التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تعديل النساء بعضهن بعضًا

          ░15▒ (بَابُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا)
          2661- ساق فيه حديثَ عائشةَ في الإفك بكمالِه.
          وقد أخرجه أيضًا في المغازي [خ¦4141] والجهاد [خ¦2879] والتفسير [خ¦4690] والأَيمان والنُّذور [خ¦6662] والاعتصام [خ¦7369] والتوحيد [خ¦7500]، وستأتي قطعةٌ منه في غزوة المُرَيسيع وسورة النُّور وسلف أيضًا بعضُه، وأخرجه مسلمٌ مِن حديثِ مَعمَرٍ والسياق له، ويونس بن يزيد عن الزهريِّ به.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فالكلامُ عليه ملخصًا مِن وجوهٍ:
          أحدُها: قولُه: (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ) أَحْمَدُ هذا هو ابنُ يونس، كما هو ثابتٌ في أصلِ الدِّمياطي وعليه علامةٌ، وقال خلفٌ في «أطرافه»: هو أحمد بن عبد الله بن يونس، ووهَّمَه المزِّي ولم يبيِّن سببَه، وزعم ابنُ خَلْفُون في «مُعْلِمِهِ بأسماءِ شيوخ البخاري ومسلم» أنَّهُ لعلَّهُ أحمد بن حنبل.
          ثانيها: قول الزهريِّ: (وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا) هو جائزٌ سائغٌ مِن غير كراهةٍ؛ لأنَّهُ قد بيَّن أنَّ بعضَ الحديث عن بعضِهم وبعضَه عن بعضِهم، والأربعة الذين حدَّثوه به أئمةٌ حفَّاظ من جُلَّة التابعين، فإذا تردَّدت اللفظة مِن هذا الحديث بين كونِها عن هذا أو عن ذاك لم يضرَّ، وجاز الاحتجاجُ بها لثقتِهم، وقد قام الاتفاق على أنَّهُ لو قال: حدَّثني زيدٌ أو عمرو، وهما ثقتان معروفان بذلك عند المُخاطَب، جاز الاحتجاجُ بذلك الحديث.
          ثالثُها: وجهُ إيرادِ هذا الحديث هنا سؤالُ الشارع بَرَيرةَ وزينبِ بنتِ جَحْشٍ عن عائشةَ، وهو لائحٌ في تعديل النساء، وقد زكَّت عائشةُ أيضًا زينبَ بقولها: (وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِيْنِي، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ)، وهو تزكيةٌ منها لها، وشهادةٌ لها بالفضل، ومَن كانت بهذِه الصفة جازَت تزكيتُها، قال الطَّحاوي: تعديلُها مقبولٌ عندَ أبي حنيفةَ وأبي يوسف، وقال محمد: لا يُقْبل في التعديل إلَّا رجلان أو رجلٌ وامرأتان، وعن مالكٍ: لا يجوز تعديلُ النساءِ بوجهٍ، لا في مال ولا في غيره، وقال الشافعيُّ: لا يُعَدِّلْنَ ولا يُجَرِّحْنَ ولا يشهد على شهادتهنَّ إلَّا الرجال.
          قلت: ونَقلتُ في «المقنَّع» قَبولَ تزكيتها وتزكية العبد عندنا.
          وقال الطَّحاوي: الدليل على قَبول تعديلهنَّ أنَّهُ يُقْبل في التزكية ما لا يُقْبل في الشهادة؛ لأنَّهُ يقول في الشهادة: أشهدُ، ولا يحتاج في التزكية إلى لفظِ الشهادة، قلت: ومَن منع تزكيتَها لعلَّةِ نقصِها عن معرفة وجوهها لأنَّ مِن شرطِها عندنا وعندَ مالك أن يقول: أُراهُ عَدْلًا رِضىً أو عدلًا عليَّ ولي، لكن عندنا زيادة: عليَّ ولِي، على وجه التأكيد، وإن كان ظاهرُ نصِّ الشافعي أنه لابدَّ منه، وهذا لا يعلم إلَّا بالاختبار وطول الممارسة في المعاملة وغيرها، والنساء يَقصُرن عن هذا، وقد خصَّ الله أزواجَ نبيِّه مِن الفضل بما لم يوجد مِن غيرهنَّ ممَّن يأتي بعدهنَّ مِنَ النساء فاحتيطَ في التعديل، وأُخِذ فيه بشهادة الرجال.
          فإن قلتَ: فإذا كان كما ذكرتَ فجَوِّز تعديلَ النساء على النساء على ما ترجم به البخاري؛ لإمكان تعريف النساء أحوال النساء؟ قلتُ: قد يلزمُ على أنَّهُ لو قيل: إنَّهُ يجوز أن يزكِّي بعضُهن بعضًا بقولٍ حسنٍ وثناءٍ جميلٍ، ولا يكون تعديلًا في شهادة توجب أخذَ مالٍ، وإنما هو إبراءٌ مِن شرٍّ قيل لكان حسنًا، وشهادةُ النساء إنَّما أجازَها اللهُ تعالى في كتابه العزيز في الديون والأموال مع الرجال، وأجازها المسلمون في عيوب النساء وعوراتهنَّ وحيثُ لا يمكن الرجالُ مشاهدته، وأمَّا في غير ذلك فلا يجوز فيه إلَّا الرجال، ألا ترى أنَّهُ لا تجوز شهادتهنَّ منفردات على شهادةِ امرأة ولا رجلٍ عند جمهور العلماء، ولا يجوز مع الرجال في ذلك عند الشافعيِّ وابن الماجَشون وابن وَهْب، واختاره سَحْنُون، وإنما يجوز مع الرجال عند مالك والكوفيِّين، فكيف يجوزُ تعديلُهنَّ منفردات عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وهما يجيزان شهادتهن على الشهادة منفردات؟! هذا تناقض، مع أنَّ ابنَ التِّين قال: ترجمَ على تعديل النساءِ، والنساءُ لا مَدخل لهنَّ في التعديل، وقد علمتَ ما فيه، وقد يُحتجُّ لمحمدٍ بأنَّهُ سأل أسامةَ أيضًا معهُما: (فَقَالَ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلاَ نَعْلَمُ وَاللهِ إِلَّا خَيْرًا).
          رابعها: قوله: (وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا) أي حِفظًا، يُقال: قصَصْتُ الشيءَ إذا تبعتُ أثرَه شيئًا بعد شيءٍ، ومنه {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11]، أي اتبعي أثرَه، ومنه القاصُّ الذي يأتي بالقصَّةِ، مِن قصَّها، ويجوز بالسين: قسَسْتُ أثره قسًّا.
          وقولُه قبلَه: (وَأَوْعَى) أي أحفظ.
          وقولُه: (وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ) هو بفتح العين، أي حَفِظْتُ.
          خامسُها: قولُه: (فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا) هي غزوةُ بني المصطلق، وكانت سنةَ ستٍّ، كذا جزم به ابنُ التِّين، وهو ما عندَ البخاري، وقال غيره: في شعبان سنةَ خمسٍ، وتُعرف أيضًا بغزوة المُرَيسِيع، وقال موسى بن عقبة: سنةَ أربعٍ، فهذِه ثلاثة أقوال.
