٍ عن الحَكَم بن عُتَيْبَة: أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ وابنَ مَسْعُودٍ قالا جميعًا: مَن قَتَلَ يَهُوديًّا أو نَصْرَانيًّا قُتِل به. وهو مُرْسَلٌ.
          وصحَّ عن عُمَرَ بن عبد العزيزِ كما رُوِّينا مِن طريقِ عبدِ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ عن عَمْرو بن مَيْمُونٍ قال: شهدتُ كتابَ عُمَرَ بن عبد العزيز إلى بعضِ أمرائه في مسلمٍ قَتَل ذِمِّيًا؛ فأمرَ بأن يدفعَه إلى وَليِّهِ إن شاءَ قَتَلَ وإن شاء عفا عنه. قال مَيْمُونٌ: فَدُفِعَ إليه فضَرَبَ عُنُقَه وأنا أنظُرُ.
          وصحَّ أيضًا عن النَّخَعِيِّ كما رُوِّينا مِن طريقِ حمَّاد بن سَلَمَةَ عن حمَّادِ بن أبي سُلَيْمَان عنه قال: المسلم الحرُّ يُقتَلُ باليَهُودِيِّ والنَّصْرَانيِّ، ورُوي عن الشَّعْبِيِّ مِثْلُه، وهو قولُ ابنِ أبي ليلَى وعُثْمَانَ البَتِّيِّ والحَسَنِ بن حيٍّ، زاد ابنُ أبي عَاصِمٍ: وأَبَانَ بن عُثْمَان وعبدِ الله بن مَسْعُودٍ، وأحدُ قولي أبي يُوسُف، وقد اختُلِف عن عُمَرَ بن عبد العزيز في ذلك.
          كما رُوِّينا عن عبدِ الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ عن سِمَاكِ بن الفضلِ قاضي اليمن قال: كتب عُمَرُ بنُ عبدِ العزيز في زِيَادِ بن مُسلمٍ _وكان قد قتل ذمِّيًّا عندنا باليمن_ أنْ غرِّمْهُ خمسَ مئةٍ ولا تُقِدْه.
          وقولٌ آخرُ رُوِّيناه عن عُمَرَ بن الخطَّاب في المسلم يَقتُلُ الذِّمِّيَّ: إنْ كان ذلك منه خُلُقًا أو عادَةً أو كان لِصًّا عادِيًا فأَقِده به _ورُوِيَ: فاضربْ عُنُقَه_ وإنْ كان ذلك في عَصَبيَّةٍ وشبهها فأغرِمْهُ الدِّيَةَ، ورُوِيَ: فأَغْرِمْهُ أربعةَ آلافٍ. ولا يصحُّ عن عُمَرَ لأنَّه مِن طريقِ عبدِ الله بن مُحَرَّرٍ_وهو هالكٌ_ عن أبي المَلِيح بن أُسَامَةَ عنه، وهو مُرسلٌ، أو مِن طريقِ عبدِ العزيز بن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز في كتابِه لأبيه أنَّ عُمَر، أو مِن طريقِ حمَّادِ بن زَيْدٍ عن عَمْرو بن دِينارٍ عن القاسمِ بنِ أبي بَزَّةَ أنَّ عُمَرَ، وهو مُرْسَلٌ، ومِن طريقِ عَمْرو بن دِينارٍ عنه، وهو مُرْسَلٌ.
          ورَوَى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن أبي أُسَامَةَ عن هِشَامٍ قال: قرأتُ كتابَ عُمَرِ بن عبدِ العزيز أنَّ دِيَةَ اليَهُوديِّ والنَّصْرانيِّ على الثُّلُثِ مِن دِيَةِ المسلم. وعن وَكِيعٍ عَن سُفْيَانَ عن أبي الزِّنَاد عن عُمَرَ بنِ العزيز قال: دِيَةُ المعاهَدِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المسلم.
