التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود

          ░20▒ (بَابٌ: اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَمْوَالِ وَالحُدُودِ
          وَقَالَ ◙: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ المُدَّعِي، فَقُلْتُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ...} الآية [البقرة:282]، قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ المُدَّعِي، فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُخْرَى).
          2668- ثمَّ ساق حديثَ ابنِ عبَّاس: (أنَّه ◙ قَضَى بِاليَمِينِ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ).
          الشرح: التعليق تقدَّم مسندًا مِن حديث الأشعث بن قيس [خ¦2515]، ويأتي بعدُ في: بابٌ [خ¦2669]، وذكر الأَصيليُّ في حديث ابن عبَّاس: أنَّ الصوابَ وقفُه عليه، كذا رواه أيوبُ ونافعٌ الجُمَحِيُّ.
          وتعليق ابنُ شُبرُمَةَ في بعض نسخِه: <حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ>، قال الإسماعيليُّ: وليس فيما ذكرَه ابنُ شُبرمة معنى، فإنَّ الحاجةَ إلى إذكار إحداهما الأخرى إذا شهدتا، فإن لم يكونا قامت مقامَها يمينُ الطالب التي لو انفردت ممَّن عليه حلَّت محلَّ البينة في الأداء أو الإبراء، فحلَّت هنا محلَّ المرأتين في / الاستحقاق بها مضافةً للشاهدِ الواحدِ، ولو وجب إسقاط السُّنَّة الثابتة في الشاهد واليمين لَمَا ذكره ابنُ شُبرمة فسقطَ الشاهد والمرأتان لقولِه: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، فنقلَه عن الشاهدين إلى يمينِ خصمِه بلا ذكرِ رجلٍ وامرأتينِ.
          قلتُ: وقوله: (فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) يقال: بل تحتاج إليها لإسقاط اليمين عنه، وإنما نزل القرآن على ما يُؤْمَر به الإنسان مِن التوثُّق، وليس في الحدود عند مالك يمينٌ خلافَ ما ذكره البخاريُّ، واختلف أصحابُه في الطلاق إذا ادَّعته المرأةُ على رجلٍ معتادٍ ليمين الطَّلاق، فمنعه ابنُ القاسم وألزمَه أَشْهبُ، واختلفا أيضًا إذا ادَّعى إسقاطَ دمٍ، هل يحلفُ وليُّ الدم؟ فألزمه ذلك ابنُ القاسم دون أَشْهبَ، والفرق عند ابن القاسم: أنَّ هذا لا يتكرَّر في إسقاط القتل بخلاف الطلاق والعِتق، وقيل: لا يمين عليه.
          واختلف إذا ادَّعى العبدُ على مشتريه أنه دفع له مِن عنده مالًا اشتراه به، هل يحلِّفه؟ فقال أصبغُ: لا، وخُولِف، إذ لا تتكرر هذِه الدعوى، وقد تتكرَّر إذا حلَّفه في تاريخ آخر.
          وممَّن ذهب إلى ما ذكره ابن شُبرُمة: ابن أبي ليلى وعطاء والنَّخَعي والشعبي والكوفيُّون والأوزاعي والأندلسيُّون مِن أصحاب مالك، قالوا: لا يجوز القضاء باليمين مع الشاهد، وقال محمد بن الحسن: إن حكمَ به قاضٍ نُقض حُكمه وهو بِدْعة، وقال الزُّهري: هو بِدْعةٌ، وأوَّل مَن حكم به معاوية، ورواه أبو بكرٍ عن حمَّادٍ عن خالدٍ عن ابن أبي ذئب عنه، وهو قول الزهريِّ والليثِ، قالوا: لأنَّهُ خلاف القرآن والسنة؛ أمَّا القرآن فقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وأمَّا السنة فقوله: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، وفي «المحلَّى» عن عطاءٍ: أوَّل مَن قضى به عبد الملك بن مروان، وأشار إلى إنكارِه الحكمَ، ورُوي عن عمر بن عبد العزيز الرجوع إلى ترك القضاء به لأنَّهُ وجد أهلَ الشام على خلافه، وذكر الطحاويُّ كلامًا طويلًا حاصلُه: أنَّ الأحاديث التي فيها القضاءُ في باليمين مع الشاهد قد دخلَها الضعفُ، قال ذلك إثرَ ما ذكرها مِن طريق ابن عبَّاس وأبي هريرة وزيد بن ثابت وجعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه.
