التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بلوغ الصبيان وشهادتهم

          ░18▒ (بَابُ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ، وَقَوْلِ اللهِ ╡: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور:59]، وَقَالَ المُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِي الحَيْضِ، لِقَوْلِهِ ╡: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ...} إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]،، وَقَالَ الحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً، بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ).
          2664- ثمَّ ساق حديثَ ابن عمرَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي، ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي، قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ بِهَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ).
          2665- وحديثَ أبي سعيدٍ الخُدْري: (غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ).
          الشرح: حديثُ أبي سعيدٍ سلف في الجمعة [خ¦879]، وحديثُ ابن عمر في مسلمٍ أيضًا، زاد ابنُ حبَّان في «صحيحه» فيه: فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ. ووقع عند الحُمَيديِّ بدل الخندق: عامَ الفتح، وهو غلط، ونقله ابنُ ناصرٍ عن تعليقة أبي مسعود وخلف ولم يُرَ فيهما، وفي روايةٍ ذكرها ابنُ التِّين: عُرِضتُ عَامَ الخَنْدقِ ولي أَرْبعُ عَشْرةَ سَنَةً فَأَجَازني، قال: وقيل: إنَّما عُرِضَ يوم بدر فردَّه وأجازه بأُحُد، وقال بعضُهم: ذِكرُ الخندق وَهمٌ، وإنَّما كانت غزوةَ ذات الرِّقَاع؛ لأنَّ الخندق سنة خمسٍ وهو قال: أنَّهُ كان في أُحُد ابن أربع عشرة، فعلى هذا تكون غزوة ذات الرِّقَاع هي المراد لأنَّها كانت في سنة أربعٍ بينها وبين أُحُد سنة، وقد يُجَاب بأنَّهُ يحتمل أنَّ ابنَ عمر في أُحُد دخل في أول سنة أربع مِن حين مولده في شوال منها، ثمَّ تكمَّلت له سنة أربع عشرة في شوال مِن الآتية، ثمَّ دخل في الخامس عشرة / إلى شوَّالِها الذي كانت فيه الخندقُ، فكأنَّهُ أراد أنَّه أخذ في أول الرابعة وفي الخندق في آخر الخامسة، وقد أسلفنا عن موسى بن عُقبة وغيرِه أنَّ الخندقَ كانت سنة أربعٍ فلا حاجة إذن إلى ذلك.
          إذا تقرَّر ذلك، فقد اختلف العلماء في شهادةِ الصِّبيان على قولين:
          أحدُهما: أنَّهُ يجوز شهادةُ بعضِهم على بعضٍ، قاله النَّخَعيُّ، وعن شُريحٍ والحسن والشَّعبيِّ وعليٍّ مثله بأسانيد جيدة، وعن شُريحٍ أنَّهُ كان يُجيز شهادَتهم في السنِّ والمُوضِحَةِ ويأباه فيما سوى ذلك، وفي رواية: أنَّهُ أجاز شهادةَ غِلمانٍ في أَمَةٍ وقضى فيها بأربعة آلاف، وكان عروةُ يجيز شهادتهم، قال: ويُؤخذ بأول قولهم، وقال عبد الله بن الزُّبير: هُم أَحرى إذا سُئِلوا عمَّا رأوا أن يشهدوا، وقال ابنُ أبي مُليكَةَ: رأيتُ القضاةَ أخذَتْ بقولِه وتركَتْ قولَ ابنِ عبَّاس، قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ} [البقرة:282] وليسوا ممَّن يرضون، وقال ابنُ سيرين: تُكْتَب شهادتهم ويُسْتَثبتون، وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مثلُه، وقال مَكحول: إذا بلغ خمسَ عشرة سنةً فأجز شهادته، وقال القاسمُ وسالمٌ: إذا أنبتَ، وقال عطاءٌ: حتى يكبرَ، وعند ابنِ المنذر: لا تجوز شهادتُهم عند طائفة لأنَّهُ ليس ممَّن يُرضَى، روي عن ابنِ عبَّاس والقاسمِ وسالمٍ وعطاءٍ والشعبيِّ والحسنِ وابنِ أبي ليلى والثوريِّ والكوفيِّين والشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثور وأبي عُبيد.