          ورَوَى ابنُ حَزْمٍ مِن طريقِ عبدِ الرَّزَّاق أخبَرَنَا مَعْمَرٌ عن الزُّهْرِيِّ عن سَالِمٍ عن أبيه: أنَّ رجلًا مسلمًا قَتَلَ رجلًا مِن أهلِ الذِّمَّةِ عَمْدًا فرُفِعَ إلى عُثْمَانَ بن عفَّانَ فلم يَقتُلْهُ به وغلَّظ عليه الدِّيةَ كَدِيَةِ المسلم. قال الزُّهْرِيُّ: وقتل خالدُ بن المُهَاجِرِ بنِ خالدِ بن الوليد رجلًا ذِميًّا في زمنِ مُعَاويَةَ فلم يَقتلْهُ به وغلَّظ عليه / الدِّيَةَ أَلْفَ دينارٍ.
          قال ابنُ حَزْمٍ: هذا في غايةِ الصِّحَّة عن عُثْمَان، ولا يصحُّ في هذا شيءٌ غيرُ هذا عن أَحَدٍ مِن الصَّحابة إلَّا مَا رُوِّينا عن عُمَرَ مِن حديثِ شُعْبَةَ عن عبدِ الملك بن مَيْسَرةَ عن النَّزَّالِ بْنَ سَبْرَةَ أنَّ رجلًا مسلمًا قتلَ رَجُلًا مِن أهلِ الحِيرة فكتب عُمَرُ أنْ يُقاد به، ثمَّ كتبَ عُمَرُ كتابًا بعدَه: لا تقتلوه ولكنِ اعْقِلوه.
          قال أبو عُمَر: بلغ عُمَرَ أنَّ القاتل مِن فرسان المسلمينَ فكتب أَلَّا تُقِيدُوه، فجاء الكتابُ وقد قُتِلَ، ورُوي أنَّه شاورَ فقال له إمَّا عليٌّ وإمَّا غيرُه: إنه لا يجِبُ عليه قتْلٌ، فكتب أَلَّا يُقتَلَ، قال أبو عُمَرَ: في كتابِ عُمَرَ أَلَّا يُقتَل دليلٌ على أنَّ القَتْلَ كان عليه غيرَ واجبٍ لأنَّ الشَّريفَ والوضيعَ ومَن فيه غَنَاءٌ ومَن ليس فيه غَنَاءٌ في الحقِّ سواءٌ.
          ورَوَى ابنُ حَزْمٍ أيضًا مِن طريقِ عبدِ الرَّزَّاق حدَّثنا رَبَاحُ بنُ عبدِ الله بن عُمَر أخبرَنا حُمَيدٌ الطَّويل أنَّه سَمِعَ أنسَ بنَ مالكٍ يحدِّثُ أنَّ يَهُوديًا قُتِلَ غِيلَةً، فقَضَى فيه عُمَرُ بنُ الخطَّاب باثْنَي عَشَرَ ألْفَ دِرْهمٍ. قال ابنُ حَزْمٍ: واحتجُّوا أيضًا بما رُوِّينا مِن طريقِ عبدِ الرَّزَّاق عن الثَّورِيِّ عن رَبِيْعَةَ بنِ أبي عبد الرَّحمن عن عبدِ الرَّحمن بن البَيْلَمَانِيِّ مرفوعًا: أنَّه أقادَ مسلمًا قَتَلَ يَهُوديًّا، وقال: ((أنا أحقُّ مَن أَوْفَى بِذِمَّتِهِ)).
          ورَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ حديثَه هذا عن ابنِ عُمَر مرفوعًا مِن روايةِ إبراهيمَ بنِ أبي يحيى وقال: لم يُسندْهُ غيرُه وهو متروكُ الحديثِ والصَّوابُ مُرْسَلٌ. وقال مُحَمَّدُ بن نصرٍ المَرْوَزِيُّ في كتاب «اختلاف العلماء»: هو مُنَقطِعٌ ولا يصحُّ.