          سادسُها: قولها: (فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا) فيه جواز القُرعَة إذا استوى سببُ المُقتَسِمينَ في ذلك، مثل استواءِ سبب الزوجات، قال أبو عُبيد: عمل بالقُرعة ثلاثةٌ مِنَ الأنبياء: نبيُّنا ويونسَ وزكرياءُ صلواتُ الله وسلامُه عليهم، قال ابنُ المنذر: استعمالُها كالإجماع. ورُوِّينا عن أبي هريرةَ: أنَّ رجلين اختصما إلى رَسُول الله صلعم في دابَّةٍ وليس لهما بيِّنةٌ فأمرهما أن يستهما على اليَمين، وعن أحمد: في القُرعة خمسُ سُنن، وقال أبو الزناد: يتكلَّمون في القُرعَةِ وقد ذكرها الله في موضعين مِن كتابه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، و{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران:44].
          قال ابنُ المنذر: وقد اختُلِف في كيفيتها، فقال سعيدُ بن جُبيرٍ: بالخواتيم، يُؤخذ خاتَم هذا وخاتَم هذا، ويُدفعان إلى رجل فيُخرج منهما واحدًا، وعن الشافعيِّ: يجعل رِقاعًا صغارًا يكتب في كلِّ واحدةٍ اسمَ ذي السَّهم، ثمَّ يُجعل في بنادقَ طين ويغطَّى عليها ثوب، ثم يُدْخل رجلٌ يدَه فيُخرِجُ بُندقة ويُنظر مَن صاحبها فيدفعها إليه.
          وقد أسلفنا في الشَّرِكَةِ ذِكرَ القُرعَةِ أيضًا، وعندنا أنَّهُ إذا أراد سفرًا أقرعَ بين نسائه، لا يجوز أخذُ بعضِهنَّ بغير ذلك خلافًا لمالك، كما حكاه النوويُّ عنه، وهو مشهورُ مذهبِ مالك، كما قال ابنُ التِّين؛ لأنَّ القسم سقطَ للضرورةِ، ووافقنا ابنُ عبد الحَكَمِ، قال مالك: والشارعُ كان يفعل ذلك تطوُّعًا منه لأنَّهُ لا يجب عليه أن يعدلَ بينهنَّ.
          وقيل في قولِه: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51] أنهنَّ عائشة وحفصَة وزينب وأم سلمة وأم حبيبة وباقيهن مرجيَّات، وفي القُدُورِيِّ: لا حقَّ لهنَّ في حالِ السفر، يسافرُ بمَن شاء منهنَّ، قال الأَقطَعُ: لأنَّ الزوجَ لا يلزمُه استصحاب واحدةٍ منهنَّ، ولا يلزمه القسم في حال السفر، والأَولى والمستحبُّ أن يُقْرِعَ ليطيِّبَ قلوبَهنَّ.
          سابعها: (قَفَلَ): رجع، و(آذَنَ) بالمدِّ وتخفيف الذال المعجمة مثل قوله: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109]، ورُوي بالقصر وتشديد الذال، أي أعلمَ به.
          وقولُها: (فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ) الجَزْعُ بفتح الجيم وسكون الزاي خَرزٌ يَماني، ووصفَه أبو العبَّاس أحمد بن يوسف التِّيفاشي في كتابه «الأحجار» فأطنبَ، وأنَّه يوجد في اليمن في معادن العقيق، ومنه ما يُؤتى به مِنَ الصِّين، ثمَّ ذكرَ أصنافَه، قال: وليس في الحجارة أصلبُ مِنه جِسمًا، وإنما يَحْسُنُ إذا طُبخ بالزيت، وزعمَتِ الفلاسفةُ أنَّهُ يُشْتَقُّ مِن اسمه الجَزَعُ؛ لأنَّهُ يولِّدُ في القلب الجَزَعَ، ومَن تقلَّد به كَثُرَتْ همومُه ورأى أحلامًا رديئة، وكثرُ الكلام بينه وبين الناس، وإن عُلِّق على طفلٍ كَثُر لعابُه وسال، وإن لُفَّ في شعرِ المُطْلَقَةَ ولدت، ويقطعُ نفثَ الدم ويختمُ القروحَ.
          قال البَكريُّ: ومنه جَزْعٌ يعرف بالنَّقمي، وقال ثعلب: الجزعُ الخَرَزُ، فاعترض ابنُ دُرُسْتَوَيْه فقال: ليس كل الخَرَز يسمى جَزْعًا، وإنما الجَزْع منها المجزَّع، أي المقطَّع بالألوان المختلفة، قد قُطع سوادُه ببياضِه، وقال كُراع في «مُنضَّدِه» عن الأثرمِ: أهلُ البصرة يقولون: الجزْعُ _بالفتح والكسر_ الخَرَزُ، وقال أبو القاسم التَّميمي في «المُستَطرف» عن بِندار: الجَزْعُ واحدٌ لا جمعَ له، وقال الحَربيُّ وابْنُ سِيْدَه: الجَزْعُ الخَرَزُ _كما أسلفناه_ واحدتُه جَزْعَة، وقال صاحبُ «العين»: الجَزْعُ ضَرْبٌ مِنَ الخَرَزِ، والجِزْعُ _بكسر الجيم_ جانب الوادي ومنقطعه.
          وقولها: (أَظْفَارٍ) كذا هنا بالألف وفي غيرِه بحذفها، والصواب الأوَّل، قال ابنُ بطَّال: رواه فُلَيحُ بن سليمان عن الزهريِّ بألفٍ، وكذا رواه يونس عن ابنِ شهاب في تفسير القرآن في سورة النور [خ¦4750]، وأهلُ اللغة لا يعرفون هذا، ويقولون: مِن جَزْعِ ظفَار، وهو مبنيٌّ على الكسر، كما تقول: حَذَام، وقد رواه البخاري كذلك في المغازي [خ¦4141] مِن رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب، قال ابنُ قُتيبةَ: ظِفَارُ مدينةٌ باليمن وهو جَزْعٌ ظِفاريٌّ، وقال ابن التين: الجَزْعُ _بفتح الجيم وسكون الزاي_ الخَرَزُ، و(أَظْفَارُ) صوابُه: ظفار بغير ألف، وقيل: مدينة، وقال: قيل: الجَزْعُ اليماني الذي فيه البياض والسواد، وكذا قال القُرطبيُّ: مَن قيَّده بالألف أخطأَ، وصحيحُ الرواية بفتح الظاء، قال ابن السِّكِّيتِ: ظِفَار قريةٌ باليمن، وعن ابن سعد: جبلٌ، / وفي «الصِّحاح»: مبنيٌّ على الكسر كقطامِ، وقال البَكريُّ عن بعضِهم: سبيلُها سبيل المؤنَّث لا ينصرف، قال صاحب «المطالع»: ويُرفع ويُنصَب، قال أبو عُبيد: وقصرُ المملكة بظِفَار قصرُ ذي رَيْدانَ، ويُقال: إنَّ الجنَّ بَنَتْها.
          وقولُها: (فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي) في بعض الروايات أنَّ العِقدَ المذكور مقدارُ ثمنِه اثنا عشر درهمًا، ذكرها ابنُ التِّين.
          ثامنُها: قولُها: (يَرْحَلُونَ لِي) هو باللام ورُوي بالباء، قال النوويُّ: والأوَّل أجود، و(يَرْحَلُونَ) بفتح الياء وسكون الراء وفتح الحاء المخفَّفة، وهو معنى قولِها: (فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي) وهو بتخفيف الحاء أيضًا، و(الهَوْدَجِ) مركبٌ مِن مراكب النِّساء.
