التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم

          ░7▒ (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ، وَالرَّضَاعِ المُسْتَفِيضِ، وَالمَوْتِ القَدِيمِ)
          وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمة ثُوَيْبَةُ) وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ.
          2644- ذكر فيه حديثَ عائشة: (اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ...) الحديث.
          2645- وحديثَ ابن عبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: (لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِة مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ).
          2646- وحديثَ عائشة: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلعم وَعِنْدِي رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (أُرَاهُ فُلاَنًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ...) الحديث، وفي آخرِه: (إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلاَدَةِ).
          2647- وحديثَ عائشة: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلعم وَعِنْدِي رَجُلٌ، قَالَ: (يَا عَائِشَةُ مَنْ هَذَا؟) قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ) تَابَعَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ. /
          الشَّرح: التَّعليق الأوَّل أسندَه فيما سيأتي [خ¦5101]، وحديث عائشة الأوَّلُ أخرجه مسلمٌ والأربعة، والمتابَعَة الأخيرة أخرجَها مسلمٌ عن زهير بن حربٍ، عن ابن مَهديٍّ، عن سفيانَ بِه.
          ومعنى الباب أنَّ ما صحَّ مِنَ الأنساب والموت والرَّضاع بالاستفاضة، وثبت علمُه بالنُّفوس وارتفعت فيه الرِّيب والشَّكُّ أنَّهُ لا يُحتَاج فيه إلى معرفةٍ لعدد الَّذين بهم ثبت عِلْمُ ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشُّهود، ألا ترى أنَّ الرَّضاع الَّذي في هذِه الأحاديث كلِّها كان في الجاهليَّة وكان مستفيضًا معلومًا عند القوم الَّذين وقع الرَّضاع فيهِم، وثبتت به الحُرمة والنَّسب في الإسلام، وتجوز عند مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعيِّ الشَّهادةُ بالسَّماع المستفيض في النَّسب والموت القديم والنِّكاح.
          وقال الطَّحاويُّ: أجمعوا أنَّ شهادة السَّماع تجوز في النِّكاح دون الطَّلاق، ويجوز عند مالكٍ والشَّافعيِّ الشَّهادةُ عَلَى ملك الدَّار بالسَّماع، زاد الشَّافعيُّ والثَّوبُ أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيِّين.
          قال مالكٌ: لا تجوز الشَّهادة عَلَى ملك الدَّار بالسَّماع عَلَى خمس سنين، ونحوِها، إلَّا فيما يكثر مِنَ السِّنين، وهو بمنزلة سماع الولاء، قال ابن القاسم: وشهادة السَّماع إنَّما هي فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنةً.
          قال مالكٌ: وليس أحدٌ يشهدُ عَلَى أحباس الصَّحابة إلَّا عَلَى السَّماع.
          قال عبد الملك: أقلُّ ما يجوز في الشَّهادة عَلَى السَّماع أربعةُ شهداءَ مِنْ أهل العدل أنَّهم لم يزالوا يسمعون أنَّ هذِه الدَّارَ صدقةٌ عَلَى بني فلانٍ محبَّسةٌ عليهم ممَّا تصدَّق بِه فلانٌ، ولم يزالوا يسمعون أنَّ فلانًا مولى فلانٍ قد تواطأ ذلك عندهم وفشا مِنْ كثرة ما سمعوه مِنَ العُدول وغيرِهم ومِنَ المرأة والخادم والعبد.
          واختُلِف فيما يجوز مِنْ شهادة النِّساء في هذا الباب: فقال مالكٌ: لا يجوز في الأنساب والولاء شهادةُ النِّساء مع الرِّجال، وهو قول الشَّافعيِّ، وإنَّما يجوز مع الرِّجال في الأموال خاصَّة أو منفرِدات في الاستهلال وما لا يطَّلع عليه الرِّجال مِنْ أمور النِّساء، وأجاز الكوفيُّون شهادةَ رجلٍ وامرأتين في الأنساب.
