التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة

          ░7▒ بَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الجَنَابَةِ:
          259- سَاقَ فيه حديثَ ميمونة قَالَتْ: (صَبَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلعم غُسْلًا، فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا).
          وقد سَلَفَ الحديثُ قريبًا، ثُمَّ هاهُنا أمورٌ:
          أحدُها: عندَ أبي حنيفةَ أنَّ المضمضَةَ والاستنشاقَ واجِبَتانِ في الغُسْلِ دونَ الوُضوءِ، وعندَ الشَّافِعِيِّ أنَّهما سُنَّتَانِ فيهِما. قال ابنُ بطَّالٍ: وقامَ الإجماعُ على سقوطِ الوُضوءِ في غُسْلِ الجَنابةِ، وهُما سُنَّتانِ في الوُضوءِ فإذا سَقَطَ فرْضُ الوُضوءِ فيه سقطَتْ توابِعُهُ، فَدَلَّ أنَّ ما رَوَتْهُ ميمونَةُ في غُسْلِهِ سُنَّةٌ لأنَّه صلعم كانَ يلتَزِمُ الكمالَ والأفضلَ في جميعِ عباداتِه.
          ثانِيها: (الغُسْلُ) بِضَمِّ الغينِ، هو ما يُغتَسَلُ به وهو بالفتْحِ المصدرِ كما سَلَفَ.
          ثالثُها: قولُه: (ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْضِ) سُمِّيَ الفِعْلُ قولًا كما سُمِّيَ القولُ فِعْلًا في حديثِ: ((لا حَسَدَ إلَّا في اثنتَيْنِ)) وفي قولِه في الَّذي يتلُو القُرآنَ: ((لو أُوتيتُ مِثْلَ مَا أُوْتِيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ)).
          وفيه أنَّ الإشارةَ باليَدِ والعمَلَ قد يُسَمَّى قولًا، تقولُ العربُ: قُل لي برأسِكَ أي أَمِلْهُ، وقالَتِ النَّاقةُ وقال البعيرُ وقال الحائطُ وكلُّهُ مجازٌ.
          رابعُها: مَسَحَها بالتُّرابِ لعلَّهُ والله أعلمُ لأذًى كان فيها، وإلَّا لكانَ يكتَفِي بالماءِ وَحْدَهُ.
          خامسُها: تَرْكُهُ للمِنْدِيلِ أرادَ به والله أعلَمُ إبقاءَ بَرَكَةِ الماءِ والتَّواضُعَ بذلكَ لأنَّ فِعْلَهُ عادةُ المتَرَفِّهينَ، وإن كانَ يحتملُ أن يكونَ لِشَيْءٍ رآهُ به، أو لاستعجالِه إلى الصَّلاةِ. قال ابنُ المنذِرِ: أَخَذَ المِنديلَ بعْدَ الوُضوءُ عثمانُ والحسَنُ بنُ عليٍّ وأنسٌ وبَشِيرُ بنُ أبي مسعودٍ، ورخَّصَ فيه الحسَنُ وابنُ سيرينَ وعَلقَمةُ والأسودُ ومسروقٌ والضحَّاكُ، وكان مالكٌ والثَّوريُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأصحابُ الرَّأيِ لا يَرَوْنَ به بأسًا، وكَرِهَهُ عبدُ الرَّحمنِ ابنُ أبي لَيلَى والنَّخَعِيُّ وابنُ المسيِّب ومجاهدٌ وأبو العاليةِ، وعن ابنِ عبَّاسٍ كراهِيَّتُه في الوُضوءِ دونَ الغُسْلِ مِن الجَنابةِ، ورخَّصَ فيهِما آخَرُونَ. قال التِّرمِذِيُّ: إنَّما كَرِهَهُ مَن كَرِهَهُ مِن قِبَلِ أنَّه قيل إنَّ الوُضوءَ يُوزَنُ، رُوِيَ ذلك عنِ ابنِ المسيِّبِ والزُّهريِّ.
          ولأصحابِنا فيه أوجُهٌ:
          أشهَرُهَا: الْمُستَحَبُّ تَرْكُهُ ولا يقالُ: فِعْلُهُ مكروهٌ. ثانِيها: كراهَتُهُ. ثالثُها: إباحَتُهُ سواءٌ فِعْلُهُ وتَرْكُهُ وهو المختارُ. رابعُها: استحبابُه لِمَا فيه مِن الاحترازِ عن الأوساخِ. خامسُها: يُكْرَهُ في الصَّيفِ دونَ الشِّتاءِ.
          وسيأتِي في حديثِ ميمونةَ أنَّه نَفَضَ يدَيْهِ، وهو دالٌّ على أنَّ النَّفْضَ مُباحٌ فالتَّنشيفُ مِثْلُهُ وأَوْلَى لاشتراكِهِمَا في إزالةِ الماءِ، وفِعْلُ التَّنشيفِ قد رواهُ جماعةٌ مِن الصَّحابةِ مِن أَوجُهٍ لكنْ أسانيدُها ضعيفةٌ. قال التِّرمِذِيُّ: لا يصِحُّ في هذا البابِ شَيءٌ عن النَّبيِّ صلعم.
          فائدةٌ: المِنديلُ بكسْرِ الميمِ، قالَ ابنُ فارِسٍ: لَعَلَّهُ مِن النَّدْلِ وهو النَّقْلُ، وقال غيرُه: مأخوذٌ مِن النَّدْلِ وهو الوَسَخُ لأنَّه يُنْدَلُ به.