          قال ابن حَزْمٍ: ورواه بعضُ النَّاس عن يَحيى بن سَلَامٍ عن مُحَمَّدِ بن أبي حُمَيدٍ عن مُحَمَّد بن المُنْكَدِر: ((أنَّه ╕ أقادَ مسلمًا قَتَلَ ذِميًّا)) قال: وذكروا شيئًا ادَّعوا فيه الإجماع، وهو أنَّ عُبَيْد اللهِ بنَ عُمَر بن الخطَّاب لَمَّا قُتِلَ أبوه قَتَلَ الهُرْمُزَانَ وكان مُسلمًا وقَتَلَ جُفَينةَ وَكان نَصْرانيًّا وقَتَلَ بُنَيَّةً صغيرةً لأبي لؤلؤةَ كانت تدَّعي الإسلام، فأشارَ المهاجِرونَ على عُثْمَانَ بِقَتْلِهِ.
          قال: فظاهرُ الأمْرِ أنَّهم أشاروا عليه بقتْلِهِ بهم ثلاثتِهم، قالوا: وَلا خلاف في أنَّ المسلمَ يُقطَعُ إنْ سرق مِن مال الذِّمِّيِّ والمستأمن فقتْلُهُ بهما أَوْلى لأنَّ الدَّمَ أعظمُ حُرمةً مِن المال، وقالوا لنا خاصَّةً: أنتم تَحُدُّونَ المسلم إنْ قَذَفَ الذِّمِّيَّ والمستأمن وتمنعون قتْلَه بقتلِه، واحتجُّوا على الشَّافِعيِّ بقولِه: إنْ قتَلَ ذِمِّيٌّ ذِميًّا ثمَّ أسلمَ فإنَّه يُقتَلُ به عندَكم ولا فرْقَ بين قتْلِكُم مسلمًا بكافرٍ وبين قَتْلِكُم كافرًا بمسلمٍ. ونَقَلَ ابنُ عبدِ البَرِّ قَوْلَ أبي حَنيفَةَ عن جماعةٍ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين.
          وفي الدَّارَقُطْنِيِّ مِن حديثِ أبي الجَنُوبِ _وهو ضعيفٌ_ قال: قال عليٌّ: مَن كانت له ذِمَّتُنا فَدَمُهُ كدمائِنا. ومِن حديثِ عبدِ الرَّزَّاق عن ابنِ جُرَيْجٍ أخبرنا عبدُ الله بنُ أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابن مَسْعُودٍ قال: في ذمَّةِ كلِّ معاهَدٍ مَجُوسِيٍّ أو غيرِه الدِّيَةُ وافيةٌ. وفي حديثِ مَعْمَرٍ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ عنه: دِيَةُ المعاهَدِ مِثْلُ دِيَةِ المسلم، قال: وقال ذلك عليٌّ أيضًا، ورواه ابنُ أبي عَاصِمٍ عن عَلْقَمة: دِيَةُ المعاهَدِ دِيَةُ المسلم.
          وفي حديثِ أبي شُرَيْحٍ أنَّه ╕ قال: ((يا خُزَاعةُ، إنَّكم قد قَتَلْتُم هذا القتيلَ مِن هُذَيلٍ وأنا والله عَاقِلُه، فمَن قُتِلَ له قتيلٌ بعدَ هذا فأهلُه بين خيرينِ إن أحبُّوا قَتَلُوا، وإن أحبُّوا أخذوا الدِّيَة)) قال ابنُ أبي عَاصِمٍ: وهذا المقتول كان كافرًا ولم يقُلْ دِيَةٌ دونَ دِيَةٍ، ولا مقتولٌ بمسلمٍ دون كافرٍ له دِيةٌ، ولا شكَّ أنَّ أذى المعاهَدِ حَرامٌ.
          وفي حديثٍ أخرجه البزَّار في «مسنده» مِن حديثِ أبي بَكْرَةَ: ((مَن قَتَلَ نفْسًا معاهَدَةً لم يَرِح رائحةَ الجنَّة)) وفي لفظ: ((مَن قتل مُعَاهَدًا بغيرِ حقِّه حرَّم اللهُ عليه الجنَّةَ وأنْ يشمَّ ريحَها)).
          قال المُهَلَّب: وفيه دِلالةٌ أنَّ المسلمَ لا يُقتَلُ بالذِّمِّيِّ لأنَّ الشَّارع إنَّما رتَّبَ الوعيدَ للمسلم وعَظَّم الإثمَ فيه في الآخرةِ ولم يَذكُرْ فيهما قِصاصًا في الدُّنيا.
