التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا شهد شاهد أو شهود بشيء فقال آخرون

          ░4▒ (بَابُ إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ، أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ، فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ)
          قَالَ الحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلاَلٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم صَلَّى فِي الكَعْبَةِ) وَقَالَ الفَضْلُ: (لَمْ يُصَلِّ)، فَأَخَذَ النَّاس بِشَهَادَةِ بِلاَلٍ، كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ: أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِئَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ.
          2640- ذكر فيه حديثَ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ وفي آخره: (كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ، فَفَارَقَهَا وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ) وقد سلف [خ¦88]، ولا شكَّ أنَّهُ إذا شهد شهودٌ بشيء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك فليس هذا شهادةً لأنَّ مَنْ لم يعلم الشَّيء فليس بحُجَّةٍ عَلَى مَنْ علمه.
          ولهذا المعنى اتَّفقوا أنَّهُ إذا شهد شاهدان بألفٍ واثنان كذلك، واثنان بألفٍ وخمس مئةٍ، أنَّهُ يقضى بالزِّيادة، ولا خلاف أنَّ البيِّنتين إذا شهدت إحداهما بإثبات شيءٍ والأخرى بنفيه وتكافئتا في العدالة، أنَّهُ يؤخذ بقول مَنْ أثبت دون مَنْ نفى لأنَّ المثبِت علم ما جهل النَّافي، والقول قول مَنْ علم.
          وليس حديث عُقبة مخالفًا لهذا الأصل لأنَّ الشَّارع لم يحكم بشهادة المرأة ولا غلَّب قولها عَلَى قول عُقبة، وقول مَنْ نفى الرَّضاع مِنْ ظهور الإيجاب، وإنَّما أشار ◙ إلى أنَّ قول المرأة يصلح للتَّورُّع والتَّنزُّه للزَّوج عن زوجته مِنْ أجلها.
          يوضِّحهُ اتِّفاق أئمَّة الفتوى عَلَى أنَّهُ لا تجوز شهادة امرأةٍ واحدةٍ في الرَّضاع إذا شهدت بذلك بعد النِّكاح.
          ومِنْ هذا الباب ما إذا شهد قومٌ بعدالة الشَّاهد وشهد آخرون بتجريحه، فالقول للثَّاني إذا تكافأت البيِّنتان لأنَّ العدالة علم ظاهرٍ والجرح باطنٌ، فهو زيادةٌ على ما علم الشَّاهد بالعدالة، هذا قول مالكٍ في «المدوَّنة» والشَّافعيِّ وجمهور العلماء، ولمالكٍ في «العتبيَّة» خلافه وسيأتي.
          وما ذكرته مِنِ اتَّفاق أئمَّة الفتوى هو ما ادَّعاه ابن بَطَّالٍ، وقد أجاز بعضُ أهل العلم شهادةَ المرأة الواحدة في الرَّضاع.
          قال ابن حَزْمٍ: صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ وعثمانَ وعليٍّ وابنِ عمرَ والحسنِ والزُّهْريِّ وربيعةَ ويحيى بن سعيدٍ وأبي الزِّناد والنَّخَعِيِّ وشُرَيْحٍ وطاوسٍ والشَّعبيِّ والحكم.
          وفرَّق عثمانُ بشهادتها بين رجالٍ ونسائهم، وذكر الشَّعبيُّ ذلك عن القُضَاة جملةً، وعن الأوزاعيٍّ: أقضي بشهادة امرأةٍ واحدة قبل النِّكاح لا بعده، وعن الشَّافعيِّ وأبي سليمان وأصحابنا: يُقْبَل في الرَّضاع امرأةٌ واحدةٌ، وعن بعضهم: يجوز مع يمينها قاله ابن عبَّاسٍ، وبعضهم قال: لا يجوز في الحكم ويُفَارقُها في الورع.
          وأمَّا شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، فقال الزُّهْريُّ: مضت به السُّنَّة، وبنحوه قال الشَّعبيُّ وعطاءٌ وأبو بكرٍ وعمرُ وعليُّ بن أبي طالب، قال ابن أبي شَيبة: حَدَّثَنا حفص بن غياثٍ، عن الشَّيباني وأبي حنيفة وحمَّادٍ قالا: تجوز شهادة قابلةٍ واحدةٍ، قال: أحدهما وإن كانت يهوديَّةً.
          تنبيهاتٌ:
          أحدها: قِصَّة بلالٍ والفضل، سلف بيانها واضحًا في الصَّلاة [خ¦397].
          ثانيها قوله كذلك: (إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ...) إلى آخره، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هو قول مالكٍ، وحُجَّته أنَّ الشُّهود قد سمع ما سمعه بالألف ولم يسمعه بعضهم، وهذا إذا كان عن مجلسٍ واحدٍ، وقال مالكٌ مرَّةً أخرى: هو يكاذب بعض البيِّنتين إذا ادَّعى المطلوب الأقلَّ، فإن أنكر وقام الطَّالب بهما لم ينفعه واحدةٌ منهما ولا يكون له شيءٌ، وإن ادَّعى إحديهما أخذ بها، وقد أبى ذلك بعض النَّاس إذا قالت واحدة ألفٌ، والأخرى مئةٌ، ورآه تكاذبًا لأنَّ اللَّفظين مختلفان، وليس هذا بقول مالكٍ، وأنَّ ذلك قول بعض النَّاس ولو كان لفظًا متَّفقًا، فقال سُحنون في شاهدين شهد أحدهما بأربعين والآخر بخمسةٍ وأربعين فهما إن أدَّياها لم يُجِزها الحاكم، / وذَلِكَ رأيه، قيل: هل يَسَعُ الشَّاهد أن يسقط ويشهد بأربعين، ليجيز الشَّهادة؟ قال: لا بأس به، قيل: فإن وجد الطَّالب مَنْ شهد له بخمسةٍ هل يَسَعُ الشَّاهد الَّذي أسقطها أن يشهد بها مع هذا؟ قال: نعم، وإن كانت الشَّهادتان عن مجلسٍ استحقَّ الزِّيادة، وهي الخمس مئة مع ما سلف.
          الثَّالث: حديث عُقبة احتجَّ به غير واحدٍ مِنَ المالكيَّة عَلَى أنَّ الرَّضاع لا توقيتَ فيه، لأنَّهُ لم يذكر فيه توقيتًا.