التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس

          ░23▒ بَابُ عَرَقِ الجُنُبِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ. /
          283- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: (أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟) قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ! إِنَّ الْمُؤمِنَ لاَ يَنْجُسُ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ مسلمٌ أيضًا والأربعةُ، وأسقطَ مسلمٌ في أكثَرِ نُسَخِه بَكْرًا وعزاهُ أبو مسعودٍ وخلَفٌ إليه بإثباتِه، وكذا البَغَويُّ في «شرح السُّنَّةِ» واعلَمْ أنَّه وَقَعَ لحُذيفَةَ ☺ كما وَقَعَ لأبي هُريرةَ، أخرجه مسلمٌ مُنفَرِدًا به، وكذا لابنِ مسعودٍ كما سيأتي، وأغفَلَهُ أصحابُ الأطرافِ.
          ثانِيها: (أَبُو رَافِعٍ) اسمه نُفَيعٌ الصَّائغُ، مدنيٌّ بصْريٌّ ثِقَةٌ نبيلٌ أدركَ الجاهليَّةَ. و(بَكْرٌ) هو ابنُ عبدِ الله المزَنيُّ، تابعِيٌّ ثِقَةٌ إمامٌ، ماتَ سنةَ ثمانٍ ومئة. و(حُمَيْدٌ) هو الطَّويلُ. و(يَحْيَى) هو ابنُ سعيدٍ القطَّانُ.
          ثالثُها: قولُه: (وَهُوَ جُنُبٌ) أي مُبْعِدٌ لأنَّ الجنابةَ دالٌّ على معنى البُعْدِ، ومنهُ قولُه تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] وعن الشَّافِعِيِّ: إنَّما سُمِّيَ جُنُبًا مِن المخالطِةِ، ومِن كلامِ العربِ أجنَبَ الرَّجلُ إذا خالطَ امرأتَه، أي فمُخالطتُها مؤدِّيَةٌ إلى الجنابَةِ الَّتي معناها البُعْدُ.
          رابعُها: (انْخَنَسْتُ) هو بالخاءِ المعجَمَة ثُمَّ نونٍ ثُمَّ سينٍ مهمَلَةٍ، أي تأخَّرْتُ ورجَعْتُ وانقبضْتُ، وهو لازمٌ ومُتَعَدٍّ وفيه سَبْعُ رِواياتٍ أُخَرَ: انبَجَسْتُ انتَجَسْتُ انبَخَسْتُ اخْتَنسْتُ انْبَجَشْتُ انْتَجَشْتُ احتَبَسْتُ. وكلُّها راجعةٌ إلى الانفصالِ والمزايلَةِ على وجْهِ التَّعظيمِ له، وقد أوضحْتُها بشواهِدِها في «شرح العُمدة» فليُراجع منه. وذَكَرَ المنذِرِيُّ أنَّ الثَّانيةَ لفظُ البُخاريِّ والتِّرمِذِيِّ، وقال ابنُ بطَّالٍ: الواقِعُ فيه انبَخَسْتُ بالخاءِ ولا معنى له، ولابْنِ السَّكَنِ: <انْبَجَسْتُ> قال: والأشبَهُ فانْخَنَسْتُ.
          فائدةٌ: سببُ انخنَاسِ أبي هُريرَةَ عنه أنَّه كانَ إذا لقِيَ أحدًا مِن أصحابِه ماسَحَهُ ودَعَا له كما أخرجهُ ابنُ حِبَّانَ مِن حديثِ حُذيفةَ، وفي النَّسائيِّ مِن حديثِ أبي وائلٍ عن عبدِ الله _يعني ابنَ مسعودٍ_ قال: لَقِيَنِي النَّبيُّ صلعم وأَنَا جُنُبٌ فَأَهْوَى إليَّ، فقلتُ: إنِّي جُنُبٌ، فقال: ((إِنَّ الْمُسلِمَ لاَ يَنْجُسُ)).
