التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده

          ░16▒ بَابُ مَنْ تَوَضَّأَ مِنَ الجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى.
          274- ثُمَّ ساق حديثَ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: (وُضِعَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم وَضُوءُهُ لِلْجَنَابَةِ) الحديثُ وقد سَلَفَ أيضًا [خ¦249].
          والكلامُ عليه مِن وُجوهٍ:
          أحدُها: (الفَضْلُ بْنُ مُوسَى) المذكورُ في إسنادِه هو السَّينانِي، ماتَ سنةَ اثنَتَينِ وتسعينَ ومئة.
          وشيخُ البُخاريِّ فيه (يُوسُفُ بْنُ عِيسَى) هو الزُّهريُّ الْمَرْوَزِيُّ، ماتَ سنةَ تسعٍ وأربعين ومئتينِ.
          ثانِيها: قال الإسماعيليُّ: بيَّنَ زائِدَةُ أنَّ قولَه: (لِلْجَنَابَةِ) مِن قولِ سالمٍ الرَّاوي عن كُرَيبٍ لا مِن قولِ ابنِ عبَّاسٍ ولا مِن قولِ ميمُونَةَ، وفي حديثِ زائِدَةَ زيادةُ ذِكْرِ: ((سَتَرتهُ حتَّى اغْتَسَلَ)).
          ثالثُها: / كيفَ تُستفادُ التَّرجمَةُ مِن الحديثِ، وإنَّما قالتْ بعْدَ غَسْلِ وجْهِهِ وذِراعيهِ: (ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ) فدخَلَ في قولِها: (ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ) الأعضاءُ الَّتي تُقَدَّمُ عليها لأنَّها مِن جُملَةِ الجسَدِ؟ ووجْهُ استفادتِها _مع بُعْدِهِ لُغةً واحتمالِه عُرفًا_ أنَّه لم يَذكُرْ إعادَةَ غَسْلِها وذِكْرُ الجسدِ بعْدَ ذِكْرِ الأعضاءِ المعيَّنَةِ يُفهِمُ عُرفًا بقيَّتَهُ لا جُملَتَهُ، وظنَّ الشَّارِحُ _أعني ابنَ بطَّالٍ_ أنَّ لفْظَ الحديثِ في الطَّريقِ الْمُتَقدِّمةِ على التَّرجمةِ أقْعَدُ بهذه التَّرجَمَةِ؛ فإنَّها قالتْ فيه: ((ثُمَّ غَسَل سَائِرَ جَسَدِهِ)) أي باقِيَهُ، إلَّا أنْ يُؤوَّل ((سائرَ)) بمعنى جميعَ.
          رابعُها: لَمَّا نَقَلَ ابنُ بطَّالٍ الإجماعَ على سُنِّيةِ الوُضوءِ في غُسْل الجنابةِ شَرَعَ يستنبِطُ منه فقال: لَمَّا نابَ غَسْلُ مواضِعِ الوُضوءِ _وهي سُنَّةٌ في الجَنابَةِ_ عن غَسْلِها في الجَنَابَةِ وغُسْلُ الجَنَابِة فريضةٌ صحَّ بذلِكَ قولُ أشهبَ وجماعةٍ عن مالكٍ أنَّ غُسْلَ الجُمعة يُجزئِهُ عن الجَنابَةِ، وهو خِلافُ روايةِ ابنِ القاسِمِ، ووجَّهَهُ المهلَّبُ بأنَّ الشَّارِعَ لَمَّا اجتزَأَ بغَسْلِ أعضاءِ الوُضوءِ عن أنْ يغسِلَها مَرَّةً أُخرَى عن الجَنابةِ دَلَّ أنَّ الطَّهارةَ إذا نُوِيَ بها رَفْعُ الحَدَثِ أجزأَتْ عن كُلِّ معنًى يُرادُ به الاستباحةُ، ولهذا الحديثِ والله أعلمُ قال عطاءٌ: إذا غَسَلْتُ كَفَّيَّ قَبْلَ إدخالِهمَا الإناءَ لمْ أغسِلْهُما مع الذِّراعينِ في الوُضوءِ.
          قال: وفي هذا الحديثِ أيضًا حُجَّةٌ لأحَدِ قَوْلَيْ مالِكٍ في رَجُلٍ توضَّأَ للظُّهرِ وصلَّى وأرادَ أن يُجدِّدَ الوُضوءَ للعصْرِ، فلمَّا صلَّاها تَذَكَّر أنَّ الوُضوءَ الأوَّلَ قد انتقضَ، فقالَ مالكٌ: تُجزئِهُ صلاتُه، وهو الصَّوابُ لأنَّ الوُضوءَ عندَه للسُّنَنِ تجزئ به صلواتُ الفَرائضِ، وقال مَرَّةً: لا تُجزئِهُ.
          ومِثْلُ هذه المسألةِ اختلافُ ابنِ القاسِمِ وابنِ الماجِشُون فيمن صلَّى في بيتِه ثُمَّ صلَّى تلك الصَّلاةَ في المسجِدِ فَذَكَرَ أنَّه كانَ في الأُولَى على غيرِ وُضوءٍ، فقال ابنُ القاسِمِ: يُجزئُه، وقال ابنُ الماجِشُون: لا يُجزئُه، والصَّوابُ الأوَّلُ بدليلِ هذا الحديثِ؛ لأنَّه وإنْ كانَ صلَّاها على طريقِ الفَضِيلَةِ فإنَّه نَوَى بها تلكَ الصَّلاةَ بعينِها والقُرْبَةَ إلى الله تعالى بتأديتِها، كما نَوَى بغَسْلِ مواضِعِ الوُضوءِ القُربَةَ إلى الله تعالى ولمْ يحْتَجْ إلى إعادتِها في الغُسْلِ مِن الجَنابةِ. وقد قال ابنُ عمرَ للَّذِي سأَلَه عن الَّذي يُصَلِّي في بيتِه ثُمَّ يُصَلِّيها في المسجدِ أيُّهما أجعلُ صلاتي؟ قال: أَوَ ذاكَ إليكَ؟! ذاكَ إلى الله تعالَى يجعَلُ أيَّتَهُمَا شاءَ.