          وعند طائفةٍ: يجوز في الجِراح والدَّم، رُوي ذلك عن عليٍّ وابنِ الزُّبير وشُرَيحٍ والنَّخَعيِّ وعروةَ والزهريِّ وربيعةَ ومالكٍ، ويُؤْخَذ بأوَّل قولِهم ما لم يُخَبَّبُوا أو يتفرَّقُوا، قال مالكٌ: فإذا تفرَّقوا فلا شهادةَ لهم إلَّا أن يكونوا قد أشهدوا العدولَ قبل أن يتفرَّقوا، قال أبو الزناد: وهي السُّنَّةُ أن تؤخذَ بشهادة الصبيان أولَ ما يسألون عنه، ويكون يمين الولي مع ذلك، وإن هم أحدثوا ما يخالف شهادتهم الأولى لم يُلتفت إليه، ويُؤخذ بالأول مِن شهادتهم وبذلك كان يقضي عمر بن عبد العزيز، وقال الترمذي: الغلامُ إذا استكمل خمس عشرة فحكمُه كالرجال، فإن احتلمَ قبلَها فكالرِّجال، والعملُ على هذا عند أهل العلم، وبه يقول الثوريُّ وابنُ المبارك والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ، وقالا أيضًا: للبلوغ ثلاثُ منازلَ: بلوغ خمسَ عشرة أو الاحتلام وإلَّا فالإنباتُ.
          وأجمع العلماءُ _كما نقله ابن بطَّال_ أنَّ الاحتلامَ في الرجال والحيضَ في النساء هو البلوغ الذي تلزم منه العبادات والحدود والاستئذان وغيره، وأنَّ مَن بلغ بالحُلم فأُوْنِسَ منه الرشد جازت شهادتُه ولزمته الفرائض وأحكام الشريعة، لحديث أبي سعيدٍ في الباب: (غُسْلُ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) فعلقَّ الغسلَ بالاحتلام، وبلوغُ الحلم وإيناسُ الرشدِ يجوز دفعُ ماله إليه لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، وبلوغ النكاح هو الاحتلام.
          واختلفوا فيمن تأخَّر احتلامُه مِن الرجال أو حيضه مِن النساء، فرُوي عن القاسم وسالم: أنَّ الإنباتَ حدُّ البلوغ، وهو قول الليث وبه قال أحمد وإسحاق، وقال مالكٌ: بالإنبات أو يبلغ مِنَ السِّنِّ ما يعلمُ أنَّ مثله قد بلغ، قال ابنُ القاسم: وذَلِكَ سبعَ عشرة أو ثماني عشرة سنةً، وفي النساء هذه الأوصاف أو الحَبَل إلَّا أنَّ مالكًا لا يقيم الحدودَ بالإنبات إذا زنا أو سرق ما لم يَحْتلم أو يبلغ مِن السن ما يُعلم أنَّ مثلَه لا يبلغُه حتَّى يحتلم، فيكون عليه الحدُّ، ولم يعتبر أبو حنيفةَ الإنباتَ، وقال: حدُّ البلوغ في الجارية سبع عشرة سنة، وفي الغلام تسع عشرةَ، ورُوي ثماني عشرة، وهو قول الثوريِّ.
          ومذهبُ الشافعيِّ: أنَّ الإنباتَ علامةٌ على بلوغ ولدِ الكافر لا المسلمِ، واعتبر خمسَ عشرة في الذكور والإناث، وأُخِذ بحديثِ ابن عمرَ في الباب وهو مذهب الأوزاعيِّ وأبي يوسف ومحمد، وبه قال ابن الماجَشون وابن وَهْب، واحتجَّ مَن اعتبر الإنبات بحديث عطيَّة القُرَظِيِّ قال: كنتُ مِن سبي بني قُرَيظة، فكانوا ينظرون، فمَن أنبتَ الشَّعرَ قُتِل ومَن لم يُنبِت لم يُقْتَل، فكنتُ فيمَن لم يُنبت. رواه أصحابُ السنن الأربعة وصحَّحه الترمذيُّ وابنُ حبَّان والحاكمُ، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين.
          وروى نافع عن أسلمَ عن عمرَ أنَّهُ كتب إلى أُمراءِ الأَجناد: ألَّا يضربوا الجزيةَ إلَّا على كلِّ مَن جرت عليه المواسي، وقال عثمانُ بن عفان في غلامٍ سرق: إن اخضرَّ مئزرُه فاقطعوه، وإن لم يخضرَّ فلا تقطعوه، ووجهُ مَن جعل الثماني عشرة وشِبهَها حدَّ البلوغ وإن لم يكن إنباتٌ ولا احتلامٌ قولُه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، قال ابنُ عبَّاس وغيرُه مِن المفسِّرين: ذلك ثماني عشرة سنة، ومثلُه لا يُعْرَف إلا بالتوقيف، وقد أجمعوا على اعتبار البلوغ في دفع المال إليه، فدلَّ أنَّ البلوغَ يتعلَّق بهذا القَدْرِ مِن السنِّ دون غيره إلَّا أن يقومَ دليل.