          وقولُها: (لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ) كذا وقع هنا، وقال في كتاب المغازي والتفسير: وَكَانَ النِّسَاءُ خِفَافًا لم يَهْبُلْنَ، ولم يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ. قال صاحبُ «العين»: الْمُهَبَّلُ الكثيرُ اللَّحم، قال أبو عُبيد: يُقَال منه: أصبحَ فلانٌ مهبَّلًا إذا كان مورَّم الوجهِ مُتَهبِّجًا، وأنشد ثابت:
ريَّانُ لا غشٌّ ولا مُهَبَّلُ
          الغشُّ: الرَّقِيقُ عِظامِ اليدَين والرِّجلَين، وذكرَها الخطابي، وقال أيضًا: معناها لم يكثر عليهنَّ ولم يَرْكَبْ بعضُه بعضًا.
          و(العُلْقَةَ) بضمِّ العين المهملة ثمَّ لام ساكنة ثمَّ قاف القليلُ، ويُقال لها أيضًا: البُلغَةُ، كأنَّه الذي يُمسِك الرَّمَقَ ويعلِّقُ النفس للازياد منه، أي تشوُّفها إليه، وقال صاحب «العين»: العُلْقَةُ ما فيه بُلغةٌ مِنَ الطعام إلى وقتِ الغداة، والعَلَاقُ: مثلُه، واقتصر عليه ابنُ بطَّال، وعبارة ابن التِّين أيضًا: العُلْقةُ البُلْغة مِنَ القوت، وأصلُ العُلْقَةِ شجرٌ يبقى في الشتاء تعلَّق به الإبل، أي تجتزئ به حتى تُدْرِك الربيعَ، وقال في غزوة المُرَيسيع: العُلْقَةُ ما تتبلَّغ به الماشية من الشجر، وقيل: ما يمسكُ به المرء نفسَه مِنَ الأكل، وقيل: هي ما يأكلُه بُكرةً مِنَ الغِذاء.
          وقولُها: (فَبَعَثُوا الجَمَلَ) أي أثاروه.
          وقولُها: (فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ) أي ذهب ومضى، قاله الداودي، ومنه قولُه تعالى: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2] أي ذاهبٌ أو دائمٌ أو مُحْكَمٌ أو مُرٌّ أو قويٌّ شديدٌ و{يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] قيل: إنَّهُ يوم الأربعاء، ذكرَه الهَروي.
          وقولُها: (فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي) أي قصدتُه، ومنه: {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، قال ابن التِّين: فعلى هذا يُقرأ: (أَمَمْتُ) مخفَّفَ الميم، وإن شُدِّدت في بعض الأمهات، وذكره في المغازي بلفظ: فَتَيَّمْمَتُ مَنْزِلِي، والمعنى واحدٌ.
          وقولُها: (فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي) الظنُّ هنا بمعنى العلم.
          تاسعُها: (صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ) بفتح الطاء المشدَّدة ابن رَحَضَةَ بن المؤمَّل بن خُزاعيِّ بن مُحارب بن مرَّةَ بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بُهْثَة بن سُلَيم، ذكر الكلبي وغيرُه أنَّ أول مشاهده المُريسيع، وذكر الواقديُّ أنَّهُ شهد الخندق وما بعدها، وكان شجاعًا خيِّرًا شاعرًا، وعن ابن إسحاق: قُتِل في غزوةِ أرمينية شهيدًا سنة تسع عشرة، وقيل: تُوفِّي في خلافة معاوية سنة ثمانٍ وخمسين، واندقَّت رجلُه يومَ قُتِل فطاعَنَ بها وهي منكسرة حتَّى مات، ولمَّا ضرب حسَّان بن ثابت بسيفه لمَّا هجاهُ ولم يقتصَّه منه رَسُول الله صلعم استوهبَ مِن حسَّان جنايتَه فوهبَها لرسول الله صلعم فعوَّضه منها حائطًا مِن نخل _قال ابنُ إسحاق وأبو نعيم: هو بيرُحاء_ وسيرينَ أختَ ماريَّة، ولك أن تقول: إنَّ حسَّان إنَّما وصل إليه بَيرُحاء مِن جهة أبي طلحةَ، ويجوز أن يُقَال: لمَّا كانت بمشورته ◙ فنُسِبت إليه تجوُّزًا، وفي «الاكتفاءِ» لأبي الرَّبيع سليمان بن سالم: رُوي مِن وجوه أنَّ إعطاءَ رَسُول الله صلعم لحسَّان سيرين إنما كان لِذَبِّهِ عن رسول الله صلعم.
          والذين جاؤوا بالإفك في الآية: عبدُ الله بن أُبَيٍّ، وحَمْنَةُ بنتُ جَحْشٍ، وعبد الله وأبو أحمد أخواها، ومِسْطَحٌ وحسَّانٌ، ذكرَهم السُّهَيليُّ، وقيل: إنَّ حسَّان لم يكن منهم، والإِفْكُ الكذبُ، وأصلُه مِن قولِهم: أَفَكَهُ يَأفِكُه إذا صَرَفه عن الشيء، فقيل للكذب: إِفْكٌ لأنَّهُ مصروف عن الصدق، والذي تولَّى كِبْره هو عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ.
          وكان صفوان على السَّاقة يلتقطُ ما يسقطُ مِن مَتاع الجيش ليردَّه إليهم، وقيل: إنَّه كان ثقيلَ النوم لا يستيقظ حتى يرتحلَ الناسُ، وفي أبي داود: شكتِ امرأتُه منه ذلك لرسول الله صلعم، فقال: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نُوَّم عُرِفَ لَنَا ذَلكَ لاَ نَكَادُ نَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وذكر ابنُ العربيِّ أنَّهُ كان حَصُورًا لم يَكشِف كَنَفَ أُنثى قطُّ، وقال ابنُ إسحاق: لقد سُئِل عن صفوانَ فوجدوه لا يأتي النساءَ، وفي البخاريِّ [خ¦4757] عن صفوان: والذي نفسي بيده ما كشفتُ مِن كنفِ أنثى قط، قالت عائشة: ثمَّ قُتِل بعد ذلك شهيدًا.
          وقولُها: (فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ) أي شخصَه.
          وقولُها: (وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ) أي قبل حجاب البيوت، وآية الحجاب نزلت في زينب.
          وقولُها: (فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ) يعني قوله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعُون، فيُحْتَمل أن يكون شقَّ عليه ما جرى عليها، ويُحْتَمل أن يكون عدَّها مصيبةً لِمَا وقع في نفسِه أنَّهُ لا يَسلم مِن الكلام.
          وقولُها: (فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ)، وفي رواية: (حِينَ) بالنون، والمرادُ: حين نزل من راحلته.
          عاشرُها: قولُها: (بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) أي نازلين نصفَ النهار، والمعروفُ أنَّ التَّعريسَ نزولُ آخر الليل، وهذا محمولٌ على المجاز، وعبارةُ ابن التِّين: التعريسُ النزول، وقال الخطَّابي: نحرُ الظهيرة أوَّل القائلة، وقد روي: مُوغِرينَ فِي نَحْرِ الظَّهيرَةِ، كما ذكره في المغازي والتفسير، فمعنى مُوغِرينَ، أي مُهجِّرين، يُقال: رأيتُ فلانًا في وَغرِ الهاجرة، وهو شدَّة الحرِّ حين تكون الشمسُ في كَبِدِ السماء، ومنه: وَغَر الصدر، وهو التهابُ / الحقد وتوقُّده في القلب، ومِن هذا إيغارُ الماء، قال ابنُ السِّكِّيت: وهو أن تسخَّن الحجارةُ ثم تُلقى في الماء لتسخِّنَه. قلتُ: وأَوْغَرَ: دخل في ذلك الوقت، مثل أظهرَ وأصبحَ، وأكَّدَتْ ذلك بقولِها: (فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ).