          خامسُها: قولُه: (كُنْتُ جُنُبًا) أي ذا جنابَةٍ، يُقال جَنِبَ الرَّجُلُ وأَجنَبَ إذا أصابَتْهُ الجَنَابةُ.
          سادسُها: قولُه صلعم: (سُبْحَانَ اللهِ!) المرادُ بها التَّعجُّبُ مِن أنَّ أبا هُريرةَ اعتقدَ نجاسةَ نفْسِه بسبَبِ الجَنابةِ، وهذه اللَّفظَةُ مِن المصادِرِ اللَّازِمَةِ للنَّصْبِ، ومعناهُ تنزيهُ اللهِ وبراءَتُهُ عن النُّقصانِ الَّذِي لا يليقُ بجلالِه.
          سابعُها: قولُه: (إِنَّ الْمُؤمِنَ لاَ يَنْجسُ) هو بفتْحِ الجيمِ وضمِّها بناءً على أنَّ ماضِيَهُ نَجسَ بالفتْحِ أو بالضَّمِّ.
          ثامنُها: في أحكامِه:
          الأَوَّلُ: استحبابُ الطَّهارةِ عندَ مُجالسةِ العُلماءِ وأهلِ الفَضْلِ لِيكونَ على أكمَلِ الحالاتِ.
          الثَّاني: أنَّ العالِمَ إذا رأى مِن تابِعِه أمرًا يَخافُ عليه فيه خلافَ الصَّوابِ سألَهُ عنه وقال له صوابَه وبيَّنَ له حُكمَه.
          الثَّالثُ: جوازُ التَّعجُّبِ بِسبحانَ اللهِ.
          الرَّابِعُ: تأخيرُ الاغتسالِ عن أوَّلِ وقْتِ وجوبِه، وجوازُ انصرافِه في حوائجِه قَبْلَهُ.
          الخامسُ: طهارةُ المسلمِ حيًّا وميِّتًا، أمَّا الحيُّ فإجماعٌ وأمَّا الميِّتُ فهو الأصحُّ مِن قَولَيِ الشَّافِعِيِّ وصحَّحهُ القاضي عياضٌ أيضًا، وسيأتي تعليقُ البُخاريِّ عن ابنِ عبَّاسٍ: المسلمُ لا ينجُسُ حيًّا ولا ميِّتًا، والحاكِمُ صحَّحهُ على شرطِ الشَّيخيْنِ، وسواءٌ في جَرَيانِ الخلافِ المسلمُ والكافرُ، وخَصَّ المؤمِنَ بالذِّكْرِ لشَرَفِهِ، وذهبَ بعضُ أهلِ الظَّاهرِ إلى نجاسَتِه في حياتِه أَخْذًا بقولِه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، وعزاه القرطبيُّ في «الجنائز» إلى الشافعيِّ فأغرَبَ.
          ونقَلَ ابنُ العَرَبيِّ الاتِّفاقَ على طهارةِ الشَّهيدِ بعدَ الموتِ، والأنبياءُ صلَواتُ الله وسلامُه عليهِم أحياءٌ في قُبورِهم، فاعلَمْهُ. وأُجِيْبَ عن الآيةِ السَّالِفَةِ بأنَّهم نَجِسُوا الأفعَالِ والاعتقادِ لا الأعضاءِ، أو أنَّ الغالِبَ عليهم النَّجاسةُ، فإنَّهم لا يتحفَّظون منها غالبًا.
          السَّادسُ: طهارةُ بدنِ الجُنُب وعَرقِهِ وهو إجماعٌ كما حكاهُ ابنُ المنذِرِ، قال: وعَرَق الذِّمِّيِّ عندِي طاهرٌ، وخالفَ ابنُ حزْمٍ فجعلَه نَجِسًا مِن المشرِكِ، لكنَّ الباري تعالى أباحَ نِكَاحَ أهلِ الكتابِ منهنَّ ومعلومٌ أنَّ عَرَقَهُنَّ لا يَسْلَمُ منه مَن يُضاجِعُهُنَّ، والإجماعُ قائمٌ على ألَّا غُسْلَ عليه مِن الكِتابيَّةِ إلَّا كما عليه مِن المسلمَةِ.
