التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل

          ░20▒ بَابُ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الخَلْوَةِ، وَمَنْ تَسَتَّرَ وَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ.
          ذَكَرَ فيه ثلاثةَ أحاديثَ: أحدُها: حديثُ بَهْزٍ، وذَكَرَهُ مُعلَّقًا فقال:
          وَقَالَ بَهْزٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ).
          ثانِيها وثالثُها: حديثُ أبي هُريرة أنَّ مُوسى وأيُّوبَ صلواتُ الله وسلامُه عليهِمَا كانا يغتَسِلَانِ عُرَاةً، لكنْ كانا يستَتِرَانِ عن أعيُنِ النَّاسِ، وهما دليلانِ لقولِه: (مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الخَلْوَةِ) ولا خِلافَ أنَّ التَّسَتُّرَ أفضَلُ كما قالَهُ.
          وبِجَوازِ الغُسْلِ عُرْيانًا في الخَلْوَةِ قال مالكٌ والشَّافِعِيُّ وجُمهورُ العُلماءِ، ومَنَعَهُ ابنُ أبي لَيلَى، وحَكَاهُ الماوَرْدِيُّ وجهًا لأصحابِنا فيما إذا نَزَلَ في الماء عُرْيانًا بغيرِ مِئزَرٍ، واحتجَّ بحديثِ ضعيفٍ لمْ يَصِحَّ عن النَّبيِّ صلعم: ((لا تَدْخُلُوا الماءَ إلَّا بِمِئْزَرٍ فإنَّ للماءِ عَامِرًا)).
          ورَوَى ابنُ وهْبٍ عن ابن مَهْدِيٍّ عن خالدِ بنِ حُميدٍ عن بعضِ أهل الشَّامِ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ لم يكُنْ يغتَسِلُ في بحْرٍ ولا نَهْرٍ إلَّا وعليه إزارٌ، فإذا سُئِلَ عن ذلك قال: إنَّ له عامِرًا، ورَوَى بُردٌ عن مكحولٍ عن عطيَّةَ مرفوعًا: ((مَن اغْتَسلَ بليلٍ في فضاءٍ فَلْيَتَحاذَرْ على عَوْرَتِهِ، ومَن لم يَفْعَل ذلِكَ فَأَصَابَهُ لَمَمٌ فلا يَلُومنَّ إلَّا نَفْسَهُ)).
          وفي مُرسَلاتِ الزُّهريِّ فيما رواهُ أبو داودَ في «مراسيلِه» عنه عن النَّبيِّ صلعم قال: ((لا تَغْتَسِلُوا في الصَّحْرَاءِ إلَّا أنْ تَجِدُوا مُتَوارَى، فإنْ لَمْ تَجِدُوا مُتَوارى فَلْيَخُطَّ أَحَدُكُم كالدَّائرةِ ثُمَّ يسمِّي اللهَ تعالى وَيَغْتَسِل فيها)). وفي «سنن أبي داود» مِن حديثِ يَعْلى بن أُمَيَّةَ أنَّ رسولَ الله صلعم رأى رَجُلًا يَغْتَسِل بالبَرَاز، فَصَعِدَ المنبرَ فحَمِدَ الله وأثنَى عليه ثُمَّ قال: ((إنَّ اللهَ ╡ حَييٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الحياءَ والسَّترَ، فإذا اغتسَلَ أحدُكُم فليَسْتَتِرْ)) وأخرجه النسائيُّ.
          ونصَّ أحمدُ فيما حكاه ابنُ تيمِيَةَ على كراهَةِ دُخولِ الماءِ بغيرِ إزارٍ. وقال إسحاق: هو بالإزارِ أفضلُ لِقولِ الحسَنِ والحُسينِ ☻ وقدْ قيلَ لهُما وقدْ دخلَا الماءَ عليهِمَا بُرْدانِ، فقالا: إنَّ للماءِ سُكَّانًا. قال إسحاقُ: ولو تجرَّدَا رجَوْنَا ألَّا يكونَ إثمًا، واحتجَّ بتجَرُّدِ مُوسى ◙.