          و(الظَّهِيرَةِ) اشتدادُ الحرِّ أيضًا، و(نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) أوَّلُها، وأوائل الشهور تسمَّى النُّحور، وقَالَ الدَّاودِيُّ: الظهيرةُ: نصفُ النهار عندَ أوِّل الفَيء، قال: وقيل: الظُّهر والظَّهيرُ لِمَا بعد نصف النهار؛ لأنَّ الظَّهْرَ آخر الإنسان، وسُمِّي آخرُ النهار بذلك، ولا يُسلَّم له لأنَّ أول اشتداد الحرِّ قبل نصف النهار.
          قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالغين المعجمة والراء المهملة مِنَ الوَغْرَةِ بسكون الغين، وهي شِدَّة الحرِّ، ورواه مسلم مِن رواية يعقوب بن إبراهيم بعينٍ مهملة وزايٍ، ويمكن أن يُقَال فيه: هو مِن وَعَزتُ إليه، أي تقدَّمتُ، يُقال: وَعَزْتُ إليه وَعْزًا _مخفَّفًا_ويُقال: وَعَّزْتُ إليه توعيزًا بالتشديد، وزعم الهَجَري في «نوادره» أنَّ التخفيف في وَعَزْتُ مِن لحنِ العامَّة. ولا يُلْتَفت إلى مَن صحَّفه بالعين المهملة والراء، أي ساروا في الوَعرِ ليقاطعوا على الجيش بسرعة، قال القزَّاز: ويكون مِن وَغَر صدرَه، أي حصل لها غضب وحقدٌ مما نَابَهُما.
          وقولُه: (فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا) أي مرضتُ.
          وقولها: (يُفِيضُونَ) مِن قول أصحاب الإِفْكِ، يُقَال: أفاضَ القومُ في الحديث إذا اندفعوا فيه يخوضون، وهو مِن قوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، قال ابنُ عَرفةَ: يُقال: حديثٌ مُستَفيضٌ ومُستفاضٌ فيه، وقال غيره: حديث مُفاضٌ فيه ومُستفاضٌ ومُستفيضٌ في الناس، أي جارٍ فيهم وفي كلامهم.
          وقولُها: (وَيَرِيبُنِي) هو بفتح أوَّله ويجوز ضمُّهُ، وهو الشكُّ، يُقَال: أَرابَني الأمرُ يَريبُني إذا توهَّمتُه وشككتُ فيه، فإذا استيقنتُه قلتُ: رَابَني منه كذا يَريبُني، وعن الفرَّاء: هما بمعنىً واحدً في الشكِّ، قال صاحب «المنتهى»: الاسم الرِّيبة _بالكسر_ وأرابني ورابني إذا تخوَّفت عاقبته، وقيل: رابني إذا علمت به الرِّيبة، وأرابَني إذا ظننُت به، وقيل: رابَنِي إذا رأيتُ منه ما يَريبُك وتكرهُه، وتقول هُذَيل: أرابَني وأرابَ: أتى بالرِّيبة، ورابَ: صار ذا رِيبَةٍ، قال صاحبُ «الواعي»: ورابَني أفصحُ.
          و(اللُّطفَ) بضم اللام وسكون الطاء وبفتحها لغتان: الرِّفْق، ومعنى (نَقَهْتُ): أَفَقْتُ، ذكرَه ثعلبٌ بفتح القاف، والجوهريُّ بالكسر، وهو المُفيق مِنَ المرض قبلَ كمال صِحَّته، و(الْمُتَبَرَّز) الموضعُ الذي يقضي فيه الإنسانُ حاجته، والبَرازُ أيضًا اسمٌ لذلك الموضع وهو المتَّسع مِنَ الأرض، وبها سُمِّي الحَدَث برازًا، كما يُسمى الحدثُ بالغائطِ وهو المُطمئنُّ مِنَ الأرض، و(التَّنَزُّهِ) البعد عن البيوت، يُقال: مكانٌ نَزيهٌ، أي خالٍ ليس فيه أحدٌ، وكانوا يبعدون عنها عند حاجة الإنسان، ووقع هنا: (البَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ)، وفي المغازي: في البريَّة، فقط وفي مسلم: في التَّنزُّهِ أو التَّبرُّزِ، و(المَنَاصِعِ) المواضع التي يُتخلَّى فيها لبولٍ أو حاجة، الواحد: مَنْصَع، وقال الأزهري: أُراه موضعًا بعينه خارجَ المدينة، وهو في الحديث صعيدٌ أَفْيَحُ خارج المدينة، وقال ابن السِّكِّيت: المناصعُ في اللغة المجالسُ، وقَالَ الدَّاودِيُّ: قيل: سُمِّيت بذلك لأنَّ الإنسان إذا قضى حاجتَه ذهبَ ما كان يجد مِنَ الثِّقل، فإذا استنجى وتطيَّب بالحجارة استنقى، فكأنَّهُ أخذه مِنَ الناصع الأبيض الصافي، و(الكُنُفَ) جمعُ كَنيف، وهو الساترُ سُمِّي موضع الغائط يستترون فيه.
          وقولُها: (وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ أَوِ التَّبَرُّزِ) هو شكٌّ فيما أظنُّ، و(الأُوَل) بضمِّ الهمزة وتخفيف الواو، ويجوز فتح الهمزة وتشديد الواو وكلاهما صحيح.
          وقولها: (تَعَِسَ مِسْطَحٌ) التَّعسُ أَلَّا ينتقش مِن عثرته وقد تعس تعسًا وأتعسَه الله، وستأتي واضحةً في الحراسة في الغزو مِن كتاب الجهاد [خ¦2886]، وهو بفتح العين وكسرها لغتان مشهورتان، ومعناه: عَثُرَ كما سلف، وقيل: هَلَكَ، وقيل: لَزِمَهُ الشرُّ، وقيل: بَعُدَ، وقيل: سقطَ لوجهِه، قال ابنُ التِّين: المحدِّثون يقرؤونه بكسر العين، وهو عند أهل اللغة بفتحها، قال: ومعناه انكبَّ أي كبَّهُ الله.
          (وَأُمُّ مِسْطَحٍ) اسمها سَلْمَى بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ، وهي بنت خالة أبي بكرٍ الصدِّيق، وذكر أبو نُعيم فيما نُقل مِن خطِّهِ أنَّ اسمَها رائِطَة بنت صَخر أخت أمِّ الصدِّيق، و(مِسْطَحٌ) لقبٌ واسمُه عوفٌ، وقيل: عامر، ومعناه عُود مِن أعواد الخلال، و(أُثَاثَةَ) بضمِّ الهمزة ثمَّ ثاء مثلَّثة ثمَّ ألف ثمَّ مثلُها ثمَّ هاء، هو ابنُ عبَّاد بن عبد المطلب بن عبد مُناف بن قُصَي، يُكنى أبا عبد الله أو أبا عبَّاد، قال الواقديُّ: شهد مع عليٍّ صِفِّين، ومات سنة سبع وثلاثين، وقيل: سنة أربعٍ عن ستٍّ وخمسين سنةً.
