التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد

          ░12▒ بَابٌ إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ، وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ.
          268- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ)، قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: (كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ). وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ: (تِسْعُ نِسْوَةٍ).
          (سَعِيدٌ) هذا هو ابن أبي عَرُوبَةَ، وقد ذَكَرَ البُخاريُّ حديثَه في بابِ الجُنُب يخرجُ ويمشي في السُّوقِ [خ¦284] وكذا في النِّكاح [خ¦5068] وزَعَمَ الجَيَّانيُّ أنَّ في نُسخَةِ الأَصِيليِّ <شُعبةُ> بَدَلَ (سَعِيدٌ) قال الأَصِيليُّ: وفي عَرْضِنَا على أبي زيْدٍ بمكَّةَ: (سَعِيدٌ) وكذا رواه ابنُ السَّكَنِ وغيرُه، قال أبو عَلِيٍّ: وهو الصَّوابُ.
          ثُمَّ قال البُخاريُّ:
          267- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلعم فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا).
          أمَّا حديثُ أنَسٍ فالكلامُ عليه مِن وجوهٍ:
          أحدُها: نُسَخُ البُخاريِّ مختلفةٌ في تقديمِ حديثِ أَنَسٍ على حديثِ عائشةَ وعكْسِهِ، وتقديمُ حديثِ عائشةَ هو ما مَشَى عليه الشُّرَّاحُ: الدَّاوُدِيُّ وابنُ بطَّالٍ وبعضُ شيوخِنَا في شرْحِه. وحديثُ أنسٍ أخرجه مسلمٌ مِنْ حديثِ هشامِ بنِ زيدٍ عنه أنَّ النَّبيَّ صلعم ((كان يطوفُ على نِسَائهِ بِغُسْلٍ واحِدٍ)) وهو مطابقٌ لتبويبِ البُخاريِّ دونَ ما ذَكَرَهُ، وأخرجهُ أبو دَاوُدَ والنَّسائِيُّ مِن حديثِ حُميدٍ عنه، وابنُ خُزَيمةَ في «صحيحِه» مِن حديثِ ثابتٍ عنه، وقالَ: غريبٌ والمشهورُ عن قتادةَ عنه.
          ولَمَّا خرَّجَهُ التِّرمِذِيِّ مِن حديثِ قتادةَ عنهُ قالَ: وفي البابِ عن أبي رافِعٍ، كذا قالَ، وحديثُ أبي رَافِعٍ معارِضٌ لهذا أخرجهُ أبو داودَ بلَفْظِ: إنَّ النَّبيَّ صلعم طافَ ذاتَ يومٍ على نِسائِهِ يَغْتَسِلُ عندَ هذِه وعندَ هذِه، قال: فقلتُ: يا رسولَ الله، أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا واحِدًا؟ قالَ: ((هَذَا أَزْكَى وأطيَبُ وأطهَرُ)) وأخرجهُ النَّسائيُّ وابنُ ماجَه، قالَ أبو داودَ: حديثُ أنسٍ أصحُّ مِن هذا، وضعَّفه ابنُ القَطَّان، وأمَّا ابنُ حزْمٍ فصحَّحَهُ.
          ثانِيها: قولُه: (يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وفي روايةِ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبة عن قتادةَ: ((في اللَّيلَةِ الواحِدَةِ)) كما سيأتي في بابِه.
          ثالثُها: دَوَرَانُه صلعم عليهنَّ في ذلكَ يحتملُ ثلاثةَ أَوجُهٍ:
          أحدُها: أن يكونَ ذلكَ عندَ إقبالِه مِن سَفَرِهِ حيثُ لا قَسْمَ يلزَمُ لأنَّه ((كانَ إذا سافَرَ أقرَعَ بينَ نسائِه فأيَّتُهُنَّ خرجَ سهْمُها سافَرَ بها)) فإذا انصرَفَ استأنَفَ القَسْمَ بعْدَ ذلكَ، ولم تكُنْ واحدَةٌ منهُنَّ أَوْلَى مِن صاحبَتِها بالبَدَاءَةِ، فلمَّا استوتْ حقوقُهنَّ جَمَعَهُنَّ كلَّهنَّ في وقْتٍ ثُمَّ استأنفَ القَسْمَ بعدَ ذلكَ.
          ثانِيها: أنَّ ذلك كان بإذْنِهنَّ ورِضَاهُنَّ أو بإذْنِ صاحبَةِ النَّوْبَةِ ورِضَاها كنَحْوِ استئذانِه لهُنَّ أن يُمرَّضَ في بيتِ عائشةَ، قالَه أبو عبيدٍ.
