التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل

          ░6▒ بَابُ: مَنْ بَدَأَ بِالحِلاَبِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ الغُسْلِ:
          258- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ، دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الحِلاَبِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ).
          الكلامُ عليه من أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ أيضًا وأبو داودَ والنَّسائيُّ عن محمَّد بن المثنَّى أيضًا.
          و(القَاسِمِ) هو ابن محمَّدٍ الفقيهُ وعائشةُ عمَّتُهُ، ماتَ سنةَ سبعٍ ومئة.
          و(حَنْظَلَةَ) الرَّاوي عنه هو ابنُ أبي سفيانَ، ثَبْتٌ ماتَ سنةَ إحدى وخمسينَ ومئة.
          ثانيها: (الْحِلَابِ) بكسْرِ الحاءِ المهمَلَةِ، وهو إناءٌ يَسَعُ حَلْبَةَ ناقةٍ، وهو المِحلَبُ بكسْرِ الميمِ، فأمَّا الْمَحلَبُ _بفتْحِ الميمِ_ فهو الحَبُّ الطيِّبُ الرَّائحةِ، والبُخاريُّ جعلَ الحِلابَ في هذه التَّرجمَةِ ضَرْبًا مِن الطِّيبِ وصرَّحَ به الدَّاوُديُّ في «شرحِه» وليسَ كما فَعَلَا، وإنَّما هو الإناءُ الَّذي كانَ فيه طِيبُه صلعم الَّذي كان يستعملُه عندَ الغُسْلِ، وقد نصَّ غيرُ واحدٍ على وَهْمِ البُخاريِّ في ذلكَ.
          قال الحُمَيدِيُّ: جَمَعَ مسلمٌ هذا الحديثَ مع حديثِ الفَرَقِ وحديثِ قَدْرِ الصَّاعِ في موضعٍ واحدٍ وتأوَّلَهَا على الإناءِ، وفي البُخاريِّ ما ربَّما ظنَّ ظانٌّ أنَّهُ قدْ تأوَّلَهُ على أنَّهُ نوعٌ مِن الطِّيبِ يكونُ قبل الغُسْلِ لأنَّه ترجمَ البابَ بذلكَ: (الحِلاَبِ أَوِ الطِّيبِ) وفي بعضِها: <والطِّيبِ> ولم يذكُرْ غيرَه، وقد ذَكَرَ الهرَوِيُّ في باب الحاءِ المهمَلَةِ الحِلَاب والمِحلَبَ الإناءَ الَّذي تُحْلَبُ فيه ذواتُ الألبانِ.
          وقال الخطَّابيُّ: إنَّهُ إناءٌ، قال: وذَكَرَهُ البُخاريُّ في كتابِه وتأوَّلَهُ على استعمالِ الطِّيبِ في الطَّهُور، وأحسِبُهُ توهَّمَ أنَّه أُرِيدَ به الْمَحلَبُ الَّذي يُسْتَعمَلُ في غَسْلِ الأيدِي، وليس هذا مِن البابِ في شيءٍ، وإنَّما هو ما فسَّرْتُ لك. وعند الإسماعيليِّ: (دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الحِلاَبِ) وفي روايةٍ: ((كانَ يغتَسِلُ مِن حِلابٍ)) وهو إشارةٌ إلى إناءٍ لا إلى طِيبٍ. وفي حديثِ مكَّيٍّ عن القاسمِ أنَّه سُئِلَ: كم يكفي مِن غُسْلِ الجنابةِ؟ فأشارَ إلى القَدَحِ أو الحِلابِ، ففيهِ بيانُ مِقدارِ ما يحتملُ مِن الماءِ لا الطِّيبِ أو التَّطيُّبِ.