          و(تِيكُمْ) إشارة للمؤنَّث، كذاكم للمذكَّر، و(الْمِرْط) كِساءٌ مِن صوف، قاله الدَّاوديُّ، وقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: مِلْحفةٌ يُؤْتَزرُ به، قال ابن التِّين: وضبط بفتح الميم، وقال الهَرَويُّ: المُروطُ الأَكسِية، وضبطَه بكسرها في بعض الكتب مِنَ الأصل.
          وقولُها: (يَا هَنْتَاهْ) وفي المغازي [خ¦4141]: أَيْ هِنْتَاهُ، هو بنونٍ ساكنة ومفتوحة والأول أشهر وبضمِّ الهاء الأخيرة وتُسكَّن ونونُها مخفَّفة، وعن بعضِهم فيما حكاه القرطبي تشديدُها، وأنكرَه الأزهريُّ، قالوا: وهذِه اللفظة تختصُّ بالنداء، ومعناها: يا هذِه، وقيل: يا امرأة، وقيل: يا بَلْهى، كأنَّها تُنْسَب إلى قِلَّة المعرفة بمكائدِ الناس وشرورِهم؛ وقد سلف في الحجِّ في باب مَن قدم ضعفةَ أهله بالليل، في حديث أسماء [خ¦1679]، وقال ابنُ التِّين: ضبطَه الجوهريُّ بفتح النون، وهو اسم يلزمه النداء، مثل قوله: يا هذِه، ولا يُرَاد / بها مدحٌ ولا ذمٌّ.
          وقولُه بعد (يَا هَنْتَاهْ): (أَلَمْ تَسْمَعِي) كذا هنا، وفي المغازي: وَلَمْ تَسْمَعِي؟ وفي مسلم: أَوْ لَمْ تَسْمَعِي.
          وقولُه: (وَلَهَا ضَرَائِرُ) هو بالألف وهو الصواب؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ تتضرَّر مِنَ الأُخرى بالغيرة وشبهِها، وفي بعض النسخ: <ضرار>، و(وَضِيئَةٌ) أي حسنةٌ جميلةٌ، ومنه اشتُقَّ الوضوء، وقال في التفسير: حَسْنَاءُ.
          وقولُها: (إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا) وجاء في التفسير: إِلَّا حَسَدْنَهَا وَقِيلَ فِيهَا.
          وقولُها: (لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ) أي لا ينقطع، مَهموزٌ مِن رَقَأَ الدم إذا انقطع.
          ومعنى (اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ): أبطأَ.
          وقولُه: (فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم بِالَّذي يعلمُ مِن بَراءةِ أهلِه وبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ) وفي مسلم: وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ أَهْلُكَ. وسمَّى المرأةَ أهلًا، قَالَ الدَّاودِيُّ: وهو جائزٌ أن يجمعَ الواحد والواحدة لأنَّ الأهل يكثرون ويقِلُّون.
          وقولُه: (أَهْلَكَ) رُوي بالنصب أي أمسِك، وبالرفع أي هُمْ أهلك.
          وقولُها: (يَرِيبُكِ) سلف، واقتصر ابنُ التِّين على فتح الياء لأنَّهُ ثلاثيٌّ، أي هل رأيتَ ما يُوجب تهمةً، و(أَغْمِصُهُ) بهمزة مفتوحة ثمَّ غينٍ معجمة ثمَّ ميم ثمَّ صاد مهملة: أعيبُها به وأطعَنُ عليها، يُقال: رجل مغموص عليه في دينه إذا طُعن عليه فيه، وفي كتاب «الأفعال»: غَمَصَ الناسَ غَمْصًا احتقرَهم وطعنَ عليهم، والغمصُ في العَين كالرَّمضِ، و(الدَّاجِنُ) الشاةُ التي تَأْلَفُ البيتَ ولا تخرج إلى المَرعى، وقال ابنُ التين: قيل: هي الشاةُ التي تُحْبَس في البيتِ لدَرِّها، لا تخرج إلى مرعى، وقيل: هو دجاجةٌ أو حمامٌ أو وَحشٌ أو طيرٌ يألفُ البيتَ، وقال الطبريُّ: الدَّاجِنُ الشاةُ المُعتادةُ للقيامِ في المنزل إذا سمنت للذبح واللبن، ولم تسرح في السَّرحِ، وكلُّ معتادٍ مَوضعًا هو به مقيم فهو كذلك داجن، يُقال: دَجَنَ فُلان بمكانِ كذا وأَدجنَ به، إذا أقامَ به.
          وقولُها: (فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَالَ: مَنْ يَعْذُرُنِي) أي طلب مَن يَعْذِره منه، أي يُنصِفُه مِنه، تقول: مَن يعذرُني مِن فلان؟ ومَن عَذيري؟ ويتأوَّل على وجوه:
          أحدها: مَن يقوم بعدَه فيما أوصله إليَّ مِن مكروه.
          ثانيها: مَن يقوم يَعْذِرُني إن عاقبتُه.
          ثالثها: مَنْ ينتقم فيَّ منه، ويشهد لهذا جوابُ سعدٍ: (أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ)، وهو سعدُ بن معاذ، وإنَّما قال ذلك لأن الأوس مِن قومه، وهم بنو النَّجار، ومَن آذى رَسُولَ الله صلعم وجب قتلُه ولم يقل كذلك في الخزرج لِمَا كان بينهم وبين الخزرج، فبقي فيهم بعضُ الأَنَفَةِ أن يحكم بعضُهم في بعض، فإذا أمرَهم الشارعُ امتثلوا أمرَه، وتكلَّم سعدُ بن عبادة وهو سيِّد الخزرج وكان مِن رهط عبد الله بن أُبيٍّ، وهم بنو ساعدة أنفةً أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وليس أنَّهُ رضيَ قول أُبي.
          وقولُها: (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ) كذا في الأصول، وقال ابنُ التِّين: قوله: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، ليس بصحيحٍ، والأحاديثُ: (سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ) والذي عارضه ابنُ عبادة، وفي بعضِها: سعدُ بن عبادة، ووهَّم ابنُ حَزْمٍ الأوَّل؛ لأنَّ سعد بن معاذ مات إثرَ بني قُريظة بلا شكٍّ، وبنو قريظةَ كان في آخر ذي القعدة سنةَ أربعٍ، فبَينَ الغزوتين نحو سنتين، والوَهمُ لم يَعْرَ منه أحدٌ مِنَ البشر، وكذا قال ابنُ العربي: ذِكرُ سعدِ بن معاذ هنا وَهْمٌ اتفقَ عليه الرواة، وقال أبو عمرَ: وهو وَهْمٌ وخطأٌ، وتبعَه عليه جماعةٌ وآخرُهم القرطبيُّ، فقال: إنَّ ابنَ معاذ توفِّي مُنصرفَ رَسُول الله صلعم مِن قُريظةَ سنةَ أربع، لم يختلف فيه أحد مِنَ الرُّواة، وفي البخاري: أنَّها سنة ستٍّ، وقال موسى بن عُقبةَ: سنة أربعٍ، فليس وهمًا محقَّقًا، وذكر ابنُ منده أنَّ ابنَ معاذ مات سنةَ خمسٍ مِن الهجرة. وقال في المَغازي [خ¦4141]: فقام سعدٌ أخو بني عبد الأَشْهَلِ.