          فأمَّا حديثُ بَهْزٍ فهو بعضُ حديثٍ طويلٍ أخرجَهُ أصحابُ السُّنَنِ الأربعةُ: أبو داودَ في الحمَّام، والتِّرمذِيُّ في الاستئذانِ في موضعينِ، والنَّسائِيُّ في عِشْرَةِ النِّساءِ، وابنُ ماجه في النِّكاحِ مِن حديثِ بَهْزٍ عن أبيه عن جدِّه وهو ابنُ حكيمِ بنِ معاويةَ بن حَيْدَة القُشَيريُّ له صُحْبةٌ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وما نَذَرُ؟ قال: ((احفظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِن زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكتْ يَمِيْنُكَ)) قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إذا كان القومُ بَعْضُهُم في بعضٍ، قال: ((إنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا يرينَّهَا أَحَدٌ فلا يَرَيَنَّها)) قال: قلتُ: يا رسولَ الله، فإذا كان أحدُنا خاليًا، قال: ((فاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُستَحْيا مِنْهُ مِن النَّاسِ)) قال الترمذيُّ: حَسَنٌ.
          قال أبو عبد الملِكِ فيما حكاهُ ابنُ التِّينِ: يُريدُ / بِقولِه: (فاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ) ألَّا يغتسِلَ أحدٌ في الفلاةِ وهذا حَرِجٌ، وحديثُ أيُّوبَ أسمَحُ وأثبتُ وأحسَنُ ولعلَّه يُريدُ بقولِه: (أَحَقُّ أن يُسْتَحْيَا مِنْهُ) بمعنى ألَّا يُعصَى حياءً منه. وقال ابنُ بطَّالٍ: الحديثُ محمولٌ عندَ الفُقهاءِ على النَّدْبِ والاستحبابِ للتَّسَتُّرِ في الخَلْوَةِ لا على الإيجابِ.
          فَرْعٌ: حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ خلافًا للنَّاسِ في أنَّ سَتْرَ العَورَةِ وجَبَ بالعقْلِ أم بالشَّرعِ؟ وعلى الأَوَّلِ المعتزلةُ وعلى الثَّانِي أهلُ السُّنَّةِ، ولا شكَّ أنَّ جِبِلَّةَ الشَّخصِ كارهةٌ لذلكَ لكنَّ الشَّرْعَ هو الحاكِمُ.
          فائدةٌ: (بَهْزُ) هذا قد عَرَفْتَ والِدَهُ وجَدَّهُ مِمَّا ذكَرْتُهُ لكَ، وقد وثَّقَهُ جماعةٌ وقال ابنُ عَدِيٍّ: لم أرَ له حديثًا مُنكَرًا، ووالدُه (حَكِيمٍ) قال النَّسائِيُّ: ليسَ به بأسٌ، و(جَدِّهِ) مُعاويةُ له صُحبةٌ كما سَلَفَ.
          وأمَّا حديثُ أبي هُريرةَ الأَوَّلُ فقالَ البُخاريُّ:
          278- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى صلعم يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَجَمَحَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ، يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى ◙، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالحَجَرِ، سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبًا بِالحَجَرِ.
          والكلامُ عليه مِن وُجوهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ مسلمٌ عن محمَّدِ بن رافع عن عبدِ الرَّزَّاقِ، وأخرجَهُ البُخاريُّ بمعناُه في أحاديثِ الأنبياءِ والتَّفسيرِ، ويأتي إن شاء اللهُ مِن طريقِ محمَّدِ بنِ سيرينَ والحسَنِ وخِلَاِس بنِ عمرٍو، عن أبي هريرة [خ¦3404] وكذلك مسلمٌ مِن طريقِ عبدِ الله بنِ شَقِيقٍ عن أبي هُريرةَ.
          ثانِيها: (إِسْحَاقُ) هذا هو ابنُ إبراهيمَ بن نصرٍ السَّعدِيُّ البُخاريُّ، نَسَبَهُ البُخاريُّ إلى جدِّه، ماتَ بعدَ المئتينِ، كان ينزِلُ ببنِي سَعْدٍ، وقيل: كان ينزِلُ بالمدينَةِ ببابِ بَنِي سعْدٍ، وعن المنذريِّ أنَّه ضَبَطَه بِضَمِّ السِّينِ والغينِ المعجَمَةِ، ونَقَلَهُ عن بعضِ علماءِ الأندَلُسِ.