          وفي «المدوَّنةِ» على ما نقلَهُ ابنُ التِّينِ أنَّ المريضَ إذا صلَّى لا يستَنِدُ لحائضٍ ولا جُنُبٍ، وأجازَهُ أشهَبُ، قال الشَّيخُ أبو محمَّدٍ: لأنَّ ثيابَهُمَا لا تكادُ تَسْلَم مِن النَّجَاسَةِ، وقال غيرُه: لأجْلِ أعيُنِهِمَا لا لثيابِهِمَا. وفي «صحيح ابنِ خُزيمةَ» عن القاسمِ بنِ محمَّدٍ قال: سألتُ عائشةَ عن الرَّجُلِ يأتِي أهلَه ثُمَّ يلبسُ الثَّوبَ فَيَعْرَقُ فيه، أنَجِسٌ ذلك؟ فقالتْ: قدْ كانتِ المرأةُ تُعِدُّ خِرقَةً أو خِرَقًا، فإذا كان ذلك مسحَ بها الرَّجُلُ الأذى عنه، ولم يرَ أنَّ ذلك يُنَجِّسُهُ. وفي لفظٍ: ثُمَّ صَلَّيا في ثَوْبَيْهِمَا.
          وفي الدَّارَقُطنيِّ مِن حديثِ عائشةَ: ((كان ◙ لا يرى على البَدَنِ جَنَابَةً، ولا على الأرضِ جنابَةً، ولا يُجْنِبُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ)). وقال البَغَوِيُّ: معنى قولِ ابنِ عبَّاسٍ أربعٌ لا يُجنِبْنَ، الإنسانُ والثَّوبُ والماءُ والأرضُ. يريدُ الإنسانُ لا يُجْنِبُ بِمُمَاسَّةِ الجُنُبِ ولا الثَّوبُ إذا لَبِسَهُ الجُنُبُ ولا الأرضُ إذا أفضَى إليها الجُنُبُ ولا الماءُ إذا غَمَسَ الجُنُبُ يدَهُ فيه.
          السَّابِعُ: أنَّ النَّجاسةَ إذا لم تكُنْ عَينًا في الأجسامِ لا يَضُرُّ ما يطرَأُ عليها في وصفِها فإنَّ المؤمِنَ طاهرُ الأعضاءِ فإنَّه يحافِظُ على الطَّهارةِ والنَّظافةِ بخلافِ الكافرِ كما سَلَفَ، / فحُمِلَتْ كلُّ طائفةٍ على عادتِها، فابنُ آدمَ ليسَ بنَجِسٍ في ذاتِه ما لم تَعْرِض له نجاسةٌ تَحُلُّ به.
          الثَّامِنُ: فيه أيضًا مواساةُ الفُقراءِ، وائتلافُ قلوبِ المؤمنينَ، والتَّواضُعُ لله، واتِّباعُ أمْرِ اللهِ، قالَ تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] وملازمةُ أبي هُريرة رسولَ الله صلعم، وسؤالُه عمَّن غابَ مِن أصحابِه، وأنَّه كما وصَفَهُ الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وطهارةُ المؤمِنِ حيًّا ومَيِّتًا كما سَلَفَ، وأمَّا الغُسْلُ في حقِّ الميِّتِ فهو كالوُضوءِ في حقِّ الحَيِّ للتَّأهُّبِ عندَ القيامِ واللِّقاءِ فالبارِي أحقُّ مَن تُجُمِّل له. وفيه غيرُ ذلِكَ مِمَّا سيأتي في حديثِه بعْدُ إن شاء الله تعالى.