          قال: وأنتم رويتم هذا، ولم يبيِّن في الحديث كيف سببُه؟ ولا مَن هو المُستحلَف، فقد يجوز أنَّ ذلك على ما ذكرتُم، ويجوز أن يكون أُرِيد يمينُ المدَّعى عليه إذا ادَّعى المدَّعِي ولم يُقِم على دعواه إلَّا شاهدًا واحدًا، فاستحلفَ له ◙ الْمُدَّعَى عليه ليعلمَ الناس أنَّ المدَّعِي يجب له اليمين على الْمُدَّعَى عليه لا بحُجَّة أخرى غير الدعوى، لا يجب له اليمين إلَّا بها، كما قال قوم: إنَّ المدَّعي لا يجبُ له اليمين فيما ادَّعى إلَّا أن يُقِيم البيَّنةَ أنه قد كانت بَيْنَهُ وبين المدَّعى عليه خلطة ولبس، وإن أقام على ذلك بيَّنة استحلفَ له وإلَّا لم يستحلِف، فأراد الراوي أن ينفي هذا القولَ ويُثبتَ اليمين بالدَّعوى وإن لم يكن مع الدعوى غيرُها، قال: وقد يجوز أن يكون ذلك أُرِيدَ به يمينُ المدَّعِي مع شاهدِه الواحد، إلَّا أنَّ شاهدَه الواحد كان ممن يحكم بشهادته وحدَه وهو خزيمة، فإنَّ الشارع كان قد عدل شهادته بشهادة رجلَين، فلمَّا كان ذلك الشاهد قد يجوز أن يكون خزيمة، فيكون المشهود له بشهادته وحده مستحقًّا لِمَا شهد له كما يستحقُّ غيره بالشاهدين ما شهدا له به، فادَّعى المدَّعَى عليه الخروجَ مِن ذلك الحقَّ إلى المدَّعِي، فاستحلفهُ رَسُول الله صلعم على ذلك، وأُرِيد بنقل هذا الحديث ليعلم أنَّ المدَّعِي إذا أقام البيِّنة على دعواه وادَّعى الْمُدَّعى عليه الخروج من ذلك الحقِّ إليه أنَّ عليه اليمين مع بيِّنتهِ، فهذا وجه آخر، فلا ينبغي لأحد أن يأتي إلى خبر قد احتمل هذه التأويلات فيقطعه على أحدها بلا دليل يدلُّهُ على ذلك مِن كتاب أو سنة أو إجماع.
          قلت: وقام الإجماع على استحلاف المدَّعَى عليه في الأموال، واختلفوا في الحدود والطلاق والنكاح والعِتق، فذهب الشافعي إلى أنَّ اليمينَ واجبةٌ على كلِّ مُدَّعى عليه إذا لم يكن للمدَّعِي بينةٌ، وسواء كانت الدَّعوى في دم أو جراحٍ أو طلاقٍ أو نكاحٍ أو عِتق أو غير ذلك، واحتجَّ بحديث الباب: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، قال: ولم يخصَّ مدَّعِي مالٍ دون مدَّعِي دمٍ أو غيره، بل الواجبُ أن يُحْمَل على العموم، أَلَا ترى أنَّهُ جعل القَسَامةَ في دعوى الدم، وقال للأنصار: ((تُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا))، والدم أعظمُ حُرْمةً من المال؟
          وقال الشافعي وأبو ثور: إذا ادَّعت المرأة على زوجها خلعًا أو طلاقًا وجحد الزوج الطلاق، فالمرأة المُدَّعِية عليها البيِّنة، فإن لم يكن استُحلِف الزوجُ، وإن ادَّعى الخُلْعَ على مالٍ فأنكرت، فإن أقام البيِّنة لزمَها المال وإلَّا حلفَت ولزمَ الزوجُ الفراق لأنَّهُ أقرَّ به، وإذا ادَّعى العبدُ العِتقَ ولا بيِّنة استُحلف السيِّد، فإن حلفَ بَرِئَ، وإن ادَّعى السيِّدُ أنَّهُ أعتقَ عبدَه على مالٍ وأنكر العبدُ حلف ولزم السيِّدُ العِتق، وكان سوَّارٌ يُحلِفُ بالطلاق، وكان أبو يوسف ومحمد يريان أن يُسْتحلَف على النكاح، فإن أبى أُلزم النكاح.