          وأمَّا الرَّضاع فيجوز فيه شهادة امرأتين دون رجلٍ، وستعرِفُ مذاهبَهم في كتاب الرَّضاع إن شاء الله تعالى.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها: اختُلِف في (أَفْلَحُ) هذا فقيل: ابن أبي القُعَيس، قال ابن عبد البرِّ: وقيل: أبو القُعَيس، وقيل: أخو أبي القُعَيس، وأصحُّها ما قال مالكٌ ومَنْ تابعَه عن ابن شهابٍ عن عروة عن عائشة الثالث، ويُقال: إنَّه مِنَ الأشعريِّين، وقد قيل: إنَّ أبا القُعَيس اسمُه الجَعْد، ويُقال: الأفلح يُكْنى أبا الجَعْد، وقيل: اسم أبي القُعَيس وائلُ بن أفلحَ، وعند ابن الحذَّاء: قيل أفلحُ بنُ أبي الجَعْد، رواه عبد الرَّزَّاق وقيل أيضًا عمِّي أبو الجَعْد، وفي «صحيح الإسماعيليِّ»: أفلحُ بن قُعَيسٍ أو ابن أبي القُعَيس.
          وقال ابن الجَوْزيِّ عن هشامٍ بن عروة: إنَّما هو أبو القُعَيس أفلحُ، وليس بصحيحٍ، إنَّما هو أبو الجَعْد أخو أبي القُعَيس، وقال القابسيُّ: لعائشة عمَّانِ: الأوَّل هذا، والثَّاني ارتضع هو وأبو بكرٍ مِنِ امرأةٍ واحدةٍ.
          وقيل هما عمٌّ واحدٌ، ورجَّح القاضي عِياضٌ الأوَّل فقال: إنَّهُ أشبه لأنَّهُ لو كان واحدًا لفمهتْ حُكمَه مِنَ المرَّة الواحدة ولم تحتجِب منْه بعدُ.
          فإن قلت: فإذا كانا عمَّين فكيف سَألَتْ عن الميِّت بقولِها: لو كان فلانٌ حيًّا دخل عليْها لعمِّها، فقال صلعم: (إِنَّ الرَّضَاعَةَ...) إلى آخرِه، واحتجبت عن الآخر أخي أبي القُعَيس حتَّى أعلمَها رَسُول الله صلعم؟ قيل: يحتمل أنَّ أحدهما كان عمًّا مِنْ أحد الأبوين منْهما، أو عمًّا أعلى والآخر أدنى، أو نحو ذلك مِنَ الاختلاف، فخافت أن تكون الإباحةُ مُختصَّة بصاحب الوصف المسؤول عنه أوَّلًا، أو يُحتَمل كما قال القُرطبيُّ: أنَّها نَسِيَت القصَّة الأولى فأنشأت سؤالًا آخر، و جوَّزت تبديل الحُكْم، وهو حُجَّةٌ لِمَنْ يرى أنَّ لبن الفحل يحرِّم، وهم الجمهور مِنَ الصَّحابة وغيرِهم.
          قال القاضي عِياضٌ: لم يقل أحدٌ بسقوط حرمتِه إلَّا أهلُ الظَّاهر وابن عُلَيَّة، وفيما ذكرَه نظرٌ ستعرِفُه في النِّكاح.
          ووجه الاستدلال مِنْ حديث عائشة أنَّه ◙ أثبتَ لأَفْلح عمومةَ عائشة، وإنَّما ارتضَعَتْ مِنْ لبن امرأة أبي القُعَيس لأنَّ أبا القُعَيس قد صار أبَاها.
          ومنهم مَنْ قال هُمَا عَمَّان لأنَّ سؤالَها كان مرَّتين وفي زمنين وقد سلف.
          وقال النَّوويُّ: يُحْتَمل أنَّ أحدَهما كان عمًّا مِنْ أحد الأبوين، أو عمًّا أعلى والآخر أدنى، فخافَتْ أن تكون الإباحةُ مختصَّةً بصاحب الوصف المسؤول عنه أوَّلًا.
