التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة

          ░21▒ (بَابُ إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ البَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ البَيِّنَةِ)
          2671- ذكر فيه حديثَ هِشَامٍ عن عِكْرِمَةَ: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم بِشَرِيكِ ابْنِ السَّحْمَاءَ، فَقَالَ ◙: البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا، يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ).
          وسيأتي بطوله في بابه [خ¦5307]، ورواه أبو داودَ والنسائيُّ والتِّرمذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ، ورواه عبَّاد بن منصور عن عكرمةَ عن ابن عبَّاس متصلًا، ورواه أيوبُ عن عكرمةَ مرسلًا ولم يذكر ابنَ عبَّاس، قلت: قد رواه جريرُ بن حازمٍ عن أيوبَ عن عكرمةَ عن ابن عبَّاس متصلًا أخرجَه الطبرانيُّ والحاكمُ في «مستدركه» وقال: صحيح على شرط البخاري.
          وهذا الحديث إنَّما هو في رمي أحدِ الزوجين صاحبَه، فهو الذي يقال له: انطلق ائتِ بالبينة؛ لأنَّ الزوجين ليس بينهما جلدٌ، وإنما يسقط بينهما بالتلاعن، والأجنبيُّون بخلافِ حُكم الزوجين في ذلك، فإذا قذف أجنبيٌّ أجنبيًّا لم يُترَك لطلب البيِّنة، ولا يضمنُه أحدٌ بل يحبِسُه الإمامُ خشيةَ أن يفوتَ أو يهربَ، ويرتاد مَن يطلب بينته، وإنَّما لم يَضمَنْه أحدٌ لأنَّ الحدودَ لا كفالةَ فيها ولا ضمانَ، لأنَّهُ لا يُحَدُّ أحدٌ عن أحدٍ.
          وقوله: (البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) كان قبل نزول حُكم اللِّعَان على ظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] / فدخلَ في حُكم الآية الزوجان وغيرهما، فلمَّا نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] وحكمَ الله تعالى باللِّعَان بين الزوجين بخلاف حُكم الأجنبيَّين، وخصَّ الزوجَين بألَّا يُحدَّ الملاعن إلَّا أن يأبى مِن اللِّعَان، وكذلك المرأةُ إذا أبت مِن اللِّعَان بعد لِعَان الزوج حُدَّت بخلاف أحكام الأجنبيَّين أنَّهُ مَن لم يُقِم البيَّنة على قذفه وجب عليه الحدُّ لقوله ◙: (وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)، وقال ابن التين: قولُه: (وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) يُحْتَمل أن يكون أخبرَ بموجب الحُكم فيمن قذف، ويكون الحُكم موقوفًا حتى يقوم به المقذوف، ويُحْتَمل أن يكون الإمام يقيمُه لأنَّهُ حقٌّ له في أحد القولين، ويُحْتَمل أن يكون قام به أحدُهما، قال: واحتجَّ أصحابُ الشافعيِّ بحديث هِلالٍ إذا رمى زوجتَه وسمَّاه ثمَّ لاعن أنَّهُ لا يُحَدُّ، وعنه جوابان:
          أحدهما: أنَّ شَريكًا كان ذِمِّيًّا.
          الثاني: أنَّهُ لم يقُم بحقِّهِ، وأمَّا رميُ زوجته فإذا لاعن فلا شيء عليه.
          تنبيهات: أحدُها: روى ابن مَرْدَوَيه عن هشام بن حسَّان، عن ابن سيرين عن أنسٍ قال: أوَّلُ مَن لاعن في الإسلامِ هِلالُ بنُ أميَّةَ بابنِ سَحْماء، وقال ابنُ التِّين: اختُلِف هل هذا أول لِعَانٍ في الإسلام أو لِعَانُ عُوَيمر، فقال ابن جرير: هذا أول، وقال غيرُه: الأولُ لِعَانُ عامرٍ.
          قال ابن المنذر: سَحْماء قيل لها ذلك لسوادها، واسم أبيه عَبدة بن مُغيث، كما ضبطَه ابن ماكولا وغيره، وقيَّده النوويُّ بعينٍ مهملة ثم مثنَّاة ثم باءٍ موحَّدة، البَلَوِي، قال الخطيبُ: شهد بدرًا، وأنكرَه غيرُ واحد، وأول مَشَاهدِه أُحُد، وشَريك أخو البراء بن مالك لأُمِّه، وزعم أبو نُعيم أنَّ سَحمَاء لم يكن أباه، وشريكًا لم يكن اسمُه إنَّما كان بينه وبين ابن السحماء شركة، وقول ابن القَصَّار: إنَّ شريكًا كان يهوديًا فلذلك لم يُحَدَّ له، غير صحيح.