          ثالثُها: للمهلَّبِ، أنَّ ذلك كانَ في يومِ فراغِه مِن القَسْمِ بينَهُنَّ، فيفرَغُ في هذا اليومِ لهُنَّ أجمَع، ثُمَّ يستأنِفُ بعْدَ ذلك.
          وهذه التآويلُ إنَّما يَحتاج إليها مَن يقولُ بوُجوبِ القَسْمِ عليه صلعم في الدَّوامِ كما يجِبُ علينا، وَهُمُ الأكثرُونَ، وأمَّا مَن لا يُوجِبُه فلا يَحتاجُ إلى تأويلٍ، وهو رأي الإصطَخْرِيِّ مِن أصحابِنا، وذَكَرَ ابنُ العربيِّ المالكيُّ أنَّ الله تعالى خصَّ نبيَّه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ / بأشياءَ في النِّكَاحِ، منها أنَّه أعطاهُ ساعةً لا تكونُ لأزواجِه فيها حقٌّ يدخُلُ فيها على جميعِ أزواجِه فيفعَلُ ما يُريدُ بهنَّ ثُمَّ يدخلُ عندَ الَّتي يكونُ الدَّوْرُ لها، وفي «كتاب مسلم» عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ تلكَ السَّاعةَ كانتْ بعدَ العصرِ، فلو اشتغلَ عنها لكانتْ بعْدَ المغربِ أو غيرِه فلِذلِكَ قال في الحديثِ: (فِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ مِنَ لَيْلٍ أو نهَارٍ).
          رابعُها: فيه أنَّ غُسْلَ الجنابةِ ليسَ على الفورِ، وإنَّما يتضيَّقُ عندَ القيامِ إلى الصَّلاةِ، وهو إجماعٌ، نعمْ هل وجَبَ بالتقاءِ الخِتانينِ وإنزالِ المنيِّ أو بالقيامِ إلى الصَّلاةِ أو بالمجموعِ؟ فيه أوجُهٌ لأصحابِنا مَحَلُّ إيضاحِها كُتُبُ الفُروعِ.
          خامسُها: فيه طَهارةُ بَدَنِ الجُنُبِ وَعَرَقِهِ.
          سادسُها: قولُه: (وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ) قال ابنُ خُزيمةَ: لم يَقُلْ أَحَدٌ مِن أصحابِ قتادةَ: (إِحْدَى عَشْرَةَ) إلَّا معاذُ بنُ هشامٍ عن أبيه. وقد ذَكَرَ البُخاريُّ الرِّوايةَ الأُخرَى عن أنسٍ: (تِسْعُ نِسْوَةٍ) وجَمَعَ بينهُما بأنَّ أزواجَه كُنَّ تِسعًا في هذا الوقتِ كما في رِوايةِ سعيدٍ، وسُرِّيتاهُ مارِيَةُ ورَيحَانَةُ على روايةِ مَن رَوَى أنَّ ريحانة كانت أَمَةً، وَرَوَى بعضُهم أنَّها كانتْ زوجةً، ورَوَى أبو عُبيدٍ أنَّه كان مع ريحانَةَ فاطمةُ بنتُ شُرَيح.
          قال ابنُ حِبَّان: حكى أنسٌ هذا الفعلَ منه في أوَّلِ قدومِهِ المدينةَ حيثُ كانَ تحتَه تِسْعُ نِسْوَةٍ لأنَّ هذا الفِعْلَ كانَ منه مِرارًا لا مرَّةً واحِدَةً، ولا نعلَمُ أنَّه تزوَّجَ نساءَه كلَّهُنَّ في وقتٍ واحدٍ، ولا يستقيمُ هذا إلَّا في آخِرِ أمْرِه حيثُ اجتمعَ عنده تِسْعُ نسوةٍ وجاريتانِ، ولا نعلَمُ أنَّه اجتمعَ عندَه إحدَى عشْرَةَ امرأةً بالتَّزويجِ فإنَّه تَزَوَّجَ بإحدَى عشْرَةَ، أَوَّلُهُنَّ خديجةُ ولم يتزوَّجْ عليها حتى ماتتْ، ووقَعَ في «شرح ابنِ بطَّالٍ» أنَّه صلعم لا يَحِلُّ له مِن الحرائرِ غيرُ تسعٍ، والأصحُّ عندَنا أنَّه يَحِلُّ له ما شاء مِن غيرِ حصْرٍ.