          ثالثُها: قولُه: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أي جَمَاعَتُهُم، ولِذلك أدخَلَ عليهم التَّأنيثَ مثل قولِه تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14].
          رابعُها: قولُه: (يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) يحتملُ أنَّ هذا كانَ جائزًا في شَرْعِهِم، وكان مُوسى يتركُهُ تنزُّهًا واستحبابًا وحياءً ومُروءَةً، ويحتملُ أنَّه كان حرامًا في شَرْعِهِم كما هو حرامٌ في شرعِنَا، وكانوا يتساهلونَ فيه كما يَتساهَلُ فيه كثيرٌ مِن أهلِ شرْعِنا، وجزَمَ الشَّارِحُ _أعنِي ابنَ بطَّالٍ_ بِهذَا فقالَ: هذا يدُلُّ على أنَّهم عُصَاةٌ له في ذلكَ وسالكون غيرَ سُنَّتِه، إذْ كان هو يغتسِلُ حيثُ لا يراهُ أحدٌ ويطلُبُ الخَلْوَةَ فكانَ الواجبُ عليهم الاقتداءُ، ولو كان اغتسالُهم عُرَاةً في غيرِ الخَلْوةِ عن علْمِ مُوسى وإقرارِه لِذلِكَ لمْ يلزمْنا فِعْلُهُ لأنَّ شرْعَنَا يخالِفُه ولو كانُوا أهلَ توفيقٍ اتَّبعُوهُ.
          ثُمَّ لم تَكَفْهِم المخالفةُ حتَّى آذَوْهُ فنَسَبُوا إليه ما نَسَبُوا، فأظهرَ الله بَراءَتَه مِن ذلك بطريقٍ خارقٍ للعَادَةِ زِيادةً في دِلالةِ صدقِه ومبالغةً في قيامِ الحُجَّةِ عليهِم.
          خامسُها: (آدَرُ) بهمزةٍ مفتوحةٍ ممدودةٍ ثُمَّ دالٍ مهمَلَةٍ مفتوحَةٍ ثُمَّ راءٍ، عظيمُ الخُصْيتينِ، وهي الأدرَةُ بِضَمِّ الهمزةِ وفتْحِها مع إسكانِ الدَّالِ وبفتْحِها، ولا يُقالُ: امرأَةٌ أَدْرَاءُ.
          سادِسُها: قوله: (فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ) وَضْعُهُ ◙ ثوبَه ودخولُه الماءَ عُرْيانًا دليلٌ على جوازِ ذلكَ، وجاء في «صحيح مسلمٍ»: ((أنَّه اغْتَسَلَ عِنْدَ مُوَيْهٍ)) بِضَمِّ الميمِ وفتْحِ الواوِ وإسكانِ الياءِ، تصغيرُ ماءٍ، وأصلُه مَوْهٌ والتَّصغيرُ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولِها، هكذا هو في بعْضِ نُسَخِ مسلمٍ، رَوَى ذلكَ العُذْرِيُّ والبَاجِيُّ. وفي مُعظَمِ نُسَخِ مسلمٍ: ((مَشْرُبةٍ)) بفتْحِ الميمِ وإسكانِ الشِّينِ المعجَمَة ثُمَّ راءٍ، وهي حُفْرَةٌ في أصْلِ النَّخْلَةِ يُجمَعُ الماءُ فيها ليِسْقِيَها، قال القاضي عياض: وأظُنُّ الأوَّلَ تصحيفًا.
          سابعُها: قولُه: (فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ) هذهِ آيةٌ ومُعجِزَةٌ لموسَى عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ لِمَشْيِ الحَجَرِ بثَوبِه إلى مَلَأٍ مِن بَنِي إسرائيلَ.