          ثانيها: كونُ القاذف هِلال بن أميَّة فيه نظر، بل هو عُويمِرٌ العجلاني كما نبَّه عليه الطبري والْمُهلَّب وغيرهما، وكانت في شعبان سنةَ تسعٍ منصرفَ رَسُول الله صلعم مِن تبوك، قَالَ الْمُهَلَّبُ: وأظنُّه غلطٌ مِن هشام بن حسَّان، وممَّا يدلُّ على أَّنهما قضيَّةٌ واحدةٌ توقُّف رَسُولِ الله حتى نزلت الآية، ولو أنَّهما قضيَّتان لم يتوقَّف عن الحُكم فيها ولحكمَ في الثانية بما أنزل الله.
          قلتُ: لم يتفرَّد به هشام، بل تابعَه عبَّادُ بن منصور وأيوبُ كما سلف، وأسند ابنُ جَرير روايةَ عبَّادٍ، ورواه ابن مَرْدَوَيْه في «تفسيره» عن عبَّادٍ عن عطاء عن عكرمةَ عن ابن عبَّاس، وعن عبد الله بن الحكم الهَمْداني عن عطاءٍ وعكرمةَ عن ابن عبَّاس به. وقال الخطيب: حديث هِلال وعُوَيمر صحيحان فلعلَّهما اتفقا معًا في مقامٍ واحدٍ أو مقامين، ونزلت الآية الكريمة في تلك الحال، لاسيَّما وفي حديث عُويمر كره رَسُول الله صلعم المسائلَ يدلُّ على أنَّهُ كان سبق بالمسألة مع ما روينا عن جابر أنَّهُ قال: ما نزلت آية اللِّعَان إلَّا لكثرة السؤال.
          وقال الماوَردِيُّ: الأكثرون على أنَّ قِصَّة هلال أسبقُ مِن قصَّة عُوَيمر، والنقلُ فيهما مشتبه مختلف، وقال ابنُ الصبَّاغ في «شامله»: قِصَّة هلال تبيِّنُ أنَّ الآية نزلت فيه أولًا، وقوله ◙ لعُويمر: ((إنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِيْكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ)) معناه: ما نزل في قِصَّة هِلال؛ لأنَّ ذلك حُكم عام لجميع الناس، قال النوويُّ: ولعلَّها نزلت فيهما جميعًا لاحتمال سؤالهما في وقتين متقاربين، فنزلت وسبقَ هِلال باللِّعَان، وقاله ابن التِّين أيضًا حيث قال: حديثُ عاصمٍ أشهرُ إلَّا أن يكون الأمران كانا في وقتٍ واحدٍ، فقال هذا القولَ لهِلالٍ قبل أن ينزل عليه اللِّعَان، وسأله عاصمٌ فكرِهَ مسألتَه، ثمَّ أُنْزِلت الآية فيهما، وزعم مقاتل في «تفسيره» أنَّ المرأةَ اسمُها خَولة بنت قيس الأنصارية.
          ثالثها: لمَّا صرَّح بذكر شَريك وقذفِه ولم يحدَّهُ رَسُول الله صلعم، استدلَّ به الشافعي على أنَّهُ لا حَدَّ على الرامي زوجتَه إذا سمَّى الذي رماها به ثمَّ التعن، وعند مالك: يُحَدُّ ولا يُكتفى بِلِعانه، إنما لاعن لها، واعتذر بعضُ أصحابه عن حديث شَريك بأنَّ شَريكًا لم يطلب حقَّهُ، وزعم أبو بكرٍ الرَّازي أنَّهُ كان حد القاذف _للأجنبيات والزوجات_ الجلد بدلالة قوله: (البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) وأنَّهُ نُسخ الجلدُ إلى اللِّعَان.
          رابعها: اللِّعَان والمُلاعَنة والتَّلاعُن واحدٌ، سُمِّي بذلك لقول الزوج: عليَّ لعنةُ الله إن كنتُ مِن الكاذبين، واختير لفظ اللَّعن على لفظ الغضب وإن كانا موجودين في الآية؛ لأنَّهُ مقدَّم في الآية وفي اللِّعَان، ولأنَّ جانب الرجل فيه أقوى مِن جانبها، لأنَّهُ قادر على الابتداء باللِّعَان دونها، وأنَّهُ قد ينفكُّ لِعَانه عن لِعَانها ولا ينعكس، وقيل: سُمِّي لِعَانًا مِن اللَّعْن وهو الطردُ والإبعادُ، لأنَّ كلَّ واحد منهما يبعُدُ عن صاحبه.
          وخُصَّت المرأة بالغضب لأنَّ الإنسان لا يُؤْثِر أن يَهتِك زوجته بالمحال، وليس مِن الأيمان شيء متعدِّد إلَّا هو والقَسَامة، ولا يمينَ في جانب المدَّعِي إلَّا فيهما، وجُوِّزَ اللِّعَانُ لحفظ الأنساب ودفع المَعرَّة عن الأزواج.
