التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب مناقب المهاجرين وفضلهم

          ░2▒ (بَابُ مَنَاقِبِ المُهَاجِرِينَ وَفَضْلِهِمْ
          مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ ☺، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ...}) الآية [الحشر:8]، وقال: ({إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة:40]، إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عبَّاسٍ ♥: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ☺ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي الغَارِ).
          3652- ثمَّ ذكرَ حديثَ إسْرَائِيلَ، هو ابنُ يُونُسَ بنِ أبي إسْحَاقَ عَمْرِو بنِ عبدِ الله أخو عيسى: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) هو الهَمْدَانيُّ عَمْرو بن عبد الله السَّبيعِيُّ (عَنِ البَرَاءِ ☺ قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ ☺ مِن عَازِبٍ رَحْلًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ البَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي، فَقَالَ عَازِبٌ: لَا، حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللهِ صلعم حِيْنَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ) ثمَّ ذَكَر حَدِيثَ أوائل الهجرة... وفي آخره: (فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُم غَيْرَ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ، فَقُلْتَ لَهُ: هذا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، وقد سلف قريبًا.
          3653- وحديثُ أنسٍ عن أبي بكرٍ ☻ قال: (قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلعم وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم نَظَر إِلَى تَحْتِ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، قَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا بَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا!).
          و (عَازِبٌ) هو ابنُ الحارثِ والدُ البراءِ، قال الواقديُّ: لم يُسمع له بذكرٍ في المغازي.
          الشرح: (أبو بكرٍ الصِّدِّيق) اسمُه: عبد الله بنُ أبي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بنِ عامرِ بن عَمْرو بن كعبِ بن سعدِ بن تَيْمِ بن مُرَّةَ القُرَشيُّ التَّيْمِيُّ، يلتقي مع رسول الله صلعم في مُرَّةَ، ولقبه: عَتِيقٌ، وكان اسمه في الجاهليَّة عبدَ الكعبة، قالت له أُمُّهُ:
يا ربَّ عَبْدِ الكَعْبَهْ                     اسْمِعْ بِهِ يا ربَّه
..................                     فَهُوَ بِصَخْرٍ أَشْبَهْ
          وسُمِّي في الإسلام عبدُ الله، سُمِّي الصِّدِّيقُ لتصدقيه برسول الله صلعم، ذكر ابنُ سعدٍ أنَّه ◙ لَمَّا أُسْرِيَ به قال لجبريلَ: ((إنَّ قَومِي لا يُصَدِّقُوني)) فقال له جبريلُ: يُصَدِّقُك أبو بكرٍ، وهو الصِّدِّيق. وقال عليٌّ ☺: سمَّاهُ الله على لسان نبيِّهِ صِدِّيقًا، وكان يُسمَّى أيضًا: الأوَّاهُ، فيما قاله إبراهيمُ النَّخَعيُّ، ولُقِّب: بعتيقٍ لِعَتَاقَةِ وجهِهِ بجماله؛ أو لأنَّه ليس في نسبه ما يُعَاب به؛ أو لأنَّه عَتِيقٌ مِن النَّار، أو لأنَّه قديمٌ في الخير، وكان له أَخوانِ مُعتَقٌ ومُعتِقٌ، قالتهُ عائِشَةُ فيما حكاه الزَّمْخَشَرِيُّ في «رَبِيْعَة»، وقال أَبُو طَلْحَةَ: سُمِّي عَتِيقًا لأنَّ أُمَّهُ كان لا يعيش لها ولدٌ، فلمَّا ولدَتْهُ استقبلت به البيت ثمَّ قالت: اللهُمَّ هذا عَتِيْقُكَ مِن الموتِ فَهَبْهُ لي. قال ابن المُعَلَّى: وكانت أُمُّهُ إذا نَقَّزَتْهُ قالت:
عَتِيقُ يا عَتِيقْ                     ذو الْمَنْظَرِ الأَنِيقْ
رَشَفْت مِنْهُ رِيقْ                     كالزَّرْنَبِ العَتِيقْ
          وفي «وشاح بن دُرَيدٍ»: كان يُلَقَّبُ ذا الخِلال لعباءةٍ كان يَخُلُّها على صدرِهِ، قال السُّهَيْلِيُّ: وكان يُلَقَّبُ أمير الشاكرين، فهذه خمسةٌ له.