          ثامنُها: قولُه: (فَجَمَحَ مُوسَى) أي أسرَعَ إسراعًا في مشْيِه خلْفَ الحَجَرِ لِيأخُذَ ثوبَهُ لا يردُّه شيءٌ، وكُلُّ شيءٍ مضَى لِوجْهِهِ على أَمْرٍ فقدْ جَمَحَ، قال تعالى: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:57] قالَ ابنُ سِيدَه: جَمَحَ الفَرَسُ بصاحبِه جَمْحًا وجِمَاحًا: ذَهَبَ يجْرِي جَرْيًا غَالبًا، وكلُّ شيءٍ مَضَى لِشَيْءٍ على وَجْهِه فقَدْ جَمَحَ. وقال الأزهريُّ في «تهذيبِه»: فرسٌّ جَمُوحٌ إذا رَكِبَ رأسَهُ فلمْ يَرُدَّهُ اللِّجامُ وهذا ذمٌّ، وفرسٌ جَمُوحٌ أي سريعٌ وهذا مَدْحٌ.
          تاسعُها: قولُه: (فِي إِثْرِهِ) هو بتثليثِ الهمزَةِ وإسكانِ الثَّاءِ، ورابِعَةٌ فتحُهُما بمعنًى، حكاهُنَّ كُراع، وذَكَرَ الثَّلاثَ الأُوَلَ في «المنتخَبِ» وفي «المثلَّث» لابنِ السَّيِّدِ: الأُثْرُ _بالضَّمِّ_ أَثَرُ الجُرْحِ، وفي «الواعي» الأَثَرُ _مُحَرَّكٌ_ ما يُؤَثِّرُ الرَّجُلُ بقَدَمِه في الأرضِ.
          عاشرُها: قولُه: (ثَوْبِي يَا حَجَرُ) هو منصوبٌ بفِعْلٍ مضمَرٍ تقديرُه أعطنِي ثوبي يا حَجَرُ، أو اتْرُكْ ثوبِي، فحذَفَ الفِعْلَ لِدِلالةِ الحالِ عليه. وفي مسلمٍ: ((ثَوْبِي حَجَرُ)) مرَّتين بإسقاطِ حرْفِ النِّداءِ، وإنَّما ناَدى مُوسى الحجَرَ نداءَ مَن يعقِلُ لأنَّه صدَرَ عن الحجَرِ فِعْلُ مَن يعقِلُ، وقال ذلك استعظامًا لكَشْفِ عورَتِه، فَسَبَقَهُ الحَجَر إلى أنْ وَصَلَ إلى جَمْعِ بَنِي إسرائِيلَ فنظَرُوا إلى مُوسى لِيُبَرِّئَهُ اللهُ ممَّا قالوا.
          الحادِي عَشَرَ: قولُه: (حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى) إنَّما مَشَى ◙ بينَهُم غيرَ مكشوفِ العورَةِ، لأنَّه إنَّما نزلَ إلى الماءِ مؤتَزِرًا، فلمَّا خَرَجَ يتبعُ الحجَرَ والمئزَرُ مُبْتَلٌّ بالماء عَلِمُوا عندَ رُؤيتِه أنَّه ليسَ بآدَرَ لأنَّ الأُدْرَةَ تَتَبَيَّنُ تحتَ الثَّوبِ المبلولِ بالماءِ، وهذا ما أجابَ به الحسنُ بنُ أبي بكر النَّيسابُوريُّ فيما حكاهُ ابنُ الجوزيِّ عنه سماعًا.
          وفي «مسند أحمد» مِن حديثِ عليِّ بن زيدٍ عن أنسٍ مرفوعًا: ((أنَّ مُوْسَى ◙ كَانَ إذا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الماءَ لَمْ يُلْقِ ثَوْبَهُ حتى يُوَارِيَ عَوْرَتَه في الماءِ)) وأجابَ _أعني ابنَ الجوزيِّ_ بجوابٍ آخَرَ وهو أنَّ مُوسى كان في خَلْوَةٍ كما بُيِّنَ في الحديثِ، فلمَّا تَبِعَ الحَجَر لم يكُنْ عندَهُ أحَدٌ، فاتَّفَقَ أنَّه جازَ على قومِه فرَأَوْهُ، وجوانِبُ الأنهارِ وإنْ خلَتْ لا يُؤمَنُ وجودُ قومٍ قريبٍ منها فبَنَى موسى الأمْرَ على أنَّه لا يراهُ أحدٌ على ما رأَى مِن خَلاءِ المكانِ فاتَّفَقَ مَن رآهُ.