          ورُوِيَ مِن حديثِ ابنِ إسحاقَ قال: سألتُ الزُّهْرِيَّ قلتُ: حدِّثْني عن دِيَةِ الذِّمِّيِّ كمْ كانت على عهدِ رسولِ الله صلعم فقد اختُلِف علينا فيها؟ فقال: ما بَقِيَ أحدٌ بين المشرقِ والمغربِ أعلم بذلك منِّي، كانت على عَهْدِ رسولِ الله صلعم ألفَ دِينارٍ، وأبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ، حتَّى كان مُعَاويَةُ أعطى أهلَ القتيل خمسَ مئةٍ ووضَعَ في بيتِ المال خمسَ مئة دينارٍ. وقد سلف ذلك أيضًا، ورُوِيَ عن عُثْمَانَ بن عفَّانَ: مثل دِيَةِ المسلم، وابن مَسْعُودٍ: مثل دِيَة المسلم، وعن عَطَاءٍ ومُجَاهِدٍ وإبراهيمَ والشَّعْبِيِّ كذلك.
          وفي «المعرفة» للبَيْهَقِيِّ عن الشَّافِعيِّ: حدَّثنا مُحَمَّدُ بن الحَسَن حدَّثنا مُحَمَّد بن يَزِيْد حدَّثنا سُفْيَان بن حُسَينٍ عن الزُّهْرِيِّ أنَّ ابن شاسٍ الجُذَاميِّ قتَلَ رجلًا مِن أنباطِ الشَّام، فأمر عُثْمَانُ بِقَتْلِه، فكلَّمه الزُّبَيرُ وناسٌ مِن الصَّحابةِ ونَهَوْهُ عن قَتْلِه فجَعَلَ دِيَتَه ألْفَ دينارٍ.
          وأسندْنا عن الزُّهْرِيِّ عن ابن المسيَّب أنَّه قال: دِيَةُ كلِّ معاهَدٍ في عهدِه ألْفُ دينارٍ.
          قال الطَّحاويُّ: واحتجَّ بعضُهم بما رُوِيَ أنَّ عُثْمَان قضى في دِيَةِ المعاهَدِ بأربعةِ آلاف، قيل له: قد رُوِيَ عنه أنه قد قضى في دِيَةِ المعاهدِ بِدِيَةِ مُسلمٍ، قال: وهذا أَوْلى ممَّا في الحديثِ الأوَّل عنه؛ لأنَّ ما في الحديثِ الأوَّل رواه عنه سَعِيدُ بنُ المسيِّب، وسعيدٌ يقول بخلافِه يقول: إنَّ دِيَةَ المعاهَدِ ألفُ دِينارٍ.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: قال الزُّهْرِيُّ: فَلَمْ يُقضَ لي أنْ أُذَاكِرَ بذلكَ عُمَرَ بن عبدِ العزيز فأُخبرَه أنَّ الدِّيةَ قد كانت ثابتةً لأهلِ الذِّمَّة، قال مَعْمَرٌ: فقلتُ للزُّهْرِيِّ: إنَّ ابنَ المسيِّبِ قال: دِيَتُهُ أربعةُ آلافٍ، فقال لي: إنَّ خيرَ الأمور مَا عُرِضَ على كِتَابِ الله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ورَوَى ابنُ جُرَيْجٍ عن يَعْقُوبَ بنِ عُتْبَةَ وإسماعيلَ بن مُحَمَّدٍ وصالحٍ قالوا: عَقْلُ كلِّ مُعَاهَدٍ ومُعَاهَدَةٍ كَعَقْلِ المسلمين ذُكرانهم كذُكرانِهم وإناثُهم كإناثِهم، جرتْ بذلك السُّنَّةُ في عهدِ رسولِ الله صلعم.