          وقال ابن الجوزيِّ: غَلِطَ جماعةٌ في تفسيرِ الحِلابش، منهمُ البُخاريُّ فإنَّه ظنَّ أنَّ الحِلابَ شيءٌ مِن الطِّيبِ، وكأنَّهُ توهَّمَ أنَّ الحِلابَ الْمَحلَبُ الَّذي يُستَعْمَلُ في غَسْلِ الأيدِي، وليس هذا مكانُه، وصحَّفَ آخَرونَ لَفْظَهُ، منهم الأزهرِيُّ فإنَّه ضَبَطَهُ بالجيمِ وتشديدِ اللَّامِ ثُمَّ فسَّرَهُ بأنَّه ماءُ الوَرْدِ فارسيٌّ معرَّبٌ، حكاهُ عنه الحُميديُّ، وقرأْناهُ على شيخِنا أبي منصورٍ اللُّغَوِيِّ وقال: أرادَ بالجُلَّابِ ماءَ الوَرْدِ فارِسِيٌّ معرَّبٌ، وكذا ذَكَرَهُ أبو عُبيدٍ الهرَوِيُّ في بابِ الجيمِ إلَّا أنَّه لم يَنْصُرْهُ، وهؤلاء عن معرفةِ الحديثِ بمعزِلٍ، إنَّما البُخاريُّ أعجَبُ حالًا لأنَّ لفظَ الحديثِ: (دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الحِلاَبِ) فلو كان: دعا بالحِلابِ، كانَ رُبَّما يُشكِلُ، ونَحْوُ الشَّيءِ غيْرُه، على أنَّ في بعضِ الألفاظِ: ((دَعَا بإناءٍ مِثْلِ الحِلَابِ)).
          وقال ابن قُرْقُول: الحِلَاب إناءٌ وهو المِحلَبُ، وترجَمَ البُخاريُّ عليه بابَ الطِّيب عند الغُسْلِ، يدُلُّ على أنَّه عندَه ضَرْبٌ مِن الطِّيبِ، وهذا لا يُعْرَفُ وإنَّما المعروفُ حَبُّ الْمَحلَبِ نوعٌ يقعُ في الطِّيبِ. وقال ابنُ الأثيرِ في «نهايتِه» لَمَّا ذَكَرَ الحِلَابَ بالحاءِ قال: وقد رُوِيَتْ بالجيمِ، ويُحتَمَلُ أنَّ البُخاريَّ أرادَهُ ولهذا ترجَمَ به وبالطِّيبِ، لكنَّ الَّذي يُروَى في كتابِه إنَّما هو بالحاءِ وهو بها أشبَهُ لأنَّ الطِّيبَ لمن يغتَسِلُ بعدَ الغُسْلِ أليَقُ به مِن قَبْلِه وأَوْلى لأنَّه إذا بدأَ به ثُمَّ اغتسَلَ أذهبَهُ الماءُ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: أظُنُّ البُخاريَّ جعلَهُ ضَرْبًا مِن الطِّيبِ، فإنْ كانَ ظَنَّ ذلك فهو وَهْمٌ، ثُمَّ قال: وفي الحديثِ / الحضُّ على استعمالِ الطِّيبِ عندَ الغُسْلِ تأسِّيًا بالشَّارِعِ. قلتُ: وفي كتابِ «التطيُّبِ» للمُفضَّل بن سَلَمة أنَّه يُقَال: اغتسلَتِ المرأةُ بالطِّيبِ.
          ثالثُها: (وَسَطِ رَأْسِهِ) هو بالفتْحِ كما قال ابنُ التِّينِ لأنَّه اسمٌ، قال الجوهريُّ: كلُّ موضِعٍ صَلُحَ فيه «بَينَ» فهو ساكِنٌ، وعكْسُهُ محرَّكٌ وربما سُكِّنَ، وليس بالوجه.
          رابعُها: إنَّما بدأَ بشِقِّ رأسِه الأيمَنِ لأنَّه كانَ يُحِبُّ التَّيامُنَ في طُهُوره. وقولُه: (فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ) يعني بيديهِ.