          وأمَّا الشَّارِحُ _يعني ابنَ بطَّالٍ_ فقال: إنَّ في الحديثِ دليلًا على النَّظَرِ إلى العَورَةِ عندَ الضَّرورَةِ الدَّاعيةِ إلى ذلكَ مِن مُداواةٍ أو برَاءَةٍ مِمَّا رُمِيَ به مِن العُيوبِ كالبَرَصِ وغيرِه مِن الأدْواءِ الَّتِي يتحاكَمُ النَّاسُ فيها ممَّا لا بُدَّ فيها مِن رؤيةِ أهلِ النَّظرِ بها، فلا بأسَ برُؤيةِ العَوْراتِ / للبراءَةِ مِن ذلكَ أو لإثباتِ العُيوبِ فيه والمعالجةِ.
          الثَّاني عشَرَ: فيه ما يدلُّ على أنَّ الله تعالى كمَّل أنبياءه خَلْقًا وخُلُقًا ونزَّهَهُم عن المعايبِ والنَّقائصِ والسَّلامةِ مِن العاهاتِ والمعايبِ، وعُرُوضُ ما وَقَعَ ليعقوبَ وأيُّوبَ صلواتُ الله وسلامُه عليهِما فلِلتَّأسِّي بهِمَا ورَفْعِ درجاتِهِمَا، وقد زالَ عنهُمَا.
          الثَّالثَ عَشَرَ: قولُه: (فَطَفقَ) هو بكسْرِ الفاء وفتحِها، أي جعَلَ وأقبَلَ وصارَ ملتزِمًا لذلك، وهي مِن أفعالِ المقارَبة.
          والنَّدَبُ _بفتْحِ النُّونِ والدَّالِ_ أَثَرُ الجُرْحِ إذا لمْ يرتَفِعْ عن الجِلْدِ، فشبَّهَ به أَثَرَ الضَّرْبِ في الحَجَر، وقال الأصمعيُّ: هو الجُرْحُ إذا بقِيَ منه أثَرٌ مُشْرِفٌ، يُقالُ ضَرَبَهُ حتَّى أَنْدَبَه، ونقلَ ابنُ بطَّالٍ عن صاحِبِ «العين»، أنَّه أَثَرُ الجُرْحِ، واقتَصَرَ عليه.
          وهذه مُعجِزَةٌ لموسى. وتمييزُ الجمادات. وفيه ما غَلَبَ على مُوسى مِن البَشَرِيَّةِ مِن ضَرْبِ الحَجَرِ، وهذا الضَّرْبُ مِن مُوسى ◙ يجوزُ أن يكونَ أرادَ به إظهارَ مُعجِزَتِه لقومِه بأَثَرِ الضَّرْبِ في الحَجَرِ، ويحتملُ أنْ يكونَ أُوحِيَ إليه بذلِكَ لإظهارِ مُعجِزَتِه.
          وفيه أيضًا إجراءُ خُلُقِ الإنسانِ عنْدَ الضَّجَرِ على مَن لا يعقِلُ أيضًا، فإذا كانَ الحَجَرُ أعطاهُ اللهُ قُوَّةً مَشَى بها أمكَنَ أنْ يُحِسَّ به أيضًا، ألا تَرَى قولَ أبي هُريرة: (وَاللهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالحَجَرِ) يعني آثارَ ضَرْبِهِ بَقِيَتْ فيه آيَةً لَهُ، ويُؤخَذُ مِن ذلكَ جوازُ الحَلفِ على الإخبارِ.
