التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شهادة النساء

          ░12▒ (بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَقَوْلِهِ ╡: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]).
          2658- ذكر فيه حديثَ أَبِي سَعِيدٍ: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا).
          وقد سلف مطوَّلًا في الحيض [خ¦304]، و(زَيْدٌ) الذي في إسنادِه هو ابنُ أسلمَ كما صرَّح به هناك.
          وقام الإجماع على القول بظاهر الآية على أنَّ شهادةَ النساء تجوز مع الرجال في الديون والأموال، وأجمع أكثر العلماء على أنَّ شهادتهنَّ لا تجوز في الحدود والقصاص، هذا قول سعيد بن المسيِّب والشعبيِّ والنَّخَعيِّ والحسن البصري والزهريِّ وربيعةَ ومالكٍ واللَّيثِ والكوفيِّين والشافعيِّ وأحمدَ وأبي ثورٍ.
          واختلفوا في النكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء، فذهب ربيعةُ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وأبو ثور إلى أنَّهُ لا يجوز في شيء مِن ذلك كلِّه مع الرجال، وأجاز شهادتهنَّ في ذلك كلِّه مع الرجال الكوفيُّون، ولا دليلَ لهم يوجب قَبول شهادتهن في شيءٍ مِن ذلك، واتفقوا أنَّه تجوز شهادتُهنَّ منفرداتٍ في الحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء وما لا يطَّلع عليه الرجال مِنَ عورتهنَّ للضرورة.
          واختلفوا في الرَّضَاع، فمنهم مَن أجاز فيه شهادتهنَّ / منفرداتٍ، ومنهم مَن أجازها مع الرجال، على ما سيأتي ذكرُه في النكاح إن شاء الله تعالى.
          وقال أبو عُبيد: اجتمعتِ العلماءُ على أنَّهُ لا حظَّ للنساء في الشهادة في الحدود، وكذلك أجمعوا على شهادتهنَّ في الأموال أنَّهُ لا حظَّ لهنَّ فيها، أي منفردات، وذلك لآيتين تأوَّلوهما فيما نرى والله أعلم:
          أمَّا آية الحدود فقولُه / تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية [النور:4]، فعُلم أنَّ الشهادةَ في اللُّغة لا تقع إلَّا على الذكور، ثمَّ أمضوا على هذا جميع الحدود مِنَ الزنا والسرقة والفِرْية وشرب الخمر والقصاص في النفس وما دونها.
          وأمَّا آية الأموال فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ...} إلى قوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، ثمَّ أمضوا على هذا جميعَ الحقوق والمواريث والوصايا والودائع والوكالات والدَّين، فلمَّا صاروا إلى النكاح والطلاق والعِتاق لم يجدوا فيها مِن ظاهر القرآن ما وجدوا في تلك الآيتين، فاختلفوا في التأويل، فشبَّهها قومٌ بالأموال فأجازوا فيها شهادةَ النساء، وقالوا: ليست بحدودٍ وإنَّما توجبُ مُهورًا ونفقاتِ النساء، وأبى ذلك آخرون ورأَوها كلَّها حدودًا لأنَّ بها يكون استحلال الفروج وتحريمُها.
          قال أبو عبيد: وهذا القول يُختار لأنَّ تأويل القرآن يصدِّقُهُ، أَلَا تسمع قولَه تعالى حين ذُكِر الطلاقُ والرَّجعة فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، فخصَّ بها الرجال ولم يجعل للنساء فيها حظًّا كما جعله في الدَّين، ثمَّ أَبينُ مِن ذلك أنَّهُ سمَّاها حدودَ الله، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] فكان هذا أكبر من التأويل، فالأمر عندنا عليه أنَّهُ لا تجوز شهادتُهنَّ في نكاحٍ ولا طلاقٍ ولا رَجعة، وكيف يُقبل قولُهنَّ في هذِه الحال على غيرهن ولا يملِكْنَها مِن أنفسهنَّ، ولم يجعل اللهُ إليهنَّ عقدَ نكاحٍ ولا حلَّهُ؟! لأنَّ الله تعالى خاطب الرجال في ذلك دونهنَّ في كتابه، قال أبو عبيد: والعِتَاقُ عندنا مثل ذلك كلِّه لا تجوز فيه شهادتهنُّ لِمَا يدخل فيه مِنْ تحريمِ الفُروج وتحليلِها.
          قَالَ الْمُهَلَّبُ: وفي حديث الباب دِلالة أنَّ الناسَ يجب أن يتفاضلوا في الشهادة بقدرِ عقولِهم وفَهمِهم وضبطِهم، وأن يكون الرجلُ الصالحُ الذي تُعرف منه الغفلة والبَلادة يتوقَّف عن شهادته في الأمور الخفيَّة، وتُقْبَل شهادة اليقظان الفَهِم العَدْل، والتَّفاضلُ في شهادتهما على قدرِ أفهامِهما، وفيه أنَّ الشاهدَ إذا نسي الشهادةَ ثم ذكَّره بها صاحبه حتى ذكرها أنَّها جائزة؛ لقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] فدخل في معنى ذلك الرِّجالُ والنِّساءُ.
          فرع: اختُلِف في شهادة امرأتين مع الفُشُوِّ وامرأتين من غير الفُشوِّ، وفي شهادة أحدِ الأَبوين بالرَّضاع، كما حكاه ابنُ التِّين، فقال ابنُ القاسم: إن شهدَت أمُّ الزوج أو أمُّ الزوجة لم تقبل شهادتُهما إلَّا أن يكونَ قد فشا، وعن ابن حَبيبٍ عن مالك: إذا قالت المرأةُ ذلك في أُمِّها أو أبيها، أو قاله الأبُ في ولده وقعت الفُرقة.
          فرع: قال أبو عبد الرحمن العُتَقِيُّ: اختلفوا في عدد مَن يجبُ قَبول شهادته مِنَ النساء على ما لا يطَّلع عليه الرجال، فقالت طائفة: لا يُقْبَل أقلُّ مِن أربع، وهذا قولُ أهلِ البيت والنَّخَعيِّ وعطاءٍ، وهو رأي الشافعيِّ وأبي ثور، وقالت طائفة: تجوز شهادة امرأتين على ما لا يطَّلع عليه الرجال، وبه قال مالكٌ وابن شُبْرَمَةَ وابن أبي ليلى، وعن مالكٍ: إذا كانت مع القابلةِ امرأةٌ أخرى فشهادتها جائزة، ورُوِيَ عنِ الشعبيِّ أنَّهُ أجاز شهادةَ المرأة الواحدة فيما لا يطَّلع عليه الرِّجال، وعن مالكٍ: أرى أن تجوزَ شهادةُ المرأتين في الدَّين مع يمينِ صاحبِه، وعن الشافعيِّ: يُسْتَحلف المدَّعى عليه، ولا يحلف المدَّعي مع شهادة المرأتين، وقالت طائفة: لا تجوز شهادةُ النساء إلَّا في موضعين: المال، وحيث لا يرى الرجال مِن عورات النساء.
          فائدة: روى الزُّبير بنُ بكَّارٍ في كتاب «المفاكهة والمزح» أنَّ امرأةً وطئت صبيًّا فقتلته، فرُفِعَت إلى عليٍّ فشهد عليها أربعُ نسوةٍ، وأجاز عليٌّ شهادتهنَّ وجَحَدت هي، فلمَّا أجاز شهادتهنَّ قالت لعليٍّ: اعفني الآنَ في الدِّيَة، قال: وكان عليُّ يجيز شهادة الصِّبيان.