          وتفرقةُ الشافعيِّ في الإنبات بين ولد المسلم والذِّميِّ انتفاء التهمة بالنسبة إلى الذِّميِّ لأجل الجزية بخلاف المسلم، وبهذا ظهر الردُّ على ابن بطَّال حيث قال: لا معنى لهذِه التفرقة لأنَّ كلَّ ما جاز أن يكون علامةً في البلوغ للكافر جاز أن يكون في المسلم، أصلُه الحيض للنساء، وأمَّا اعتبار خمس عشرة في حدِّ البلوغ إذا لم يحصل فيها احتلامٌ ولا إنباتٌ فليس في خبر ابنِ عمرَ ذكرُ البلوغ الذي به تتعلَّقُ أحكام الشريعة، وإنما فيه ذكرُ الإجازة في القتال، وهذا المعنى يتعلق بالقوَّة والجَلَدِ، وبه أوَّله أبو حنيفة، ومِن أصل الجميع أنَّ الحُكم متى نُقِل سببُه تعلَّق به، فإنما أجازه للقتال خاصة بهذا السنِّ ومِن أجلها عُرِض، ونحنُ نجيزُ قتالَ الصبيِّ إذا لم يبلغ هذا السنَّ ويُسهم له إذا قاتل، وقد رُوي عن النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ كان يجيزُ المراهقين إذا بلغوا حدَّ مَن يقاتل، قال سَمُرة بن جُندُب: عُرِضتُ على رَسُولِ الله صلعم في بعض غزواته فلم يُجِزْني، وعُرِضَ عليه غلامٌ غيري فأجازَه، فقلتُ: يا رَسُولَ الله، قَبِلْتُهُ وَرَددتني، فلو صَارَعَني لَصَرعْتُهُ، فقال: ((صَارِعْهُ)) فَصَرْعتُهُ، ففرضَ لهُ النبيُّ صلعم.
          قلت: ورواية ابن حبَّان السالفة: وَلَمْ يَرَني بَلَغْتُ، تدلُّ لِمَا قاله الشافعي.
          قال الطحاوي: ولا يُنكِر أبو حنيفة أن يفرضَ للصبيان إذا كانوا يحتملون القتال ويحضرون / الحرب، وإن كانوا غير بالغين، وقال ابنُ التِّين: قولُ مغيرةَ السالف: (احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) لا يُعلَم أنَّ أحدًا احتلمَ مِن الرجال قبلَه إلَّا ما ذُكر مِن أنَّ بين مولدِ عمرو بن العاصي وابنِه قَدْر ذلك، وقد أثبتَه ابنُ بطَّال في أصل البخاري حيث قال بعد أثر الحسن: <وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أنَّهُ رَأَى بِالْيَمَنِ جَدَّةً بِنْتُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، حَاضَتْ لِتِسْعٍ وَوَلَدَتْ لِعَشْرٍ وَعَرَضَ مِثْلُ هَذَا لِابْنَتِهَا>، ثم قال: ويُذْكَر أنَّ عمرَو بن العاصي بينَه وبين ابنِه اثنتي عشرةَ سنةً، ولم أرَ هذا في شيءٍ مِن نسخ البخاري.
          قال ابنُ التِّين: ولا يُعْلَم في النساء مَن تحمِل أقلَّ مِن تسعٍ.
          وحديثُ ابنِ عمرَ احتجَّ به الشافعيُّ في أنَّ خمسَ عشرة سنةً عَلَمٌ على الحَمْلِ، وهو قول ابن وَهْبٍ، وقولُ مالكٍ وأصحابه: بسبع عشرة أو ثماني عشرة أو الإنبات، وانفصلوا عن حديثِ ابنِ عمر أنَّهُ اخْتُلِف فيه كما سلف، قال: ويُحْتَمل أن يكون الحُكم تعلَّق بالبلوغ عند مصادفة هذا السنِّ لا أنَّها السنُّ والمعنى المؤثر في البلوغ، ونحنُ لا نمنعُ أن يكون ابنُ خمس عشرة سنة قد بلغ، ويوضِّح ذلك أنَّهُ ◙ لم يسأله عن سِنِّه، وإنما ذكرَه مِن عند نفسِه على جهة التاريخ، وأيضًا أكثرُ ما فيه أنَّهُ أجازه في القتال وهي لا تتوقَّف عندنا على البلوغ؛ إذ للإمام أن يجيزَ مِنَ الصبيان مَن فيه قوةٌ ونَجدةٌ، وقد يوجد في المراهقين مَن يكون ذلك فيه أكثر هِمَّة مِن البالغين.
          والوجوبُ في حديث أبي سعيدٍ محمولٌ على التأكُّد، وعبارةُ ابنِ التِّين: هو عند أكثر العلماء وجوبُ السُّننِ، وعند بعضِهم وجوبُ الفرائض، واستدلَّ به مَن أوجبَ الجمعة على النِّساء والعَبيد.
          فائدة: الآيةُ التي ذكرها البخاريُّ نزلت في الآيسة ومَن لم تَحِضْ، وأمَّا ذاتُ الحمل فبوضعه عند سائر الفقهاء، وعند ابن عبَّاس ينتظر أقصى الأجلين، واليتامى لا يُنْكَحنَّ حتَّى يَبْلُغنَّ، وقال أحمدٌ: مَن بلغت تسعًا نُكِحت بإذنها.