          وذكر ابن المنذر عن الشعبي والثوري وأصحابِ الرأي أنَّهُ لا يُسْتَحلف على شيءٍ مِن الحدود ولا على القذف، وقالوا: يستحلفُه على السرقة، فإن نكل لزمَه النَّكَال، وفيه قولٌ آخر: أن لا يمين في النكاح والطلاق والعِتق والفُرقة إلَّا أن يقيمَ المدعي شاهدًا واحدًا، فإذا أقام استحلفَ المدَّعَى عليه، هذا قول مالك، قال ابنُ حَبيبٍ: إذا أقامت المرأةُ أو العبدُ شاهدًا واحدًا على أنَّ الزوج طلَّقها أو السيِّد أعتقَه، فإنَّ اليمينَ تكون على السيِّد والزوج، فإن حلفا سقط عنهما الطلاق والعِتق، هذا قولُ مالكٍ وابن الماجَشون وابن كنانة، قال في «المدونة»: فإن نكلَ قُضِي بالطلاق والعِتق، ثمَّ رجع مالكٌ فقال: لا يُقضى بالطلاق وليسجن، فإن طال سجنه دِينَ وتُرِكَ، وبه قال ابنُ القاسم، وطُولُ السجنِ عنده سَنَة، وروى أشهبُ عن مالكٍ في «العُتْبِيةِ» في الرجل يأتي بشاهدٍ واحد على رجلٍ شتمَه: أيحلفُ مع شاهده ويستحقُّ ذلك / أو يُستحلَف المدَّعى عليه ويبرأ؟ فقال: لا يحلف في مثل هذا مع الشاهد، وأرى إن كان الشاتمُ معروفًا بالسَفَه يؤدَّب ويُعزَّر، قلتُ له: أَفَتَرى على المدَّعى عليه يمينًا؟ قال: نعم، وليس كلُّ ما رأى المرءُ يجبُ أن يجعلَه سُنَّة فيذهبَ به إلى الأمصار، فضعَّف المدَّعى عليه في هذِه المسألة حين رأى أن لا يجعل قوله سُنَّة.
          وذهب أهلُ المَقالة الأولى إلى أنَّ وجوبَ اليمين على المدَّعَى عليه بمجردِ الدَّعوى في كلِّ دعوى، ولم يرَ مالكٌ في المدَّعى عليه يمينًا حتى يُقِيم المدَّعِي شاهدًا واحدًا في دعوى النكاح والطلاق والعِتق والفرقة، والعَتَاقة عند مالكٍ حدٌّ مِن الحدود؛ لأنَّهُ إذا عتق العبدُ ثبتت حُرمَتُه، وجازت شهادتُه، ووقعت الحدود له وعليه بخلاف ما كانت قبل ذلك، ورأى في الأموال خاصَّةً اليمينَ على المدَّعَى عليه دون شاهدٍ يقيمُه المدَّعِي، لأنَّ إيجابَ البيِّنة على المدَّعي واليمين على المُنكِر إنَّما ورد في خصامٍ في أرضٍ بين الأشعثِ بن قيس ورجلٍ آخرَ، ففيه قَالَ ◙: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، فرأى مالكٌ حملَ الحديث على ما ورد عليه في الأموال خاصَّةً، ورأى في دعوى النكاح والطلاق والعِتق والفِرية إذا أقام المدَّعي شاهدًا واحدًا أن يحلفَ المدَّعَى عليه، فيبرأُ بذلك مِن الدَّعوى التي قويت شُبهَتُها بالشاهد، ولو جاز فيها مِن دخولُ الأيمان دون شاهد يقيمه المدَّعي لأدَّى ذلك إلى إضاعةِ الحُدود واستباحةِ الفروج ورفعِ الملك، ولا يشاءُ أحدٌ أن يدَّعِي نكاح امرأة فتنكر فيحلفها ويبتذلها بذلك، فإن لم تحلف أخذها زوجُها واستباح فرجَها الذي هو أعلى رتبةً مِنَ المال، لأنَّ المالَ يُقْبَل فيه شاهدٌ وامرأتان، ولا يُقْبَل ذلك في النكاح، وإذا ادَّعى أنَّها زوجتُه وصدَّقَتْهُ المرأةُ لم يُحكم بينهما بثبوت الزوجيَّة بتقارُرِهما دون بيِّنة تشهدُ على ذلك، وكذلك لا تُقْبل دعوى المرأةِ على زوجها أنَّهُ طلَّقها إلَّا ببيِّنةٍ ولا يحلِّفُه بدعواها؛ لأنَّ هذا يؤدِّي إلى أن يستبيحَ الأجنبيُّ فرجَها مع كونِها زوجًا للأول؛ لأنَّهُ لا تشاء امرأةٌ تكره زوجَها إلَّا ادَّعت عليه كلَّ يومٍ طلاقًا، وكذا العبدُ في العِتق، ولاسيما إذا عُلم أنَّ الزوجَ أو السيِّد ممن لا يحلف في مقطعِ الحقوق، فكثيرٌ مِن الناس يتجنَّب ذلك، فإن لم يحلِفا طَلقَتْ وعَتقَ.
