التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شهادة المختبي

          ░3▒ (بَابُ شَهَادَةِ المُخْتَبِئ)
          وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالكَاذِبِ الفَاجِرِ.
          وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتادة: السَّمْعُ شَهَادَةٌ.
          وَقَالَ الحَسَنُ: (لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَلكِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا).
          2638- ثُمَّ ذكر حديثَ ابن عمر في قِصَّة ابن صيَّادٍ: (وطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِن ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ...) الحديث. وقد سلف في الجنائز [خ¦1354]، وعلَّقَه في الاحتيال مِنْ كتاب الجهاد [خ¦3033].
          2639- وحديثَ عائشة في امْرَأَةِ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ، وفي آخره (فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم).
          والتَّعليق الأوَّل رواه البَيهَقيُّ مِنْ حديث سعيد بن منصورٍ: حَدَّثَنا هُشيمٌ أخبرنا الشَّيبانيُّ عن محمَّد بن عبد الله الثَّقفيِّ أنَّ عمرو بن حُريثٍ كان يجيز شهادته، يعني المختبئ ويقول: كذا يُفعل بالخائن والفاجر.
          وتعليق الشَّعبيِّ رواه ابن أبي شَيبة، عن هُشيمٍ، عن مطرِّفٍ عنه، وعن عبيدة عن إبراهيم قالا: شهادة السَّمع جائزةٌ، وحَدَّثَنا عبيدة، عن بيان بن بِشرٍ قال: كان الشَّعبيُّ لا يجيز شهادة المختبئ.
          وأثر الحسن رواه ابن أبي شيبة، عن حاتم بن وَرْدانَ، عن يونس، عن الحسن قال: لو أنَّ رجلًا سمع مِنْ قومٍ شيئًا فإنَّهُ يأتي القاضي، فيقول: لم يُشْهِدُوني ولكنِّي سمعت كذا وكذا.
          وفي رواية الحسن بن فُراتٍ، عن أبيه أنَّ شُرَيْحًا أجازها، وفي رواية الشَّيبانيِّ عن الشَّعبيِّ عنه أنَّهُ كان لا يجيزُها. وحديث عائشة أخرجَه مسلمٌ أيضًا.
          إذا تقرَّر ذلك فاختلَف العلماء في شهادة المختبئ، فرُوي عن شُرَيْحٍ والشَّعبيِّ والنَّخَعِيِّ / أنَّهم كانوا لا يجيزونها وقالوا: إنَّهُ ليس بعدلٍ حين اختبأ ممَّنْ يشهِد عليه، وهو قول أبي حَنيفة والشَّافعيِّ أي في القديم دون الجديد.
          وذكر الطَّحاويُّ في «المختصَر» قال: جائزٌ للرَّجل أن يشهد بما سمع، إذا كان معاينًا لِمَنْ سمعَه منه وإن لم يُشهِدْه عَلَى ذلك، قال الشَّافعيُّ في «الكتاب الكبير» للمُزَنيِّ: العلم مِنْ وجوهٍ ثلاثةٍ ما عايَنَه فشهِد به، وما تظاهرت به الأخبارُ وثبَت موقعُه في القلوب، وشهادة ما أثبته سمعًا إثبات بصرٍ مِنَ المشهود عليه، ولذلك قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى.
          وأجاز شهادة المختبئ ابنُ أبي ليلى ومالكٌ وأحمد وإسحاق، إلَّا أنَّ مالكًا لا يجيزها إلاَّ عَلَى صِحَّةِ ألَّا يكون المقرُّ مختدعًا ومُقَرَّرًا عَلَى حَقٍّ، لا يقوله بالبراءة والمخرج منه ومثله مِنْ وجوه الحيل، وروى ابن وهبٍ، عن مالكٍ في رجلٍ أدخل رجلين بيتًا وأمرهما أن يحفظا ما سمعا، وقعد برجلٍ مِنْ وراء البيت حتَّى أقرَّ له بما له عليه، فشهدا عليه بذلك فقال: أمَّا الرَّجل الضَّعيف أو الخائف أو المخدوع الَّذي يخاف أن يُسْتَجهل أو يُسْتَضعف إذا شهِد عليه، فلا أرى ذلك يثبتُ عليه، وليحلف أنَّهُ ما أقرَّ له بذلك، إلَّا لِمَا يُذْكر.
