التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الوضوء قبل الغسل

          ░1▒ بَابُ الوُضُوءِ قَبْلَ الغُسْلِ:
          ذَكَرَ فيه حديثَ عائشةَ وميمونةَ:
          248- أمَّا حديث عائشة فرواه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُوْسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهَا: أَنَّه ◙ (كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ، بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي المَاءِ) الحديث.
          249- وأمَّا حديثُ ميمونة فأخرجه عن مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: (تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلعم وُضُوءهُ لِلصَّلاَةِ، غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ المَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا عَنِ الجَنَابَةِ).
          والكلام عليهِمَا مِن وجهينِ:
          أحدُهما: حديثُ عائشةَ قد أخرَجَهُ البُخاريُّ مِن حديثِ مالكٍ كما ترى، وأخرجهُ مسلمٌ مِن حديثِ أبي مُعاويةَ عن هشامٍ فَذَكَرَهُ وفي آخِرِهِ: ((ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيهِ)) قال: ورواه جماعةٌ عن هشامٍ وليس في حديثِهِم غَسْلُ الرِّجْلَينِ. وحديثُ ميمونةَ أخرجه مسلمٌ أيضًا وباقي السِّتَّةِ.
          و(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هو الفِريابيُّ كما صرَّح به أبو نُعيمٍ، و(سُفْيَانُ) هو الثَّوريُّ، وذكره البُخاريُّ في باب الغُسْلِ مَرَّةً واحدةً كما ستعلَمُه [خ¦257] وفي بابِ التَّسَتُّرِ فيه أيضًا [خ¦281] ثُمَّ قال: تابَعَهُ أبو عَوَانةَ وابنُ فُضَيل في التستُّر. أي تابَعَا سُفيانَ الثَّورِيَّ، وحديثُ أَبي عَوَانة أسندَهُ في بابِ مَن أفرَغَ بيمينِه على شِمَالِه في الغُسْلِ [خ¦266] وابنُ فُضَيلٍ اسمُه محمَّدُ بنُ فُضَيلٍ.
          ثانيهِما: في فوائِدِهِما:
          (كَانَ) في حديثِ عائشةَ تَدُلُّ على الملازمةِ والتَّكرارِ، كقولِ ابنِ عبَّاسٍ: ((كان صلعم أجودَ النَّاسِ بالخيرِ)). ويقالُ: كان فلانٌ يَقْرِي الضَّيفَ.
          وقولُها: (إِذَا اغْتَسَلَ) يحتملُ أن يكونَ المرادُ إذا أرادَهُ، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ شَرَعَ فيهِ.
          وقولُها: (غَسَلَ يَدَيْهِ) أي قَبْلَ إدخالِهما الإناءَ كما جاءَ مُصَرَّحًا به في بعضِ الرِّواياتِ، ولا خلافَ في مشروعيَّةِ ذلك، وإنَّما الخلافُ في الوجوبِ.
          وقولُها: (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ) يُؤخَذُ منه استحبابُ تقديمِ أعضاءِ الوُضوءِ في الغُسْلِ، والظَّاهرُ أنَّهُ وضوءٌ حقيقَةً وإنْ كانَ يحتملُ أنَّ المرادَ تقديمُ غَسْلِ هذهِ الأعضاءِ على غيرِها على ترتيبِ الوُضوءِ، وقُدِّمَتْ على بَقِيَّةِ الجسدِ تكريمًا لها، وبالثَّاني صرَّح ابنُ داودَ مِن أصحابِنا في «شرحِ المختصَرِ» وإذا قلْنا بالأوَّلِ فظاهِرُهُ إكمالُ الوُضوءِ، وهو أصحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ☼، ولهُ قولٌ آخَرُ أنَّه يؤخِّرُ غَسْلَ رِجْلَيهِ عَمَلًا بظاهِرِ حديثِ ميمونةَ، والخلافُ عندَ مالكٍ أيضًا، وله قولٌ ثالثٌ: أنَّهُ إنْ كانَ الموضِعُ نظيفًا فلا يؤخِّرُ، وإن كانَ وَسِخًا أو الماءُ قليلًا أَخَّرَ جَمْعًا بينَ الأحاديثِ، واختيارُ أبي حنيفةَ التَّأخيرُ، وفصَّلَ صاحبُ / «المبسوطِ» التفصيلَ السَّابِقَ عن مالكٍ، وادَّعَى أبو ثَوْرٍ وأهلُ الظَّاهِرِ وجوبَ هذا الوُضوءِ، وأوجَبَهُ بعضُ أصحابِنَا إذا كانَ مُحدِثًا مع الجنابةِ.
          أمَّا الوُضوءُ بَعْدَ الغُسْلِ فَغَيْرُ مشروعٍ إذا لم يحصُلْ منه حَدَثٌ، وقد كان صلعم لا يتوضَّأُ بعْدَهُ كما رواه التِّرمِذِيُّ والحاكِمُ وصحَّحَاهُ، وما رُوِيَ عن أبي البَختَرِيِّ عن عليٍّ: أنَّه كان يتوضَّأُ بَعْدَ الغُسْلِ، فمُنْقَطِعٌ ومحمُولٌ على أنَّهُ عَرَضَ عارِضٌ يوجِبُهُ.