          هذا قولُ مالكٍ الأول الذي أوجب العِتقَ والطلاقَ بالنكول، والقولُ الآخر الذي رجع إليه أشدُّ احتياطًا في تحصين الفروج والحدود، وأمَّا قياسُ الشافعيِّ كلَّ دعوى على القَسَامة فهي بابٌ مخصوصٌ فلا يُقاس عليه، ولا يُؤخذ ما أصلُه موجودٌ بالسُنَّة فيُجعل فرعًا يُقاس على أصلٍ لا يشبهه، لأنَّ قياسَ الأصول بعضها على بعض لا يجوز، ولو كان فرعًا ما ساغ قياسُه على أصلٍ لا يشبِهُه، وأحقُّ الناس بأن يمنعَ أن يجعل في باب الدعوى في الدم قياسًا على القَسَامة، بل لا يرى القود بالقَسَامة الشافعيُّ، والقَسَامةُ يبدأ فيها المدَّعِي عنده وعند مالك والمدَّعَى عليه في غير هذا يبدأ باليمين، وأيضًا فإنَّها لم يحكم فيها بالأيمان إلَّا بعد اللَّوثِ، وأُقِيمت الأيمانُ مقام الشهادة وغُلِّظت حتى جُعلت خمسين يمينًا، وليس هذا في شيء من الأحكام.
          وقال ابن لُبَابةَ: مذهبُ مالكٍ على ما رُوي عن عمرَ بن عبد العزيز: أنَّهُ لا يجب يمينٌ إلَّا بخلطة، وبذلك حكمَ القضاةُ عندنا، والذي أذهبُ إليه وأُفتي به، فاليمينُ بالدعوى لقوله صلعم: (اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ). وقال ابنُ المنذر: لمَّا جعل الشارعُ ذلك دخل في ذلك الخِيار والشِّرار، والمسلمون والكفَّار، والرجال والنساء، عُلمت المعاملة أو لم تُعلَم؛ هذا قول الكوفيِّين والشافعيِّ وأصحابِ الحديثِ وأحمدَ، قال: ولمَّا قال مَن خالفنا: إنَّ البيِّنة تُقبل مِن غير سببٍ تقدَّمَ مِن معاملةٍ بين المدَّعي وبين صاحبه وجبَ كذلك أن يُستحلف المدَّعَى عليه وإن لم يعلم معاملة تقدَّمت بينهما؛ لأنَّ مخرجَ الكلامَينِ مِن الشارعِ واحدٌ، وما أحدٌ في أوَّل ما يُعامِل صاحبَه إلَّا ولا معاملةَ كانت بينهما قبلَها.
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديثِ الباب: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) في أنَّ اليمين لا يجبُ ردُّها على المدَّعِي إذا نَكَل المدَّعى عليه، قالوا: ويُحْكم بنُكول المدَّعَى عليه، أَلَا ترى قوله: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، ولم يقل: أو يمينك، ولو كان الحكم يتعلَّق بيمين المدَّعِي لذكرَه كما ذكر بيِّنةَ المدَّعِي ويمين المدَّعَى عليه، وسيأتي اختلافُ العلماء في ردِّ اليمين واضحًا في القَسَامة.