          وأمَّا الرَّجلُ الَّذي ليس عَلَى ما وصفت وعسى أن يقول في خلوتِه: أنا أقرُّ لك خاليًا ولا أقرُّ لك عند البِّينة، فإنَّهُ يثبت ذلك عليه.
          وهذا معنى قول ابن حُريثٍ: (وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالفَاجِر الخَائِنِ) وقال ابن التِّينِ: المذهب أنَّهُ إن أقرَّ آمنًا غير خائفٍ جازت شهادة المختبئ وإن كان خائفًا لم تَجُز، وقيل: لا تجوز شهادتُه في غير المذهب.
          واحتجَّ مالكٌ في «العتيبة» بشهادة المختبئ قال: إذا شهد الرَّجل عَلَى المرأة مِنْ وراء السِّتر وعرفها وعرف صوتَها وأثبتها قبلَ ذلك، فشهادتُه جائزةٌ عليها، قال: وقد كان النَّاس يدخلونَ عَلَى أُمَّهاتِ المؤمنين وبينهم حجابٌ، فيسمعونَ منهنَّ، ويحدِّثون عنْهنَّ.
          وقد سأل أبو بكر بن عبد الرَّحمنِ وأبوه عائشةَ وأمَّ سَلَمة مِنْ وراء حجابٍ، ثُمَّ أخبرا عنْهما.
          قَالَ المُهلَّب: وفي حديث ابن عمر مِنَ الفقه جواز الاحتيال عَلَى المشتهرين بالفسق وجُحود الحقوق، بأن يختفي لَهم حتَّى يسمع منهم ما يستسرُّون به مِنَ الحقَّ ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم فهمًا حسنًا لقوله ◙: (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) وهذا حُجَّةٌ لمالكٍ، وكذا في حديث رِفاعة جوازُ الشَّهادة عَلَى غير الحاضر مِنْ وراء الباب والسِّتر لأنَّ خالد بن سعيدٍ سمع قولَها عند رَسُول الله صلعم وهو مِنْ وراء الباب، ثُمَّ أنكرَه عليها بحضرته وحضرة أبي بكرٍ حين دخل إليهما، ولم ينكر ذلك عليه.
          ومِنَ الحُجَّة أيضًا في ذلك أنَّ المعرفة بصوتِ زيد تقع كما تقع بشخصِه، وذَلِكَ إذا كان قد عرف صوته وتكرَّر، فجائز له أن يشهد كما يجوز للأعمى أن يشهد عَلَى الصَّوت الَّذي يسمعه إذا عرفه.
          قَالَ المُهلَّب: وفيه إنكار الهجر مِنَ القول، إلَّا أن يكون في حقٍّ لا بدَّ له مِنَ البيان عند الحاكم، وفي الحكم بين الزَّوجين، فحينئذٍ يجوز أن يتكلَّم به.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها قول الشَّعبيِّ وغيره: (السَّمْعُ شَهَادَةٌ) قد فسَّرَه ابن أبي ليلى قال: السَّمع سمعان إذا قال: سمعت فلانًا يقرُّ عَلَى نفسِه بكذا أجزته، وإذا قال: سمعتُ فلانًا يقول: سمعتُ فلانًا لم أُجِزْه وهذا مذهب مالكٍ وأحمد وإسحاق والجمهور، وليس معنى أنَّ شهادة المختبئ جائزةٌ لأنَّ القائلين ذلك لا يجيزونها.
          وقال ابن المُنْذِرِ: قال النَّخَعِيُّ والشَّعبيُّ: السَّمع شهادةٌ، وأبيا أن يجيزا شهادة المختبئ.