          وفيه وفي حديثِ أيُّوبَ الآتي دليلٌ على إباحَةِ التَّعَرِّي في الخَلْوَةِ للغُسْلِ وغيرِه بحيثُ يَأمَنُ أعيُنَ النَّاسِ؛ لأنَّهُمَا مِن الَّذينَ أُمِرْنَا أنْ نقْتَدِيَ بِهُداهُم، أَلَا تَرَى أن اللهَ تعالى عاتَبَ أيُّوبَ على جَمْعِ الجَرَادِ كما سَيأتِي ولْم يُعاتِبْهُ على اغتسالِه عُرْيَانًا، ولو كُلِّفْنَا بالاستِتَارِ في الخَلْوَةِ لحَصَلَ لنا الحَرَجُ والضِّيقُ إذْ لا نَجِدُ بُدًّا منه، والبارِي تعالى لا يَغيبُ عنه شَيْءٌ مِن خَلْقِهِ عُرَاةً كانُوا أو مُكْتَسِين، وسيأتي شيْءٌ مِن هذا المعنى في بابِ كراهِيَةِ التَّعرِّي في الصَّلاةِ وغيرِها إنْ شاءَ الله، نعم الاستتارُ مِن حُسْنِ الأدَبِ.
          خاتمَةٌ: قيل إنَّ قولَه تعالى: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية [الأحزاب:69] نزلَتْ في ذلِكَ، قال الطَّحاويُّ فيما رُوِيَ عن أبي هُريرةَ في هذهِ الآيةِ: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآيةُ، قالَ رسولُ الله صلعم: ((إنَّ مُوْسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لا يَكادُ أَنْ يُرَى مِن جِلْدِهِ _يعني استحياءً مِنْهُ_ فآذاهُ مَن آذاهُ مِن بَنِي إسرائيلَ، وقالوا: ما يَسْتَتِرُ هذا السَّتر إلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إمَّا برصٌ وإمَّا أَذَرَةٌ)) هكذَا قالَ لنَا بعضُ رُواةِ الحَديثِ، وأهلُ اللغة يقولونَ: ((أُدْرَةٌ))، لأنَّها آدَرُ بوزنِ آدَم ((وإنَّ الله ╡ أرادَ أن يُبرِّئَهُ مِمَّا قالُوا، وإنَّه خَلَا يومًا وحدَه فَوَضَعَ ثوبَهُ على حَجَرٍ ثُمَّ اغتسَلَ فلمَّا فرغ مِن غُسلِهِ أقبَلَ إلى ثوبِهِ ليأخُذَهُ، وإنَّ الحَجَر عدا بثوبِهِ، فأخَذَ موسى ◙ عَصَاهُ وطَلَب الحَجَرِ)) الحديثُ بِطُولِه.
          قالَ: ومِمَّا رُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ في الآيةِ مِمَّا نَعْلَمُ أنَّه ليسَ مِن رأيِه لأنَّه إخبارٌ عن مُرادِ الله، قال: صعِدَ مُوسى وهارونُ الجَبَلَ فماتَ هارونُ، فقالتْ بنُو إسرائيلَ لموسى: أنتَ قَتَلْتَهُ، كانَ ألينَ لنا منكَ وأشدَّ حياءً، فآذوه بذلِكَ فأمَرَ اللهُ الملائكةَ فحَمَلَتْهُ وتكلَّمَتْ بموتِه حتَّى عرفَتْ بنُو إسرائيلَ أنَّه قد ماتَ فدفَنُوهُ، فلمْ يَعرِفْ موضِعَ قبرِه إلَّا الرَّخَمُ، فإنَّ اللهَ جعلَهُ أبكمَ أصَمَّ. ولا تعارُضَ بينَهُما فإنَّه يجوزُ أن يكونَ آذَوْهُ بكلِّ ذلكَ، فبرَّأه اللهُ منهُمَا.
          279- وأمَّا حديثُ أبي هُريرةَ الآخَرُ، فقالَ البُخاريُّ:
          وقال أبو هُريرة: إنَّ النَّبيَّ صلعم قال: (بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ فَقَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ _يعني ابنَ طَهْمَان_ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا).
          والكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: حديثُ أبي هُريرةَ هذا معطوفٌ على سنَدِ حديثِ أبي هُريرةَ الأَوَّلِ، وقد صرَّحَ به أبو مسعودٍ وخلَفٌ فقالا في «أطرافِهِما»: إنَّ البخاريَّ رَوَاهُ هُنا عن إسحاقَ بنِ نَصْرٍ، وفي أحاديثِ الأنبياء عن عبدِ الله بن محمَّد الجُعفيِّ، كلاهُما عن عبدِ الرزَّاق [خ¦3391] ورواهُ أبو نُعَيمٍ الأصبَهَانيُّ عن أبي أحمدَ بن شِيرَوَيْه حدَّثَنا إسحاقُ حدَّثَنا عبدُ الرَّزَّاقِ، فَذَكَرَهُ وذَكَرَ أنَّ البُخارِيَّ رَوَاهُ عن إسحاقَ بنَ نَصْرٍ عن عبدِ الرَّزَّاقِ. وأورَدَ الإسماعيليُّ حديثَ عبدِ الرزَّاقِ عن مَعْمَرٍ ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ منه، وقال: عن أبي هريرة قال رسول الله صلعم: ((بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ)) الحديث.
          وأمَّا قولُه: (رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ...) إلى آخرِه. قال الحُميديُّ لَمَّا ذكَرَهَا: قال عطاءٌ تعليقًا عن أبي هريرة، فَذَكَرَهُ ثُمَّ قال: لَمْ يَزِدْ _يعني البُخاريُّ_ على هذا مِن روايةِ عطاءٍ، وقد أخرجَهُ بِطُولِه بالإسنادِ مِن حديثِ همَّام عن أبي هُريرة، وكذا ساقَهُ أبو نُعَيمٍ الأصبَهانيُّ عن البُخاريِّ كما سَلَفَ ثُمَّ قال: لم يذكُرِ البُخاريُّ اسمَ شيخِه وأرْسَلَهُ، ورَوَاهُ الإسماعيليُّ فقالَ: حدَّثَناهُ أبو بكرِ بن عُبيدَة الشَّعرانيُّ وأبو عمرو أحمدُ بن محمَّد الحِيريُّ قالا: حدَّثنا أحمدً بن حفصٍ حدَّثَني أبي حدَّثَني إبراهيمُ عن موسى بن عُقْبة، وأخرجه النَّسائيُّ في الطَّهارةِ عن أحمدَ بن حفصٍ عن أبيه عن إبراهيمَ بنِ طَهْمَان.
          ثانِيها: أيُّوبُ صلعم هو مِن ذُرِّيَّةِ عِيصو بن إسحاقَ، وعاشَ ثلاثًا وتسعينَ سنةً، وكانَ بِبِلادِ حَوْران وقبرُه مشهورٌ عندَهم بقريةٍ بقُرْبِ نَوى عليه مَشْهَدٌ، وهناك قَدَمٌ في حَجَرٍ يقولون إنَّها أثرُ قَدَمِه، وهناك عينٌ يُتَبَرَّكُ بها ويُزْعَمُ أنَّها المذكورةُ في القُرآن العظيم، وكانتْ شريعَتُه التَّوحيدُ وإصلاحُ ذاتِ البَيْنِ، وإذا طَلَبَ مِن الله حاجةً خرَّ له ساجدًا ثُمَّ طَلَبَ، وكان أعبَدَ أهلِ زمانِه وأكثَرَهُم مالًا، وكان لا يشبَعُ حتَّى يَشبَعَ الجائعُ ولا يكتسِي حتَّى يكتَسِيَ العارِي، وأُمُّهُ بنتُ لُوطٍ ◙.
          ثالثُها: (عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) سَلَفَ حالُه فيما مضَى.
          و(صَفْوَانَ) هو ابنُ سُلَيمٍ الزُّهرِيُّ مولاهُم المدَنِيُّ التَّابِعِيُّ الإمامُ القُدوةُ، مِمَّن يُسْتَسْقَى بذِكْرِه، يُقال إنَّه لم يضَعْ جَنْبَهُ إلى الأرضِ أربعينَ سنةً وأنَّ جبهَتَهُ نَقِبَتْ مِن كثرةِ السُّجودِ، وكان لا يقبَلُ جوائزَ السُّلطانِ ومناقِبُهُ جَمَّةٌ، ماتَ سنةَ اثنتين وثلاثينَ ومئة ومولِدُهُ سنةَ ستِّينَ.