          فَصْلٌ: احتجَّ الشَّافِعيُّ ومَن قال بقولِه بحديثِ أبي جُحَيفةَ عن عليٍّ ☺ الآتي في بابِ لا يُقتَلُ المسلمُ بالكافر مطوَّلًا، وفي آخرِه: ((ولا يُقتل مُسلمٌ بكافرٍ)) وأخرجه الدَّارَقُطْنِيُّ مِن حديثِ حجَّاجٍ عن قَتَادَةَ عن مُسلم الأَجْرد عن مالكٍ الأشْتر بزيادة: ((ولا ذو عَهْدٍ في عَهْده)) وقال في «عِلله»: رواه حجَّاجُ بن حجَّاجٍ عن قَتَادَةَ عن أبي حسان الأعرج، عن الأشتر، ورواه حجاج بن أرطأة، عن قتادة كما سلف، ومسلمُ الأجردُ هو أبو حسَّانَ الأَعْرَجُ.
          ورواه همَّامٌ وعُثْمَانُ بن مِقْسَمٍ عن قَتَادَةَ عن أبي حسَّانَ الأعرجِ عن عليٍّ _لم يذكر الأَشْتَر_ ورواه ابنُ أبي عَرُوبةَ عَن قَتَادَةَ عن الحَسَن عن قَيْسِ بن عبَّادٍ قال: انطلقتُ أنا والأشترُ إلى عليٍّ ☺. وقولُ سعيدِ بن أبي عَرُوبةَ أشبهُها بالصَّواب.
          واعترض مُعْتَرِضٌ _كما قال ابنُ حَزْمٍ_ بأنَّه قال مرَّةً: عن قَتَادَةَ عن الحَسَنِ، ومرَّةً رواه عن أبي حسَّانَ الأعرجِ مرسلًا، وهذه علَّةٌ في حديث عليٍّ، فقلتُ: فكان ماذا؟ مَا جَعَلَ مِثْلَ هذا علَّةً إلَّا ذو علَّةٍ، ولا ندري لماذا أعلَّه به، وقالوا أيضًا: قد رَوَيتُم مِن طريق وَكِيعٍ حدَّثنا أبو بَكْرٍ الهُذَليُّ عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّه قال: إنَّما قال رسولُ الله صلعم: ((لا يُقتَلُ مسلِمٌ بكافرٍ)) إنَّ أهل الجاهليَّةِ كانوا يَتطالِبون بالدِّماءِ فلمَّا جاء الإسلامُ قال ╕: ((لا يُقتل رَجُلٌ مِن المسلمين بدمِ كافرٍ أصابَه في الجاهليَّة)) وهذا / عجيبٌ جدًّا، الهُذَليُّ كذَّابٌ مشهورٌ، ولو صحَّ أنَّه ╕ قاله لكان هذا خبرًا قائمًا بنفْسِه لِوَضْعِه دِمَاءَ الجاهليَّةِ في حَجَّة الوداع، وكان مَا في صحيفةِ عليٍّ خبرًا آخرَ قائمًا بنفْسِه لا يَحِلُّ تخصيصُه بذلك الخبر؛ لأنَّه دعوى بلا دليلٍ.
          وأمَّا قولُ عليٍّ: مِن السُّنَّة أَلَّا يُقتَلَ مسلمٌ بكافرٍ. فهو عند الدَّارَقُطْنِيِّ مِن حديث جابرٍ الجَعْفِيِّ عن عامِرٍ عنه، ورَوَى في «السُّنن» أيضًا حديثَ مالكِ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحمن عن عَمْرَةَ عن عائِشَةَ ♦ قالت: وُجِدَ في قائِمِ سيفِ رسولِ الله صلعم: ((المؤمنون تتكافأُ دماؤُهم ويَسعَى بِذِمَّتِهم أدناهم، لا يُقتل مُسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عَهْدٍ في عهدِه، ولا يتوارثُ أهلُ مِلَّتين مختلفتين)).
          ورَوَى ابنُ أبي شَيْبَةَ مِن حديثِ عَمْرو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((لا يُقتل مؤمنٌ بكافرٍ)) وزاد في «المحلَّى»: ((فمن قَتَلَ متعمِّدًا دُفِعَ إلى أولياءِ المقتول، فإنْ شاؤوا قتلوهُ وإنْ شاؤوا أخذوا الدِّيَة)).