          أُمُّهُ: أمُّ الخير سَلْمى بنتُ صَخْرِ بن عامرِ بن كعبِ بن سعدِ بن تَيْمٍ، وعند ابن سعدٍ كما قال: وذكر ابن إسحاقَ: أنَّ أباه كان يُسمَّى عَتِيقًا، ولم ينقل هذا غيره، وكان أبوه يُلَقَّب شاربَ الذَّهَبِ لكثرة نفقاته. وهو خليفةُ رسول الله صلعم، وادَّعى ابن خَالَوَيه في كتاب: «ليس» أنَّه خَالِفتُه لا خليفته، لأنَّ الخالِفَةَ الذي يكون بعد الرئيس الأوَّل، قالوا له: يا خليفَةَ رسولِ الله صلعم، قال: إنِّي لستُ خليفَتَهُ ولكن خَالِفته، كنتُ بعدَهُ، أي بقيتُ بعدَهُ، واستخلفت فلانًا جعلتُه خليفتي، وقد سلف الرَّدُّ عليه.
          فصل: الحديثان فيهما مَنْقَبَةٌ ظاهرةٌ للصِّدِّيق في قوله: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) وقولِه: (مَا ظَنُّكَ يَا بَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالثُهُمَا).
          وقول عازبٍ: (لَا، حَتَّى تُحَدِّثَنَا) استدلَّ به _كما قاله الخطَّابيُّ_ بعضُ العلماء على جواز ما يأخذه شيوخُ السُّوء مِن المحدِّثين على الحديث، وذلك أنَّ عازِبًا لم يحمل رَحْلَه إلى بيته حتَّى حدَّثَهُ الصِّدِّيق بقَصِّ مَخرجهِ مع رسول الله صلعم إلى المدينة، / ولم يكن هذا مِن الصِّدِّيق ولا مِن عازِبٍ على مذهب هؤلاء، فإنَّ هؤلاء القوم إنَّما اتخذوا الحديثَ بِضَاعةً يبيعونها ويأخذون عليها أجرًا، فهو كشرطٍ معلومٍ لهم في أن لا يتحدَّثُوا إلا بجُعلٍ، وكان ممَّا التمسه الصِّدِّيق مِن حمل الرَّحْل مِن باب المعروف والعادة المعروفة في نقل الشيء الذي له ثِقلٌ أو عِظَم حجمٍ أن يحملَه تلامذةُ التُّجَّار وخدَمُهم إلى رَحْل المُبتاع، ومِن المعروف أيضًا في ذلك أنَّهم يسألونه عن ذلك أجرًا، وكلُّ ذلك يجري مجرى العُرف الدائر بينهم والمستحسن في عاداتهم، إلَّا أنَّ عازبًا لحرصه على معرفة القِصَّة في مَخرجه مع رسول الله صلعم واستفادته علمَها تعجَّل الفائدة وقدَّمَ المسألة فيها، ولو لم يكن هناك الحمل المذكور لكان الصِّدِّيق لا يمنعه الفائدة من علم القِصَّة، فهل يسمح شيوخ السوء بما عندهم مِن الأحاديث إذا لم يُرشوا، والقُدوة في هذا قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21]، وقوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} [هود:29] وشبه ذلك مِن الآي، ولقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]. وقوله ◙: ((مَن سُئِلَ عن علمٍ فكتمَه أُلْجِمَ بلجامٍ مِن نارٍ))، ثمَّ هو عامَّةُ مذهب السَّلف والمرضيِّين مِن الخلف.
          قوله: (حَتَّى أَظْهَرْنَا) كذا عند أبي ذرٍّ بالألف وأسقطها غيره، والصواب الأوَّل، أي صِرنا في وقت الظُّهر، وقيل: إذا ساروا في وقت الظُّهر.
          وقوله: (قُلْتُ لِرَسُوْلِ اللهِ صلعم وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا) أي لو جلسَ وقرب وجهُه مِن الأرض عند قدميه لأبصرنا، وفي روايةٍ: أنَّ رجلًا كشفَ عن فَرْجِه وجلس يبولُ، فقال أبو بكرٍ: رآنا يا نبيَّ الله، فقال ◙: ((لَو رآنَا لَم يَكشِفْ عَنْ فَرْجهِ)).
          فصل: قيل في قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] أي على الصِّدِّيق، وأمَّا الشارع فلا زالت عليه.