          وقَالَ الدَّاوُدِيُّ: ما ذكره الشَّعبيُّ وغيره صوابٌ، وقد قال مالكٌ في الرَّجل يسمع الرَّجلين يتكلَّمان في الشَّيء أنَّهُ لا يشهد، قال ابن القاسم: إلَّا أن يَعلَم أوَّلَ الكلام وآخره.
          وقال: إلَّا أن يكون قذفًا فليشهد إن سمعه معه غيره، وقال أشهب: هذِه الرِّواية فيها وهمٌ، وليشهد بما سمع مِنْ إقرار أو غصبٍ أو حدٍّ ولا يكتمها، فإن لم يعلم مَنْ هي فعليه أن يُعلِمَه، وقول أشهب هذا مثل قول الحسن يقول: لم يُشْهِدُوني ولكنِّي سمعتُ كذا.
          ثانيها: أسلفنا شرح حديث ابن صيَّادٍ في باب إذا أسلم الصَّبيُّ، مِنَ الجنائز [خ¦1354].
          وقولُه: (لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ) قال ثابتٌ: يُقال: ترمرم الرَّجل إذا حرَّك فاه للكلام ولم يتكلَّم، وقال الخطَّابيُّ: قد يكون ترمرم تحرَّكت مِرَمَّته بالصَّوت، وقال صاحب «الأفعال»: الزَّمزَمة كلامٌ لا يُفْهَم، وقال أبو حنيفة: الزَّمْزَمة الرَّعد ما لم يعلُ أو يفصح، فقد زَمزَم السَّحاب، وهو سحابٌ زَمزَام إذا كثرت زَمزَمته.
          و(يَؤُمَّانِ النَّخْلَ) يقصدانها، والخَتْل الخدع، فكأنَّهُ ينختل أنَّه يسمع كلامه، وهو لا يَشْعُرُ.
          ثالثها: حديث رِفاعة، أخَّرنا الكلام عليه للنِّكاح، فإنَّهُ موضعهُ.
          وقولها: (فَطَلَّقَنِي، فَأَبَتَّ طَلاَقِي). كذا بخطِّ الدِّمْياطيِّ والَّذي نحفظه: فبتَّ.
          و(الزَّبِيرِ) بفتح الزَّاي. و(هُدْبَةِ الثَّوْبِ) طرفه.
          و(العُسَيلة) تصغير العسل، يريدُ الوطء وحلاوة سَلْك الفرَجْ في الفَرْج ليس الماء.
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: صغَّرها لشدَّةِ شبهها به، وقيل: العرب إذا صغَّرت الشَّيء أدخلت هاء التَّأنيث، كما قالوا: دُريهماتٍ، وقيل: إنَّهُ مؤنَّث، وقال الأزهريُّ: العرب تؤنِّث العسل وتذكِّره، وكذا قال ابْنُ سِيْدَهْ والجوهريُّ وغيرهم، ولم يذكر القزَّاز وصاحب «الموعَب» غير التَّأنيث قالا: ونحسب أنَّ التَّذكير فيه لغةٌ، وعن أبي زيدٍ: العُسيلة ماء الرَّجل، والنُّطفة تسمى العُسيلة.
          قال الأزهريُّ: والصَّواب ما قاله الشَّافعيُّ أنَّهُ حلاوة الجماع الَّذي يكون بتغييب الحَشَفة في الفرج، وأنَّث العُسيلة، لأنَّهُ شبَّهها بقطعةٍ مِنَ العسل.
          قلت: وفي حديث عائشة أنَّه ◙ قال: ((الْعُسَيْلَةُ الجِمَاعُ)) رواه الدَّارَقُطْنيُّ، وقيل: إدخالها إشارةٌ إلى أنَّها إلمامةٌ واحدة.
          وقيل فيه دليلٌ عَلَى أنَّهُ لا خيار لامرأة الخَصيِّ إذا بقي له ما يقع به الوطء وإن كان ضعيفًا / قاله الخطَّابيُّ، ومذهب مالكٍ: لها الخيار.