          وقوله: (شَاِهدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) قال سِيبَوَيْهُ: المعنى ما يثبت به شاهداك، وتأويله: ما تثبت لك شهادة شاهديك، فحذفَ المضافَ وأقام المضاف إليه مقامَه، وأجمعوا أنَّهُ لا يجب حدٌّ بيمين وشاهد، قال ابن بطَّال: وأمَّا احتجاجُ ابن شُبرمة على أبي الزناد في إبطَّال الحكم مع اليمين مع الشاهد، فإنَّ العلماء اختلفوا فيه، فمِمَّن وافق ابن شُبرُمةَ في ذلك مَن قدَّمناه، وروي عن أبي بكرٍ وعمرَ وعليٍّ وأُبيِّ بن كعب أنَّهُ يُحْكم باليمين مع الشاهد، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيِّين وربيعة وأبي الزناد، وقال به مِن أهل العراق الحسنُ البصري وعبد الله بن عُتبة وابنُه عُبيد الله وخارجةُ بن زيد بن ثابت، أفادَهم ابن المنذر، وإياسُ بن معاوية، قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: والحُكم به عندَهم في الأموال خاصة.
          وقال ابن حزم: روِّينا عن عمرَ بن الخطاب أنَّهُ قضى باليمين والشاهد الواحد، مِن طريقِ ابن وَهْبٍ عن أبي ضَمْرَةَ: أنَّ جعفر بن محمد حدَّثه عن أبيه عنه، وصحَّ عن عمرَ بن عبد العزيز وعبدِ الحميد بن عبد الرحمن وأبي الزِّناد وربيعةَ ويحيى بن سعيد الأنصاريِّ وإياسِ بن معاوية ويحيى بن يَعمُرَ وغيرِهم، وجاء عن عمرَ بن عبد العزيز أنَّهُ قضى بذلك في جراحِ العمد والخطأ، ويقضي به أيضًا مالك في النفس ولا يقضي به في العِتق، والشافعي / يقضي به في العِتق.
          قال ابن عبد البرِّ: ورُوي عن الخلفاء الأربعة وأُبيِّ بن كعب وعبد الله بن عمرو: القضاءُ به مع الشاهد، وإن كان في الأسانيد عنهم ضعف فالحُجَّة قد لزمت بالسُنَّة الثابتة ولا تحتاج السُنَّة إلى مَن يتابعها؛ لأنَّ مَن خالفها محجوجٌ بها، ولم يأتِ عن أحد مِن الصحابة أنَّهُ أنكرَ ذلك بل جاء عنهم القول به، وعلى القول به جمهورُ التابعين بالمدينة، واختُلِف فيه عن عروةَ وابنِ شهاب، وقد رُوي عنه أنَّه أول ما ولي القضاءَ حكمَ بشاهدٍ ويمينٍ، قال ابن عبد البر: وهو الذي لا يجوز عندي خلافُه لتواتر الآثار عن سيدنا رَسُول الله صلعم وعمل أهل المدينة قرنًا بعد قرن.
          ولم يحتجَّ مالك في «موطئه» لمسألة غيرها فقال: مِن الحُجَّة فيها أن يُقَالَ: أرأيتَ لو أنَّ رجلًا ادَّعى على رجلٍ مالًا، أليس يحلفُ المطلوب ما ذلك الحقُّ عليه؟ فإن حلف بطل ذلك الحقُّ عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحبُ الحقِّ أنَّ حقَه لَحَقٌ، وثبت حقُّهُ على صاحبه، فهذا مما لا اختلاف فيه عند أحدٍ مِن الناس، فمَن أقرَّ بهذا فليُقرَّ باليمين مع الشاهد، يريد مالكٌ أنَّهُ إذا حلف صاحبُ الحقِّ فإنَّهُ يقضي له بحقِّهِ ولا شاهدَ معه، فكيف بمن معه شاهد؟ فهذا أولى أن يحلف مع شاهده، ولا يعرف المالكيون في كلِّ بلدٍ غيره إلَّا عندنا بالأندلس، فإنَّ يحيى بن يحيى زعم أنَّهُ لم يرَ الليثَ يُفتي به ولا يذهبُ إليه، وخالف مالكًا في ذلك مع مخالفة السُنَّة، وزعم مَن ردَّ اليمين مع الشاهد بأنَّهُ منسوخ بالآية الكريمة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، ورأى مالكٌ أن يحلفَ الرجل مع شهادة امرأتين في الأموال ويستحقَّ حقَّهُ، كما يحلف مع الشاهد وتحلف المرأة مع الشاهد الواحد كما يحلف الرجل، ويقال للكوفيين: ليس هذا بخلاف القرآن والسنة كما توهَّمتموه، وإنما هو زيادةُ بيانٍ كنكاح المرأة على عمَّتها وخالتها مع قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، ومثل المسْحِ على الخُفَّين مع ما نزل به القرآنُ مِن غسل الرِّجلين ومسحِهما، فكذلك ما قضى به الشارع مِن اليمين مع الشاهد مع الآية.