          قلتُ: و(سَعْدُ بْنُ مُعَاذُ) هو ابنُ النُّعمان بنِ امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جُشَمَ، أخي حارثة ابنَي الحارث أخي ظَفَر، واسمه كعب بن الخزرج بن عمروٍ النَّبِيتِ بن مالك بن الأوس، وسعدُ بن عبادةَ هو ابنُ دُلَيْمِ بن حارثة بن أبي حَزيمةَ بن ثعلبة بن طَرِيفِ بنِ الخَزرجِ بن ساعدةَ بن كعب بن الخزرج الأكبر، أخي الأوس، ابنَي حارثة بن ثعلبة العَنقاء بن عمرو مُزَيقيا بن عامرٍ ماءِ السَّماء، وأمُّ الأوس والخزرج قَيلَة بنتُ كاهل بن عُذرَةَ بن سعدِ هُذيل، أخي نهد وجُهينة أولاد زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحَافِ بن قضاعة.
          وقولُها: (وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا) تقول: لم يكن قبل ذلك يحمى لنفاق، و(احْتَمَلَتْهُ) بحاءٍ وميم، ولمسلم: اجْتَهَلَتْه)، بجيم وهاء.
          وقولُه: (كَذَبْتَ لَعَمْرُو اللهِ) أي إنَّ رَسُول الله صلعم لا يجعل حكمَه إليك، كذا قَالَ الدَّاودِيُّ، والظاهر كما قال ابن التِّين أنه قال له: كذبتَ، إنَّكَ لا تَقْدِرُ على قتلِه.
          وقولُه: (فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُو اللهِ، واللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) أي إنْ أمرَنا رَسُول الله صلعم قتلناه، وقوم أُسيدٍ بنو عبد الأشهل، وهؤلاء الثلاثة نقباء.
          وقوله: (فَثَارَ الحَيَّانِ) كذا هنا، وقال في التفسير: فَتَثَاورَ، أي فتواثب، قال ابْنُ فَارِسٍ: يُقال: ثَارَ ثَائرُه إذا اشتعلَ غضبًا، ومعنى (خَفَّضَهُمْ): تلطَّفَهم (حَتَّى سَكَتُوا)، ومكثُ الوحيِ شهرًا كان ليعلمَ سيدنا رَسُول الله صلعم المتكلِّم مِن غيره.
          وقولها: (قَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتِي ويومي) وفي نسخة: <وَيَوْمًا> يعني اليومَ الماضي والليلة التي بعدَه.
          وقوله: (إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ) أي آتَيتِيهِ، والإلمامُ هو النزولُ النادرُ غيرُ متكررٍ، وقال بعض المفسِّرين: اللَّمَمُ مُقارفة الذنب مِن غير مواقعة، وقَالَ الدَّاودِيُّ: معناه زنيتِ، وقيل: المُلِمُّ هو الذي يأتي الشيءَ وليس له عادة.
          وقولُه: (فَإِنَّ العَبْدَ / إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ) دعاها إلى الاعتراف، ولم يأمرها بالستر كغيرها لأنَّهُ لا ينبغي عند الشارع امرأةٌ أتت ذنبًا، قاله الداودي.
          وقولُها: (وَاللهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا) هو شأن الصالحين احتقارُ النفس وملازمةُ الافتقار، و(قَلَصَ دَمْعِي) أي ذهب، قاله الداودي، وقيل: نقصَ، يقال: قَلَص الدمعُ: ارتفعَ، وقَلَصَ الظلُّ: تقلَّص، وقال ابنُ السِّكِّيتِ: قَلَص الماءُ في البئر إذا ارتفعَ وهو ماءٌ قَلِيصٌ، وقال القرطبي: يعني أنَّ الحزنَ والمَوجدةَ انتهت نهايتهما وبلغت غايتَهما، ومهما انتهى الأمر إلى ذلك قَلَص الدمعُ لفرط حرارة المصيبة.
          وقولُها: (مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً) هو بضمِّ الهمزة رباعي مِن أحسَّ يحسُّ، قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم:98].
          وقولها: (مَا رَامَ مَجْلِسَهُ) أي ما برح مِنه ولا قامَ منه، قاله صاحب «العين»: يقال: رامَهُ يَريمُه رَيْمًا، أي بَرِحَه ولازمَه، فأمَّا مَن طلبَ الشيءَ فرامَ يرومُ رَوْمًا، و(البُرَحَاءِ) فُعَلاْء مِنَ البَرَحِ _بالمدِّ وضمِّ الباء الموحَّدة وفتح الراء_ وليست بجمعٍ، وهي مشتقةٌ مِنَ البرحِ وهي شِدَّة الحُمَّى وغيرها من الشدائد، وقال في «العين»: شدَّةُ الحَرِّ، وقال الخطَّابي: شدَّةُ الكَرْب، مأخوذٌ مِن قولك: برَّحت بالرجلِ إذا بلغتُ به غايةَ الأذى والمشقَّة، ويقال: لقيتُ منه البَرَحَ، وقَالَ الدَّاودِيُّ: هي العرق، وهو راجع إلى ما سلف.
          و(الجُمَانِ) بضمِّ الجيم وتخفيف الميم: الدرُّ، كذا ذكرَه ابنُ المثنَّى وغيرُه، وقال ابْنُ سِيْدَه: الجُمَانُ هَنواتٌ على أشكالِ اللؤلؤ مِن فضَّةٍ، فارسيٌّ معرَّب، واحدتُه جُمانة، وربما سمِّيت الدُّرَّة جُمَانة، وقيل: الجُمَان خَرَز يُبَيَّض بماءِ الفضَّة، وفي «المغيث»: هو اللؤلؤ الصغار، وقال الجواليقي: وقد جعل لَبِيد الدُّرَّة جُمَانةً، وقال ابنُ التِّين: الجُمَانُ الدُّرُّ عند أهل اللغة، وقَالَ الدَّاودِيُّ: هو شيءٌ كاللؤلؤ يُصْنَع مِنَ الفضة، وقال مرَّةً: هو خَرَزٌ أبيض، قال: وربَّما صيغ مِن الفضة كالحُمُّص.
          و(سُرِّيَ عَنْهُ) مشدَّد مبنيٌّ لِمَا لم يُسمَّ فاعله، أي ذهب عنه ما يجدُ، يقال: سروت الثوبَ عن بدني إذا نزعتُه، ولابن دِحيةَ: نزل عذرُها بعد سبعٍ وثلاثين ليلةً.
          وقولُها: (لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ) إدْلالًا وعتبًا لكونهم شَكُّوا في أمرها مع عِلْمِهم بحُسن طريقها وجميل حالِها.
          ومعنى: {لاَ يَأْتَلِ} في الآية: لا يحلِفُ، والأَلِيَّةُ: اليمين، وقيل: لا يقصرون، مِن قولهم: ما أَلوتُ أنْ أفعلَ كذا، و{الفَضْلِ} المال والسعة في العيش والرزق.
          فإن قلت: أُوْلُوا جماعةٌ، والمراد هنا الصدِّيق؟ قلتُ: قال الضحَّاك: أبو بكرٍ وغيرُه مِن المسلمين.
          وقول أمِّها: (قُومِي إِلَيهِ) أمرٌ بتعزيزه وتوقيره.
          وقولها: (وَاللهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ) مِن باب الإدْلالِ لا الامتهان.