          وأمَّا حديثُ عائشةَ أنَّه صلعم ((كانَ إذا اغتسلَ مِن الجنابةِ تَوَضَّأَ وُضُوءَه للصَّلاةِ)) فالمرادُ والله أعلمُ كان إذا أرادَ الاغتسالَ، وأمَّا ابنُ شاهين فقال: حديثٌ غريبٌ صحيحٌ، ثُمَّ زَعَمَ أنَّهُ منسوخٌ ولا حاجة إلى ادِّعاءِ ذلكَ، ونَقَلَ ابنُ بطَّالٍ في بابِ مَن تَوَضَّأ مِن الجَنَابةِ الإجماعَ على عدَمِ وُجوبِ الوُضوءِ في الغُسْلِ.
          وقولُها: (كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ) لعلَّهُ احترازٌ مِن الوُضوءِ اللُّغَويِّ الَّذي هو غَسْلُ اليدينِ، ورَوَى الحسَنُ عن أبي حنيفةَ أنَّه لا يَمْسَحُ رأسَهُ في هذا الوُضوءِ، والصَّحيحُ يمسحُها كما قال في «المبسوطِ» لأنَّه أتمُّ لِلْغُسْلِ.
          وقولُها: (ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي المَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ الشَعَرِ) فيه استحبابُ ذلكَ، وحكمتُه سهولةُ إدخالِ الماءِ إلى أصْلِ الشَّعرِ أو الاستئنَاسُ به حتَّى لا يَجِدَ مِن صبِّ الماءِ الكثيرِ نُفْرَةً.
          ثُمَّ هذا التخليلُ عامٌّ لِشَعرِ الرَّأسِ واللِّحيةِ فقيل واجبٌ، وقيل سُنَّةٌ، وقيل واجبٌ في الرَّأسِ وفي اللِّحيةِ قولانِ للمالكيَّةِ: رَوَى ابنُ القاسِمِ عدمَ الوُجوبِ ورَوَى أشهبُ الوجوبَ، وأوجَبَ ذلكَ أبو حنيفةَ في الغُسْلِ دونَ الوُضوءِ، وقد وَرَدَ في عِدَّةِ أحاديثَ أنَّ: ((تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فاغسِلُوا الشَعرَ وأنقُوا البَشَرَ)) وفيها مقالٌ. ونَقَلَ ابنُ بطَّالٍ في بابِ تخليلِ الشَّعرِ الإجماعَ على تخليلِ شعرِ الرَّأسِ، وقاسُوا اللَّحيةَ عليها.
          وقولُها: (ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ) فيهِ استحبابُ ذلكَ في الرَّأسِ، وباقي الجَسَدِ مِثْلُهُ، وخالفَ الماوَرْدِيُّ مِن أصحابِنا والقُرطبيُّ مِن المالكيَّة فقالا: لا يُستحبُّ التَّثليثُ في الغُسْلِ، قال القُرطُبيُّ: لا يُفْهَمُ مِن هذه الثَّلاثِ أنَّهُ غَسَلَ رأسَهُ ثلاثَ مرَّاتٍ لأنَّ التَّكرارَ في الغُسْلِ غيرُ مشروعٍ لِمَا في ذلكَ مِن المشقَّةِ، وإنَّما كاَن ذلكَ العدَدُ لأنَّهُ بدأَ بجانِبِ رأْسِهِ الأَيمَنِ ثُمَّ الأيسَرِ ثُمَّ على وَسطِ رأسِهِ كما جاء في حديثِ عائشةَ.
          وقولُها: (ثُمَّ يُفِيضُ المَاءَ عَلَى جَسَدِهِ كُلِّهِ) هذا بقيَّةُ الغُسْلِ ولمْ يُذْكَرْ فيه الدَّلكُ وهو مستحبٌّ عندنا وعندَ أحمدَ وبعضِ المالكيَّةِ وأهلِ الكوفةِ، وخالفَ مالكٌ والْمُزَنيُّ فذهبَا إلى وجوبِه.
          وقولُها: (وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى) فيه مشروعيَّةُ ذلكَ قَبْلَ الغُسْلِ، والواوُ هنا للجَمْعِ لا للتَّرتيِب إذ المرادُ غَسَلَ فرْجَهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ، كما جاء مبيَّنًا في بعضِ الطُّرُقِ.
          وقولُها: (ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا عَنِ الجَنَابَةِ) فَعَلَ ذلكَ لِيقَعَ الاختتامُ بأعضاءِ الوُضوءِ كما وقعَ الابتداءُ بها، واستَدَلَّ به مَن يَرَى التَّفريقَ بغيرِ عُذرٍ.