          سابعها: قولُ أنسٍ: (كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ) كذا جاءَ هُنا، وفي «صحيحِ الإسماعيليِّ» مِن حديثِ أبي يَعلَى عن أبي مُوسَى عن معاذٍ: ((قُوَّةَ أربعين)) وفي «الحِليةِ» لأبي نُعَيمٍ عن مجاهدٍ: ((أُعْطِيَ قُوَّةَ أَرْبَعينَ رَجُلًا كلُّ رَجُلٍ مِن رِجَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ)) وذَكَرَ ابنُ العربيِّ أنَّه كانَ لِرَسولِ الله صلعم القُوَّةُ الظاَّهرةُ على الخَلْقِ في الوطْءِ كما في هذا الحديثِ، وكانَ له في الأكْلِ القَناعةُ ليَجْمَعَ الله له الفَضْلَين في الأمورِ الاعتياديَّةِ كما جَمَعَ له الفضِيلَتينِ في الأمورِ الشَّرعيَّةِ حتَّى يكونَ حالُه كاملًا في الدَّارينِ.
          ثامنُها: فيه جوازُ الجمعِ بينَ الزَّوجاتِ والسَّرارِي _كما قرَّرناه_ بغُسْلٍ واحِدٍ، لكنَّ الغُسْلَ بعدَ كلِّ وطْءٍ أكمَلُ، وهو حُجَّةٌ لمالكٍ في قولِه: إنَّ مَن ظاهَرَ مِن أمَتِهِ لَزِمَهُ الظِّهارُ لأنَّها مِن نسائِه، واحتجَّ بظاهِرِ قولِه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] وخالَفَ أبو حنيفة والشافعيُّ في ذلك.
          تاسعُها: ثَبَتَ في «صحيحِ مسلمٍ» مِن حديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ)) وفي روايةٍ لابنِ خُزيمةَ: ((وُضُوءَهُ للصَّلَاةِ)) وفي أُخرَى له: ((فَهُوَ أَنْشَطُ للعَوْدِ)) ولَمَّا خرَّجَ الحاكمُ لفْظَةَ ((وُضُوءَه للصَّلاةِ)) وصحَّحَها قال: هذه لَفْظَةٌ تفرَّدَ بها شُعبةُ عن عاصمٍ، والتَّفرُّدُ مِن مِثْلِه مقبولٌ عندَهُما. وفي روايةٍ لابنِ حزمٍ: ((فَلَا يَعُودُ حتَّى يَتَوضَّأَ)) وصحَّحها ثُمَّ قال: لم نجدْ لهذا الخبرِ ما يُخصِّصُه ولا ما يُخرِجُه إلى النَّدْبِ إلَّا خبرًا ضعيفًا رواه يَحيى بنُ أيوبَ عن موسى بن عُقَبةَ عن أبي إسحاقَ عن الأسودِ عن عائشةَ: ((كانَ النَّبيُّ صلعم يُجامعُ ثمَّ يَعُود ولا يَتَوضَّأُ، ويَنَامُ ولا يَغْتَسِلُ)) قال: وبإيجابِ الوُضوءِ يقولُ عطاءٌ وإبراهيمُ وعكرمةُ وابنُ سيرينَ والحسنُ.
          قلتُ: وفي «المصنَّفِ» عن ابنِ عمرَ: إذا أردْتَ أن تعودَ توضَّأْ، ورَوَى بإسنادِه عن الحسَنِ أنَّه كانَ لا يَرَى بأسًا أن يُجامِعَ ثُمَّ يَعُودَ قبْلَ أن يتوضَّأَ، قال: وكان ابنُ سيرينَ يقولُ: لا أعلمُ بذلكَ بأسًا، إنَّما قيلَ ذلكَ لأنَّه أَحْرَى قبْلَ أنْ يعودَ، وهذا خلافُ ما نقَلَهُ ابنُ حزْمٍ عنهما.
          وقالَ أبو عمرَ: ما أعلَمُ أحدًا مِن أهلِ العلمِ أوجَبَهُ إلَّا طائفةً مِن أهلِ الظَّاهرِ، وأمَّا سائرُ الفقهاءِ بالأمصارِ فلا يوجِبُونَهُ وأكثَرُهُم يأمرونَ به ويستحبُّونَه خلافَ الحائضِ. قلتُ: ونَقَلَ النَّوويُّ عن ابنِ حبيبٍ المالكيِّ وجوبَه، وقال أبو عَوَانة في «صحيحِه»: يعارِضُ هذا الخبَرَ حديثُ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: ((إنَّما أُمِرْتُ بالوُضُوءِ إذا قُمْتُ إلى الصَّلَاةِ)) إنْ كان صحيحًا عندَ أهلِ الحديثِ، وقال الطَّحاويُّ: حديثُ الأسودِ السَّالِفِ هو المعمولُ به. وقال الضِّياءُ المقدِسِيُّ والثَّقَفِيُّ في «نُصرَةِ الصِّحاح»: هذا كلُّه مشروعٌ جائزٌ مَن شاء أخذَ بهذَا ومَن شاء أخذَ بالآخَرِ.