          خاتمةٌ في فوائدِه مختصرةً:
          فيه خروجُ النساء لحاجةِ الإنسان _وهي التبرُّز_ بغيرِ إذن أزواجهنَّ، وخدمةُ الرجال لِمَا يركبنه النساء مِنَ الدَّواب واحتمالُهنَّ في الهوادج، وتركُ مكالمتهنَّ ومخاطبتهنَّ في ذلك، وكتمُ ما يُقَال في الإنسان مِنَ القبيح عنه كما كتم الناسُ القولَ في أمِّ المؤمنين عنها حتى أعلمَتْها أمُّ مِسْطَح به، وتشكِّي الإمامِ والسلطانِ ممَّن يؤذيه في أهله أو غير ذلك إلى المسلمين والاستعذار منه، ومشاورةُ الرجل بطانتَه في فِراق أهلِه لقول قيل، والكشفُ والبحثُ عن الأخبار الواردة إن كان لها نظائرُ أم لا؛ لسؤاله بَرَيرةَ وأسامةَ وزينبَ وغيرِهم مِن بطانته عن عائشةَ وعن سائرِ أفعالها وما يُغمَص عليها، والحكمُ بما يظهر مِنَ الأفعال على ما قيل، وقد جاء مِن حديث عروةَ عن عائشةَ: أنه ◙ سألَ لها جاريةً سوداءَ، فذكرت العجين، وفي لفظ: جَارِيَةً نُوبِيَّةً، ذكرَهما ابن مَرْدَوَيْهِ في «تفسيره».
          وأنَّ المرأةَ لا تخرجُ إلى دار أبوَيها إلَّا بإذن زوجها، وفي رواية أنه ◙ أرسل معها غُلامًا، وفضيلةُ مَن شَهِدَ بدرًا مِنَ المسلمين، وأنَّ الدُّعاءَ عليهم وجفاءَ الكلمةِ فيهم ممَّا يجب أن يُنكَر كما أنكرَتْه على أمِّ مِسْطَحٍ في ابنها مع ما للأبوين مِنَ المقال ممَّا ليس لغيرِهما، وتوقيفُ القول فيه على ما يُقَال، وأمرُه بالتوبة إن كان لَمَّ بذنبٍ، وأنَّ الاعترافَ بما فشا مِنَ الباطل لا يَحِلُّ ولا يَجْمُلُ، وأنَّ عاقبةَ الصبرِ الجميل فيه الغبطةُ والعِزَّة في الدَّارين، وأنَّهُ ◙ ليس كان يأتيه الوحي متى أراد؛ لبقائه شهرًا لا يُوحى إليه، وتركُ حَدِّ مَن له مَنَعةٌ والتعرُّضِ لِمَا يخشى مِن تفرُّق الكلمة وظهور الفتنة، كما ترك ◙ التعرُّضَ لحدِّ عبد الله بن أُبَيِّ ابن سَلول، وغضبُ المسلمين لعِرضِ إمامِهم وسلطانِهم، وأنَّ العصبيَّة تَنقُلُ عن اسم الصَّلاح، كما نقلت سعدَ بن عُبادة مِنَ الصلاح عصبيَّته لعبد الله بن أُبي عن حاله؛ لقول عائشة (وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا).
          وأنَّهُ قد يُسَبُّ الرجلُ أو يُرْمى بشيء يُنْسَب إليه وإن لم يكن فيه ما نُسِب؛ لقول أُسَيْد بن حُضَير: (كَذَبْتَ لَعَمْرُو اللهِ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ) ولم يكن سعد منافقًا لكن لمجادلته عنه استحلَّ منه أُسيد أن يرميَه بالنفاق. وأنَّ الشبهةَ تُسقط العقوبةَ كما تُسقط الحدَّ وتُبيح العِرض وتُسقِطُ الحرمةَ، وأنَّ مَن آذى نَبِيَّه في أهله أو عِرضه أنه يُقتل؛ لقولِ أُسيد بن حُضَير: إن كان مِنَ الأوس قتلناه، ولم يردَّ عليه شيئًا، فكذلك مَن سبَّ عائشة بما برَّأها الله منه أنه يُقتل لتكذيبه القرآنَ الْمُبَرِّئَ لها وتكذيبِه اللهَ ورسولَه، وقال قومٌ: لا يُقتل مَن سبَّها بغير ما برأها الله منه، قَالَ الْمُهَلَّبُ: والنظر عندي يوجب أن يُقتل مَن سبَّ أمَّهاتَ المؤمنين بما رُميت به عائشة أو بغير ذلك؛ لأنَّ قولَ أُسَيد: إن كان مِنَ الأَوْسِ قتلناهُ، إنما قالَه قبلَ نزول القرآن ولم يردَّ عليه قولَه، ولو كان قولُه غيرَ الصواب لَمَا وَسِعَه السكوت عليه؛ لأنَّهُ مفروضٌ عليه بيانُ حدود الله، ومَن سبَّ أزواجَه فقد آذاه وتنقَّصه، فهو مُتَّهمٌ بسوء العقيدة في إيمانه به، فهو دليلٌ على إبطانه النفاقَ.
          وفيه معاقبة المؤذي بقطعِ المعروف عنه والأخذُ بالعفوِ والصفحُ عن المسيء، وأنَّ ذلك مما يَغفر الله به الذنوبَ، وفيه التسبيح تعجُّبًا، وفيه يمين المزكِّي إذا كان غير مُتَّهم / لقوله: (وَلاَ نَعْلَمُ وَاللهِ إِلَّا خَيْرًا)، ثمَّ سماعُ الغيبةِ مثلُ الغيبة؛ لأنَّهُ تتميمٌ لقصد القائل وإبلاغه أملَه، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
          فإن قلتَ: أيُّ تسبيحٍ هنا للباري؟ قلنا: أعظمُ تسبيحٍ وتقديسٍ له، وذَلِكَ تنزيهُ فراشِ نبيِّه عن المعصية، وهو تعالى يتقدَّس أن يدنِّس فراشَ رسولِه، فيجبُ أن يقولَ القائلُ إذا سمع مثل هذا، هذا قالَه ابن العربيِّ في «سراجه»، ثم قال: {يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17]، قال بعضُ المفسرين: تعلَّق به قومٌ في أنَّ مَن بسط لسانَه في عائشة بعد هذا لم يكن مؤمنًا لظاهر الآية؛ ولعَمري إن قائله مرتكبٌ كبيرةً ولا يخرج عن الإيمان بذلك، ثمَّ قال: حاشا لله بل هو كافر؛ لأنَّهُ كذَّب اللهَ الذي برَّأها، والكافرُ يكون بوجهين، أحدهما: أن يكذِّبَ الله، والثاني: أنْ يَكْذِبَ عليه.
          فإن قلتَ: فقد قال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم:5]؟ قلتُ: إنَّهُ لو طلَّق كذلك كانَ يكون ذلك سبقَ في علمِه عدمُه وأنَّهُ ليس هناك خيرٌ منهنَّ، فخرج الكلام على التقدير الممكن لا على ما أخبر به، وأمرُ عائشةَ يبيِّنُ أنَّهُ لا يخلو أحدٌ مِن البلاء، وربما كان في المحنة والبلاء مِن الأصفياء بل هو مِن أقوى أركانه وأعظم برهانه، فأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمَّ الأَمثل فالأَمثل.
          تنبيهاتٌ: أحدًها: قولًها: (تُسَامِيْنِي) أي تُعاليني فتُنازِعُني الحُظوةَ عند رَسُول الله، والمساماة مُفاعلة مِن سما يسمو إذا ارتفعَ وتطاول، قال صاحب «الأفعال»: يُقال سما الفحلُ سَمَاوةً: تطاول على مَن سِواه، وروي: تُنَاصِيني، من المناصاة وهي المساواة، وأصلُه مِن النَّاصية.