          ويقال لهم: إنَّ مالكًا أوجب القصاصَ في الجراح باليمين مع الشاهد، قال في «المدونة»: كلُّ جرحٍ فيه قصاص، فإنَّهُ يُقْتصُّ فيه بيمينٍ وشاهدٍ، وقاله عمر بن عبد العزيز، وإن وقع له في كتاب الأقضية ما يُوهم خلاف هذا الأصل حيث قال: ومَن ادَّعى على رجلٍ قصاصًا وأنَّهُ ضربَه بالسوط لم يجب عليه يمينٌ إلَّا أن يأتي بشاهدٍ فيستحلف له، وكان قياسُه أن يحلفَ مع شاهده ويقتصَّ، لكن مُلك القصاص فيها إلى المجروح، وهو مِن حقوقه، وهذِه فيها أدب التعدِّي فقط.
          واحتجُّوا أيضًا فقالوا: الزيادة على النصِّ عندنا نسخٌ له، وجوابُه: إنَّهُ بيانٌ لا نسخٌ، لأنَّ النسخَ إنما هو ما لو وردَ مقترنًا به لم يكن الجمع بينهما، وهنا لو وردا يمكن، فإثباته كإثبات حُكمٍ، كما يأمرنا بالصلاة ثمَّ يوجب الصوم، وقد تناقضَ الكوفيُّون في هذا الأصل، فنقضُوا الطهارةَ بالقهقهةِ وزادوها على الأحداث الثابتة، وجوَّزوا الوضوءَ بالنبيذ وزادوه على إيجاب الوضوء بالماء المنصوص عليه في الكتاب والسُنَّة، ولم يجعلوا ذلك نسخًا لِمَا تقدَّم، فتركوا أصلَهم.
          قَالَ الْمُهَلَّبُ: الشاهد واليمين إنَّما جعلَه الله رخصةً عند عدم الشاهد الآخرِ بموتٍ أو سفرٍ أو غيرِ ذلك مِن العوائق، كما جعل تعالى رجلًا وامرأتين رُخْصةً عند عدم شاهدين، لأنَّهُ معلومٌ أنَّهُ لا يحضر المتبايعين شاهدان عدلان أو أكثر فيقتصرا على شاهد وامرأتين أو على شاهد واحد، هذا غير موجود في العادات بل مِن شأن الناس الاستكثار مِن الشهود، فنقل اللهُ المعتادَ في صفة الشهود مِن حالٍ إلى حالٍ أسهلَ منها، رفقًا مِن الله بخلقه وحفظًا لأموالهم، فلا تناقض في شيء مِن ذلك.
          والحديث بذلك له طرق اقتصر مسلمٌ منها على حديث ابن عبَّاس: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهدٍ، وهو أصحُّ أحاديث الباب، وقد أوضحتُ الجوابَ عما اعترض عليه، وبقيَّةُ طُرقِه في «تخريجِي لأحاديث الرَّافعي»، فسارع إليه ترشد، واقتصرَ ابن بطَّال على حديثِ مالكٍ عن جعفر بن محمد عن أبيه: أنَّهُ ◙ قَضَى باليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وهذا مرسلٌ وهو أصحُّ مِن وصلِهِ عن جابرٍ وعن عليٍّ، وما قدَّمناه أولى منه.