          قلتُ: ولا يمكنُ حمْلُ حديثِ أبي سعيدٍ على غَسْل الفَرْجِ وإن كان رُوِيَ: ((إذا أَتَى أَحَدُكُم أَهْلَهُ فَأَرادَ أن يَعُودَ فَلْيَغْسِلْ فَرْجَهُ)) قال التِّرمِذِيُّ عن البخاريِّ: الصَّحيحُ موقوفٌ على عُمَرَ، ولا شَكَّ في تأكُّدِ غَسْلِ الفَرْجِ لا سيَّما إذا أرادَ جِمَاعَ مَن لم يُجامِعْهَا.
          وأمَّا حديثُ عائشةَ فالكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ قريبًا أيضًا كما ستعلَمُه [خ¦270] وأخرجه مسلمٌ في المناسكِ.
          و(إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ) راوِيهِ هَمْدَانيٌّ ثِقَةٌ قانِتٌ لله نَبيلٌ، ووالِدُهُ تابِعِيٌّ ثِقَةٌ، و(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو محمَّدُ بنُ إبراهيمَ بنِ أبي عَدِيٍّ البَصْرِيُّ، ثِقَةٌ ماتَ سنةَ أربعٍ وتسعينَ ومئة.
          ثانِيها: في بعْضِ طُرُقِ الحديثِ عن محمَّد بن المنتَشِرِ قال: سألتُ ابنَ عمرَ عن الرَّجُلِ يتطيَّبُ ثُمَّ يُصبِحُ مُحْرِمًا، فقال: ما أُحِبُّ أنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيْبًا، لَأَنْ أَطَّلِي بِقَطِرَانٍ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أفعَلَ ذلكَ، فدخلتُ على عائشةَ فأخبرتُها بما قال ابنُ عمرَ فقالتْ عائشةُ الحديثَ، وهو مبيِّن لرواية البخاريِّ هنا، وقد ذكر بعد ذلك قريبًا منها [خ¦270].
          ثالثُها: قولُها: (يَنْضَخُ طِيبًا) هو بالخاءِ المعجَمَةِ، أي يفُورُ، ومنه قولُه تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] وهذا هو المشهورُ، وضبَطَهُ بعضُهُم بالحاءِ المهمَلَةِ، قال الإسماعيليُّ: وكذا ضبَطَهُ عامَّةُ مَن حدَّثَنا، وهما متقارِبَانِ في المعنى. قال ابنُ الأثيرِ: وقد اختُلِفَ في أيِّهِما أكثَرُ، والأكثرُ بالمعجَمَةِ أقلُّ مِن المهمَلَةِ، وقيل: المعجمَةُ الأثَرُ يبقَى في الثَّوبِ والجسَدِ، وبالمهمَلَةِ الفِعْلُ نفْسُهُ، وقيل: بالمعجَمَةِ ما فُعِلَ متعمَّدًا، وبالمهمَلَةِ مِن غيرِ تعمُّدٍ.
          وذَكَرَ صاحبُ «المطالع» عن ابنِ كيسانَ أنَّه بالمهمَلَةِ لِمَا رَقَّ كالماءِ، وبالمعجمَةِ لِمَا ثَخُنَ كالطِّيبِ، وقال النَّوويُّ: هو بالمعجمَةِ أقلُّ مِن المهملَةِ، وقيلَ عَكْسُهُ. وقالَ ابنُ بطَّالٍ: مَن رواهُ بالخاءِ فالنَّضْخُ عندَ العربِ كاللَّطْخِ، يُقالُ: نَضَخَ ثوبَهُ بالطِّيبِ، هذا قولُ الخَليلِ، وفي كتابِ «الأفعالِ»: نَضَخَتِ العينُ بالماء نَضْخًا إذا فارَتْ، واحتَجَّ بقولِه تعالى: {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] ومَن رواهُ بالحاءِ فقالَ صاحبُ «العينِ»: نضحَتِ العَينَ بالماءِ إذا رأَيتَها تفورُ، وكذلِكَ العينُ الناظِرَةُ إذا رأيتَها تغْرَوْرِقُ.