          وقولُ زينب: (أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي) أي لا أُكلَّفُ فيما سمعتُ وأبصرتُ فيُعاقبني اللهُ فيهما لكن أَصدُقُ حمايةً لها وذبًّا عنها، وقيل: أصونُهما كراهيةَ أن أقولَ سمعتُ ما لم أسمع ورأيتُ ما لم أَرَ.
          ثانيها: قولُ عروةَ في عبد الله بن أُبيِّ أنَّهُ كان يُشَاع ويُتحدَّث عندَه فيُقِرُّه ويسمعُه ويَستوشيه، قال ثابت: يَستَوشِيهِ يأتلفُ عليه ويستدعيه ويستخرجه كما يستخرج الفارسُ جَري الفرسِ بعَقِبهِ وبالسوط، وقال يعقوب: يقال: مَرَّ فلانٌ يركض فرسه ويُمرِّنهُ ويَسْتَردُّه ويَستَوشيه، كلُّ ذلك طالب ما عنده، وقيل: هو مِن قولك: وَشَى الكَذِب وِشاية، وقال صاحبُ «الأفعال»: وشَى النمَّام يَشِي وِشاية، ووشَى الحائكُ الثوبَ يَشِي وَشْيًا.
          ثالثها: قولُه: (مَا كَشَفَ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ) قال ثابتٌ: الكَنَفُ هنا الثوبُ الذي يَكْنُفُها، أي يسترُها، ومنه قولُهم: هو في حفظ الله وفي كنفِه، قال أبو حاتم: وبعضُ العرب تقول: أنتَ في كَنَفِي، وكَنَفَا الطائر جناحاه، والكَنَفُ أيضًا: الجانب وناحيتا كلِّ شيءٍ كنفاه، وأكنافُ الجبل والوادي: نواحيه، قال ابنُ التِّين: وهذا يحتمل أن يكون على عمومه، ويُحْتَمل أن يكون في حرامٍ.
          رابعها: قوله: (أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي) هو بباء موحَّدة مفتوحة مخفَّفة ومشدَّدة، والتخفيفُ أشهرُ كما قاله النوويُّ، ومعناه: اتَّهَمُوهَا، والأَبَنُ _بفتح الهمزة_ التُّهمة، يقال: أَبَنَهُ يأبُنُهُ ويَأْبِنُه _بالضمِّ والكسر_ إذا اتَّهمه ورماه بِخُلَّةِ سَوْءٍ فهو مَأبُونٌ، قالوا: وهو مشتقٌّ مِن الأُبَنِ _بضم الهمزة وفتح الباء_ وهي العُقَدُ في القِسِيِّ تُفْسدُها وتُعَاب بها، قال ثابت: التأبينُ ذِكرُ الشيء وتتبُّعه، وقال الراعي:
فرَفَّعَ أَصْحابِي المَطِيَّ وأَبَّنُوا                     هُنَيْدَةَ فاشْتَاقَ العُيونُ اللَّوامِحُ
          قال ابنُ السِّكِّيت: أَبَّنُوا هُنَيْدَة: كأنَّهم جَرُوا بها وذكروها، ومَن روى: ((أَبَنُوا عَلَيَّ أَهْلِي)) بالتخفيف فمعناه: فرَّقوها، قال أبو زيد: يُقَال أمر الرجل بالخير وأَبَن به، فهو مأمور ومأبون، وهما سواءٌ، وقال ابنُ التِّين: <أَنَّبُوا> مضبوطٌ بالنون قبل الباء، وعند أبي ذر عكسُه، وكذا هو في «كتاب مسلم» وكتبِ أهل اللغة، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: أَنَّبْتُ الرجلَ تأْنِيبًا إذا لُمْتُه.
          خامسها: قولُها: فَبَقَرَتْ لِيْ الحَدِيثَ، أي شرحَتْهُ وبيَّنته، عن ثابتٍ، وقَالَ الدَّاودِيُّ: قصَّته، وقال صاحبُ «العين»: نقَّرَ عنِ الأمرِ: بحثَ عنه.
          وفيه: أنَّ بَرَيرة انْتَهرَهَا بعضُ أَصْحَابِه، فَقَالَ لَهَا: اصْدُقِي رَسُولَ اللهِ صلعم حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إلَّا مَا يَعلمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ / الأَحْمَرِ. كذا في الأصول: لَهَا بِهِ، بالباء الجارَّةِ، وكذا هو في نسخِ مسلمٍ، وهي روايةُ الجُلُودِيِّ، والهاءُ في: بِهِ، عائدةٌ على ما تقدَّم مِن انتهارها وتهديدها، وفي رواية ابن ماهان: لَهَاتُهَا، بمثنَّاة فوق، والجمهور على أن الصواب الأول والثاني غلطٌ وتصحيفٌ، ومعناه: صرَّحوا لها بالأمر، ولهذا قالت استعظامًا: سُبْحَانَ اللهِ، وقيل: أتوا بسقطٍ مِن القول في سؤالها وانتهارها، يُقَال: أَسْقَطَ وسَقَطَ في كلامه إذا أتى فيه بساقطٍ، وقيل: إذا أخطأَ فيه، وعلى رواية ابن ماهان _إن صحَّتْ_ معناه: أسكتوها، وهو ضعيف لأنَّها لم تسكت، بل قالت: سُبحَانَ اللهِ.
          قال ابن بطَّال: ويُحتمل أن يكون معنى قولِها: حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ، مأخوذٌ مِن قولِهم: سَقَطَ إليَّ الخبرُ إذا علمتُه، ومِن قولِهم: فلانٌ يُساقِطُ الحديثَ، معناه: يرويه، ومنه قول بُسْرِ بن سَعيد: كنَّا نُجالس سعدًا فكان يتحدَّث مِن حديث الناس والأخلاق، وكان يُساقِطُ في ذلك الحديث عن رَسُول الله صلعم. وقوله: يُساقط معناه: يروي الحديثَ في خلال كلامِه، فمعنى حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ: أي ذكروا لها الحديثَ وبيَّنوه، فعند ذلك قالت: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ. إنكارًا له وإعظامًا أن يُنْطَق بمثل هذا القول عمَّن اختارها اللهُ زوجًا لأطيبِ خلقِه وأفضلِهم وجعلَها أحبَّ إليه مِن نساء العالمين، ولا يجوز أن تكونَ إلَّا طيِّبةً مثلَه بقوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] ولذلك جمع براءتَها الله في كتابِه بما يتكرَّر تلاوته إلى يومِ الدين.
          وقوله: (وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ثبت، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ليس مِن الوَقار على الأصحِّ خلافًا لأبي عبيد، إنَّما هو مِن الجلوس، يقال: وَقَرْتُ أَقِرُّ وَقْرًا أي جلست.
          فائدة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية [النور:23]، قال سعيد بن جُبير: إنَّهُ خاصٌّ بعائشةَ، وقال ابن عبَّاس والضحَّاك: إنَّهُ في أمهات المؤمنين خاصَّة، وقيل: كان أصلُه لعائشةَ، ثمَّ قيل لكلِّ مَن رمى المؤمنات، وقيل: خُصَّ به أمهاتُ المؤمنين، ومَن قذف غيرَهنَّ قيل له: فاسقٌ، لا ملعون.