          و(مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) الثِّقَةُ المفتِي، ماتَ سنةَ اثنتينِ وأربعينَ ومئة. و(إِبْرَاهِيمُ) بنُ طَهْمَان أحَدُ أئمَّةِ الإسلامِ الثِّقَاتِ، فيه إرجاءٌ، ماتَ سنةَ بِضْعٍ وستِّين ومئة.
          رابعُها: (بَيْنَا) سَلَفَ الكلامُ عليها في الحديثِ الرَّابِعِ مِن بابِ بدْءِ الوَحيِ.
          وقولُه: (عُرْيَانًا) هو مصروفٌ لأنَّه فُعْلانٌ بالضَّمِّ بِخلافِ فَعْلانَ إذا كانتِ الألِفُ والنُّونُ زائدتينِ مِثْلُ حُمرانَ وسَكرانَ.
          والجَرَادُ جمْعُ جَرادَة، والجَرادَةُ تقَعُ على الذَّكَرِ والأُنثى، قاله الجوهريُّ، وليسَ الجَرَادُ تذكيرًا للجَرَادَةِ إنَّما هو اسمُ جِنْسٍ كالبَقَرِ والبقرةِ، فَحَقُّ مُذَكَّرِهِ ألَّا يكونَ مؤنَّثُهُ / مِن لفظِه لئلَّا يلتَبِسَ الواحدُ المذكَّرُ بالجَمْعِ، وقيل الجَرَادُ الذَّكَرُ والجرادَةُ الأُنثى، حكاهُ ابنُ سِيدَه. سُمِّيَ جرادًا لأنَّه يجْرُدُ الأرْضَ فيأكُلُ ما عليها، وله أسماءُ قبْلَ أنْ يصيرَ جرادًا ذَكَرَها ابنُ سِيدَه وغيرُه، وفي روايةٍ للبُخاريِّ في كتابِ التَّوحيدِ: ((رِجْلُ جَرَادٍ)) [خ¦7493] أي جماعةٌ مِن جَرادٍ، والرِّجْلُ _بالكَسْرِ_ الجرادُ الكثيرُ، وهو مِن أسماءِ الجَمَاعاتِ الَّتي لا واحدَ لها مِن لفظِها، يُقال رِجْلٌ مِن جَرَادٍ وسِرْبٌ مِن ظِبَاءٍ وخَيْطٌ مِن نَعَامٍ، وعَانَةٌ مِن الحَمِيرِ.
          وقولُه: (فَجَعَلَ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ) ذَكَرَ أهلُ اللُّغَةِ أنَّ الحَثْيَةَ باليَدَيْنِ جميعًا. قال ابنُ سِيدَه: الحَثْيُ ما رَفَعْتَ به يديْكَ، يُقال: حَثَى يَحْثِي ويَحْثُو، والياءُ أعلَى، وزعمَ ابن قُرْقُول أنَّه يكونُ باليَدِ الواحدَةِ أيضًا.
          وقولُه: (فَنَادَاهُ رَبُّهُ) يحتملُ أن يكونَ كلَّمَهُ كما كَلَّمَ موسى وهو أَوْلَى بظاهِرِ اللَّفْظِ، ويحتملُ أن يُرسِلَ إليه مَلَكًا فسُمِّيَ مُنَادَى بذلِكَ، وقد حكاهُما على وجْهِ الاحتمالِ الدَّاوُدِيُّ في «شرحِه» وكذا ابنُ التِّينِ.
          والغِنَى _مَقْصُورٌ_ اليَسَارُ، وبالمدِّ الصَّوتُ.
          خامسُها: في فوائدِه:
          الأُولَى: جوازُ الاغتسالِ عُرْيانًا في الخَلْوَةِ، وقد سَلَفَ.
          الثَّانيةُ: الحرصُ على الحلال. وفضْلُ الغِنَى لأنَّه سمَّاهُ بَرَكَةً.
          الثَّالثةُ: جوازُ اليمينِ بِصِفَةٍ مِن صفاتِ الله تعالى.