          رابعُها: قولُها: (كُنْتُ أُطَيِّبُ / رَسُولَ اللهِ صلعم) فيهِ دِلالةٌ على استحبابِ الطِّيبِ عندَ إرادةِ الإحرامِ، وأنَّه لا بأْسَ باستدامتِه بعدَ الإحرامِ، وإنَّما يحرُمُ ابتداؤُه في الإحرامِ، وهذا مذهبُ الشَّافِعِيِّ، وبه قال جماعةٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ وجماهيرُ المحدِّثينَ والفُقَهاءِ، منهُم سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وابنُ عبَّاسٍ وابنُ الزُّبيرِ ومعاويةُ وعائشةُ وأمُّ حبيبةَ وأبو حنيفةَ والثَّوريُّ وأبو يوسفَ وأحمدُ بنُ حنبَلَ وداودُ وغيرُهم.
          وقال آخَرون بمنْعِه، منهم الزُّهريُّ ومالكٌ ومحمَّدُ بن الحسَنِ، وَحُكِيَ عن جماعةٍ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وادَّعى بعضُهم أنَّ هذا التطيُّبَ كانَ للنِّساءِ لا للإحرامِ، وادَّعى أنَّ في هذه الرِّوايةِ تقديمًا وتأخيرًا، التَّقديرُ: فيطوفُ على نسائِه ينضَخُ طيبًا ثُمَّ يُصبِحُ مُحْرِمًا، وجاءَ ذلكَ في بعضِ الرِّواياتِ، والطِّيبُ يزولُ بالغُسْلِ لا سيَّما أنَّه وَرَدَ أنَّه كانَ يغتسِلُ عندَ كلِّ واحدةٍ منهُنَّ، وكانَ هذا الطِّيبُ ذَرِيرةً كما أخرجهُ البُخاريُّ في اللِّباسِ [خ¦5930] ومسلمٌ أيضًا، وهو ممَّا يُذْهِبُهُ الغُسْلُ. ويَرُدُّ هذا روايةُ البُخاريِّ الآتيةُ قريبًا: ((طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا)) [خ¦270] ورِوَايتُه الآتيةُ: ((كَأَنَّي أَنْظُرُ إلى وَبِيصِ الطِّيبِ في مَفْرِقِهِ وهو مُحْرِمٌ)) [خ¦271] وفي بعضِ الرِّواياتِ: ((بَعْدَ ثَلَاثٍ)).
          وقال القُرطُبيُّ: هذا الطِّيبُ كانَ دُهْنًا له أثَرٌ فيه مِسْكٌ، فزَالَ وبقِيَتْ رائحَتُهُ. وروايةُ الوَبِيصِ تَرُدُّ ما ذَكَرَهُ، وادَّعى بعضُهم خُصوصيَّةَ ذلكَ بالشَّارِعِ فإنَّه أمَرَ صاحِبَ الجُبَّةِ بغَسْلِهِ. وقال المهلَّبُ: السُّنَّةُ اتِّخاذُ الطِّيبِ للنِّساءِ والرِّجالِ عندَ الجِماعِ، فكانَ صلعم أملَكَ لِإِرَبِهِ مِن سائرِ أُمَّتِهِ ولِذلكَ كانَ لا يتجنَّبُ الطِّيبَ في الإحرامِ، ونهانا عنهُ لِضَعْفِنَا عن ملْكِ الشَّهَوَاتِ إذِ الطِّيبُ مِن أسبابِ الجِماعِ ودواعِيهِ، والجِمَاعُ يُفسِدُ الحجَّ فَمُنِعَ فيه الطِّيب لِسَدِّ الذَّريعةِ.
          خامسُها: قولُها: (فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ) هو كنايةٌ عن الجِماعِ وإنْ كانَ يحتملُ أن يكونَ لِتَفَقُّدِ حالِهنَّ لا سيَّما وكانَ في أُهبَةِ الخُروجِ للسَّفَرِ، وظاهرُهُ أنَّه كانَ في ليلةٍ واحدةٍ ويُحمَلُ على رِضَاهُنَّ أو على أنَّه لم يكُنِ القَسْمُ واجبًا عليه كما سَلَفَ.
          سادسُها: قد يَحتجُّ به مَن لا يوجِبُ الدَّلْكَ في الغُسْلِ؟ لأنَّه لو تَدَلَّكَ لم ينضَخْ منه الطِّيبُ، ويجوزُ أن يكونَ دلَكَهُ لكنَّهُ بقِيَ وَبِيصُهُ، والطِّيبُ إذا كان كثيرًا ربَّما غَسَلَهُ فَذَهَبَ وبقِيَ وَبِيصُه.