          خامسها: أكثر العلماء على أنَّهما بفراغهِما مِن اللِّعَان يقع التحريمُ المؤبَّد ولا تحلُّ له أبدًا، وإن أكذبَ نفسَه تمسُّكًا بقوله: ((لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها)) وعليه مضت السُنَّة، وورد في رواية فطلِّقها ثلاثًا، وقال أبو حنيفةَ ومحمد وعُبيد الله بن الحسن: هو واحدةٌ بائنة، وإن أكذبَ نفسَه بعد اللِّعَان حُدَّ وحلَّت له، وغيرُهم يحدُّونَهُ ويلحقون به الولدَ ولا يُحلُّونَها له، ومِنَ الغريب قولُ عثمان البتِّيِّ: لا يفرَّق بينهما، وهو أشدُّ الخلاف في المسألة فلا يُلتفت إليه، وإن حكاه الطبري أيضًا عن جابر بن زيد، وحكى ابن رشد عن الشافعيِّ أنَّهُ إذا أكملَ الزوجُ لِعَانَه وقعت الفرقة، وعن مالكٍ واللَّيثِ وجماعةٍ: وقوعُها إذا فرغا جميعًا منه، وعن أبي حنيفةَ: لا يقع إلَّا بحُكم حاكمٍ وهو قول الثوريِّ وأحمدَ؛ لِمَا جاء في بعض الروايات: أنَّهُ ◙ فرَّق بينهما، وبقوله: (كَذَبْتُ عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتُهَا) لأنَّ فيه أخبارًا بأنَّهُ ممسِك لها بعد اللِّعَان، إذ لو كانت الفُرقة وقعت قبل ذلك لاستحال قوله: (كَذَبتُ عَلَيها) وهو غيرُ مُمسِك لها بحضرته ولم ينكر ذلك عليه، وعن مالك: هو فسخٌ.
          سادسها: في ألفاظ متعلِّقة بالحديث ذكرَها في غير هذا الموضع:
          ((أَسْحَمَ)) أي أسودَ كلون الغُراب، ويقال لليل: أَسْحَم، وللسحاب: أَسْحم، و((أَدْعَجَ)) شديدُ سوادِ الحَدَقةِ، و((خَدَلَّجَ)) بتشديد اللام ممتلئ الساقين، ((وأُحَيْمِرَ)) تصغيرُ أحمرَ وهو الأبيض؛ لأنَّ الحُمرة تبدو في البياض دون السواد، وسُئِل ثعلب: لِمَ قيل الأحمرُ دون الأبيض؟ فقال: لأنَّ العربَ لا تقول رجل أبيض، مِن بياض اللون، إنَّما الأبيضُ / عندَهم الطاهرُ النقي مِنَ العيب.
          والوَحَرَةُ: بالتحريك دُويبَّةٌ حمراءُ تلصقُ بالأرض، ذكره الفَارَابِي، وقال ابْنُ سِيْدَه: هي وَزَغَةٌ تكون في الصَّحاري أصغرُ مِن العَظَاءة، وهي على شكلِ سامِّ أبرصَ، وجمعُها: وَحَرٌ، والوَحَرُ: ضَرْبٌ مِن العِظاءِ، وهي صغيرةٌ حمراءُ تعدو في الجَبَابِينِ، لها ذنبٌ دقيقٌ تمصَع به إذا عَدَتْ، وهي أخبثُ العظاءِ، لا تطأُ طعامًا ولا شَرابًا إلا سَمَّته، وامرأة وَحَرة: سوداء دميمة، وقيل: حمراءُ، والوَحَرة مِن الإبل: القصيرة.
          وقوله: مُوْجِبَةٌ أي للعذاب، وقوله: فَتَلَكَّأَتْ أي تبطَّأت عن إتمام اللِّعَان، قال الرَّازي عن مالكٍ والحسنِ بن صالحٍ واللَّيثِ والشافعيِّ: أيٌّ منهما نَكَلَ حُدَّ إن كان الزوج فلِلقَذفِ ولها فللزنا، وعن الشعبيِّ والضحَّاك ومَكحولٍ: إذا أَبَتْ رُجِمَت وأيُّهما نَكَلَ حُبِسَ حتى يُلاعِن، وذُكر ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه.
          وقوله: ((لَولَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللهِ)) هو قولُه تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8]، وعند أبي داود: ((لَوْلَا الأَيْمَانُ))، ويَستدلُّ به مَن يقول: إنَّ الحُكمَ إذا وقع بشرطِه لا يُنْقض وإن تبيَّن خلافُه إذا لم يقع خللٌ أو تفريطٌ في شيءٍ مِن أسبابه، وقال ابنُ التِّين: لم يجاوبه الشارع عمَّا يفعله مَن وجد مع امرأته رجلًا، وجاوبه عمَّا قذف به زوجته وشَريكًا، وقد حصل ذلك وفات ما كان يفعله مَن نزل ذلك به، فكان الجواب مطالبته بالمَخرج ممَّا دخل فيه أولى.
          وقوله: (البَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) كالفُتيا، وفيه مراجعةُ الخصمِ الإمامَ إذا رجا أن يظهرَ له خلاف ما قال له، وفيه أنَّ الحقوقَ والحدود يستوي فيه الصالح وغيرُه، قاله الداودي.