          قال ابنُ حَزْمٍ: وهذا دليلٌ لنا لأنَّه قال: يُقتل مؤمنٌ بكافرٍ قلنا: نعم، ثمَّ ذَكَرَ حُكمًا آخرَ لو دخل في هذه القضيَّةِ المؤمنُ يقتلُ الذِّمِّيَّ عمدًا لكانت مخالفةً للحكم الَّذي قبلَها وهذا باطلٌ، ولو صحَّتْ لكانت بلا شكٍّ في المؤمنِ يَقتُلُ المؤمنَ عَمْدًا لا فيما قد أبطلَه قَبْلُ، وقالوا: معناه لا يُقتل مؤمِنٌ بكافرٍ حَرْبيٍّ، وكيف يجوز هذا ونَحن مندوبونَ إلى قَتْلِ الحَرْبيِّ؟ وقالوا: إذا قتلَه خطأً، وهذا ممَّا لا يُعقَلُ.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: فإنْ قيل: فقد رُوي: ((ولا ذو عَهْدٍ في عهده)) يعني بكافرٍ، والكافرُ الَّذي لا يُقتَلُ به ذو العَهْد هو الحَرْبيُّ، قالوا: لا يجوز أن يُحمل الحديثُ على أنَّ العهد يحرُمُ به دمُ مَن له عهدٌ لارتفاعِ الفائدة في ذلك؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ الإسلامَ يَحقِنُ الدَّم، والعهدَ يَحقِن الدَّم. قيل له: بهذا الخبر علمْنا أنَّ المعاهَدَ يحرُمُ دمُه ولا يحِلُّ قَتْلُه وهي فائدةُ الخبر، ويستحيلُ أنَّ الله تعالى يأمرُ بقتال الكفَّارِ حيث وُجِدُوا وثُقِفُوا وهُمْ أهلُ الحرب، ثمَّ يقول: لا يُقتل مؤمِنٌ بكافرٍ ثمَّ يَقتُلُه رِفقًا له، ووعدكم اللهُ الجزيلَ مِن الثوابِ على جهادِه، هذا ما لا يظنُّه ذو لُبٍّ، فكيف يخفى مِثْلُهُ على ذي عِلْمٍ؟ قال أبو عُمَرَ: وقد أجمعوا على أنَّه لا يُقادُ للكافر مِن المسلم فيما دونَ النَّفْسِ مِن الجوارح فالنَّفْسُ بذلك أحْرَى وأَوْلى.
          ورَوَى أبو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزمٍ عن أبيه في الكتاب الَّذي كَتَبه رسولُ الله صلعم لعَمْرو بن حزمٍ: ((أنَّ في النَّفْس مئةً مِن الإبل)) أخرجه بِطُولِه ابنُ حِبَّان والحاكم في «صحيحيهما».
          فَصْلٌ: وأمَّا قول مالكٍ واللَّيْث: إنَّ المسلم إذا قَتل الكافر قَتْلَ غِيْلةٍ قُتِلَ به، فمعنى ذلك أنَّ قَتْلَ الغِيْلة إنَّما هو مِن أجل المال، والمحارِبُ والمغتَال إنَّما يُقتلان لِطَلَبِ المال لا لعداوةٍ بينهما، فَقَتْلُ العداوةِ والثَّائرةِ خاصٌّ وقَتْلُ المغتالِ عامٌّ فضرَرُه أعظمُ لأنَّه مِن أهلِ الفساد في الأرض، وقد أباح الله تعالى قَتْلَ الَّذين يَسعَون في الأرض فسادًا سواءٌ قَتَلَ أم لم يَقتُلْ، فإذا قَتَلَ فقد تَناهى فسادُه، وسواءٌ قَتَلَ مسلمًا أو كافرًا أو حُرًّا أو عبدًا، وما قاله مالكٌ قاله طائفةٌ مِن أهلِ المدينة وجعلوهُ مِن باب المحارَبَةِ وقَطْعِ السَّبيلِ كما قلنا.