          وقولُه: (أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم) كأنَّهُ استعظم لفظها بذلك. ورواه الدَّاوُدِيُّ: (تُهْجر) قال: أي تأتي بالكلام القبيح.
          ومن تراجم البخاري عليه مَنْ أجاز الطَّلاق الثَّلاث، وتعلَّق بقولها: (فأَبَتَّ طَلاَقِي).
          لكنَّهُ ذكر في باب التَّبسُّم والضَّحك عنها: إنَّ رِفاعة طلَّقني آخر ثلاث تطليقاتٍ.
          ورِفاعة: هو ابن سَمَوءل، طلَّق امرأته تميمة بنت وهبٍ، قاله أبو عُمَر.
          ولأبي موسى المدينيِّ: رِفَاعة بن وَهْب بن عَتيكٍ، روى بكر بن معروفٍ عن مقاتل بن حيَّان في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية [البقرة:230] نزلت في عائشة بنت عبد الرَّحمنِ بن عَتِيكٍ النَّضري، كانت تحت رِفاعة يعني ابن وهبٍ، وهو ابن عمِّها فتزوَّجها ابن الزُّبير ثُمَّ طلَّقها، فأتت رَسُول الله صلعم الحديث.
          وفيه أنَّ في الأوَّل اعترفت أنَّهُ لم يمسَّها، ثُمَّ جاءت ثانيًا فاعترفت بالمسيس فقال: ((كذبتِ في الأولى فلن أُصدِّقكِ في الآخر)) فلبثتْ، فلمَّا قُبِض رَسُول الله صلعم أتتِ الصِّدِّيق فاعترفت بالمسيس فردَّها، فلما قُبِضَ جاءت عمر فقال لها: لئن أتيتني بعد مرَّتكِ هذِه لأرجمنَّكِ.
          قال: وقيل: اسم المرأة أيضًا سُهيمَة، وقيل: الغُمَيصاء، وقيل: الرُّمَيضاء.
          ولابن وهبٍ في «مسنده» أنَّهُ اعترض عنها فلم يستطع أن يمسَّها، ولأبي نُعيمٍ مِنْ حديث أبي صالح، عن ابن عبَّاسٍ: كانت أميمة بنت الحارث عند عبد الرَّحمنِ بن الزُّبير فطلَّقها ثلاثًا..._الحديث_.
          وذكره ابن إسحاق، عن هشامٍ عن أبيه، وسمَّاها تَميمةَ بنتَ وَهْب بن أبي عُبيدٍ، وللنَّسائيِّ أنَّ الرُّمَيضاء أو الغُمَيصاء فذكرته، وأنَّهُ لا يصل إليها.
          وكلام التِّرمِذيِّ يقتضي أنَّها غير المرأة الَّتي تزوَّجت بابن الزُّبير، فإنَّه لمَّا ذكر حديثَها قال: وفي الباب عن ابن عمر وأنسٍ والرُّمَيصاء أو الغُمَيصاء.
          ورواه الطَّبرانيُّ مِنْ حديث عائشة أنَّه ◙ قال للغُمَيصاء: (لاَ، حتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) ولأبي نُعيمٍ مِنْ هذا الوجه أنَّ عمرو بن حَزْمٍ طلَّقَ الغُمَيصاء.
          وأخرجَه ابن مَندَهْ في ترجمة أمِّ سُليمٍ أمِّ أنسٍ ظنًّا منه أنَّها هي المذكورة في هذا الحديث، وليس كما ذكره لأنَّ أمَّ سليمٍ تزوَّجت بأبي طَلحة إلى أن ماتا مِنْ غير بينونة بينهما.
          رابعها: في حديث ابن صيَّادٍ أنَّ الإِمامَ إذا أشكل عليه أمرٌ مِنْ جهة الشَّهادات عنده أن يليَ ذلك بنفسه، ليتَّضح له صِحَّةُ ما قيل أو بطلانُه.