          قال ابنُ حَزْمٍ: قالوا: الشَّعْبِيُّ هو أحدُ رُواةِ حديثِ عليٍّ، وهو يرى قَتْلَ المؤمنِ بالكافرِ، قلنا لم يصحَّ هذا عن الشَّعْبِيِّ لأنَّه لم يَرْوِهِ عنه إلَّا ابنُ أبي ليلى وهو سيِّئ الحفظ، وداودُ بن يَزِيْد الزَّعَافِريُّ وهو ساقطٌ، ولو صحَّ ذلك عنه لكان الواجب رفضُ رأيِه واطِّراحُ قولِه والأخذُ بروايتِه، وأمَّا احتجاجُ الحنفيِّينَ بمرسَلِ رَبِيْعَةَ عن ابنِ البَيْلَمانِيِّ، وبمرسَلِ ابنِ المُنْكَدِر، قلنا لهم: لا حجَّة في مُرسلٍ؛ فإنْ لَجُّوا قلنا دونكم مُرْسَلٌ مثلهُما، ثمَّ ساق عن عَمْرو بن دِينارٍ حدَّثني سَعِيدٌ: ((أنَّه ╕ فرضَ على كلِّ مسلمٍ قَتَلَ رجلًا مِن أهل الكتاب أربعةَ آلاف درهمٍ، وأن يُنفَى مِن أرضِه إلى غيرِها)) وذكر أنَّ عُمَرَ بن عبدِ العزيز قَضَى بذلك.
          وأمَّا احتجاجُهم بأنَّه كما يجب قطْعُ يدِ المسلم إذا سرقَ مالَ ذِمِّيٍّ فكذلك يجِبُ قتْلُه به فغيرُ جيِّدٍ؛ لأنَّ القَوَد والقِصاص للمسلم مِن الذِّمِّيِّ لم يَجعلهما الله للكافر على المسلم، وليس كذلك القَطْعُ في السَّرقةِ ليسَ هو مِن حقوقِ المسروقِ منه المال، وليس له العفوُ عنه، وإنَّما هو حقُّ لله تعالى أَمَرَ به، شاء المسروقُ منه أو أبى، فلا سبيلَ فيه للذِّمِّيٍّ على المسلمِ أصلًا وكذلك القَذْفُ.
          وأمَّا احتجاجُهم إذا قتل ذِمِّيٌّ ذِميًّا ثمَّ أسلمَ القاتلُ فالقَوَدُ عليه باقٍ فقد أخطأَ هذا القائلُ: بلْ قد سَقَطَ عنه القَوَدُ والقِصاص لأنَّه قَتْلُ مؤمنٍ بكافرٍ وقد حرَّم الله تعالى على لسانِ رسولِه صلعم ذلك.
          قال: فإنِ احتجُّوا بما رُوِّيناه مِن طريق البزَّار مِن حديث يَعْقُوب بن عبدِ الله بن نُجَيدٍ حدَّثني أبي عن أبيه عن عِمْرَان بن حُصَيْنٍ ☻ أنَّ رجلًا مِن خُزَاعة قتلَ رجلًا مِن هُذَيلٍ، فقال ╕: ((لو كنتُ قاتلًا مؤمنًا بكافرٍ لقتلْتُهُ، فأَخْرِجُوا عَقْله)) قلنا: يَعْقُوبُ وأبوه وجدُّه مجهولون. قلت: نُجَيدٌ معروفٌ ذكره ابنُ حِبَّان في «ثِقاته» وقال: رَوَى عن أبيه وعنه ابناهُ عبدُ الله ومُحَمَّدُ ابنَا نُجَيدٍ، عِدَادُه في أهلِ المدينة. وذَكَرَ أيضًا في «ثِقاتِه» ولدَه عبدَ الله.
          ثمَّ اعلم أنَّ البُخَاريَّ ترجمَ بعدُ: بابٌ لا يُقتل المسلم بالكافر، وذَكَرَ هناك حديثَ عليٍّ ☺ وكان مِن حقِّه أن نذكُرَهُ هناك لكنَّا تعجَّلناه استباقًا للخيرات.