          والمحفوظ عند الحفَّاظ أن عمَّها مِنَ الرَّضاعة هو أفلحُ أخو أبي القُعَيس، وكُنية أفلحَ: أبو الجَعْد.
          الثَّاني: عند أبي حنيفة لا يجوز للشَّاهد أن يشهدَ بشيءٍ لم يعاينْه إلَّا النَّسبَ والموتَ والنِّكاحَ والدُّخولَ وولاية القاضي، فإنَّه يسعه أن يشهد بهذِه الأشياء إذا أخبرَه بِها مَنْ يثِقُ به، قال في «الهداية»: هذا استحسانٌ، والقياس ألَّا يجوز فيها لأنَّ الشَّهادة مشتقَّة مِنَ المشاهدة، ويجوز للشَّاهد في الأوائل أن يشهد بالإشهار _وذَلِكَ بالتَّواتر_ أو بخبر مَنْ يثقُ به، إمَّا أن يكونا رجلين أو رجلٌ وامرأتان، وقيل: في الموت يكفي إخبارُ واحدٍ وواحدةٍ، وينبغي أن يطلِقَ الشَّهادة ولا يفسِّرَها.
          أمَّا إذا فُسِّر للقاضي أنَّهُ يشهد بالتَّسامع لم تقبل شهادتُه، وإن رأى إنسانًا جلس مجلس القضاء فدخل عليه خصومٌ حلَّ له أن يشهد عَلَى كونه قاضيًا، وكذا إذا رأى رجلًا وامرأة يسكنان بيتًا وينبسط كلُّ واحدٍ إلى الآخر انبساط الأزواج، وعن أبي يوسف: يجوز في الولاء، وعن محمَّدٍ يجوز في الوقف.
          وقال أبو عبد الرَّحمنِ محمَّد بن محمَّد العُتَقيُّ: الشَّهادة عَلَى النَّسب المشهور بالسَّماع جائزةٌ عند جميع الفقهاء، وما أعلم أحدًا ممَّن يُحفظ عنه مِنْ أهل العلم مَنع مِنْ ذلك.
          الثَّالث: فيه إثبات لبن الفحل كما سَلَف، قال مالكٌ في «المبسوط»: نزل ذلك برجالٍ واختَلَف النَّاس عليهم، فأمَّا محمَّد بن المُنْكَدِر وابن أبي خَيْثَمة ففارقوا نساءَهم، وسائر الفقهاء عَلَى التَّحريم، واختَلف فيْهم عبد الله بن عمر وابن الزُّبير وعائشة، قال مالكٌ في «الموطَّأ»: كانت عائشة تُدخِل عليْها مَنْ أرضعتْه أخواتُها وبنات أخِيها، ولا تُدخِل مَنْ أرضَعَتْه نساءُ إخوَتِها.
          وقولها: (فَلَمْ آذَنْ لَهُ) وفي الرِّواية الَّتي بعدَهَا: (لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا _لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ_ دَخَلَ عَلَيَّ؟) في الأوَّل أنَّهُ حيٌّ، وفي الثَّاني أنَّهُ ميِّتٌ، وقد أسلفنا أنَّ لَهَا عمَّين.
          واعتَرض ابن التِّينِ فقال: نصُّ الحديث خلاف ما قالَه الشَّيخ أبو الحسن لقولِه: / أرضعتْك امرأةُ أخي بلبن أخي، فالعمُّ مِنَ الرَّضاعة ثلاثةٌ: أخٌ مِنَ الرَّضاعة لا النَّسب، أخٌ مِنَ الأب مِنَ الرَّضاعة والنَّسب كأفلح، أبٌ مِنَ الرَّضاعة له أخٌ مِنَ الرَّضاعة.
          وفيه أنَّ الرَّضاع لا توقيت فِيه، وهو قول جماعةٍ مِنَ المالكيَّة.
          وقولُه: (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) لفظٌ عامٌ لا يُسْتَثنى منه شيءٌ، كما أوضحنَاه في «شرح العمدة» وكتب الفروع، وما استثنى لا يردُّ عند التَّأمل.
          وقولُه: (إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ) ظاهرٌ في عدم تحريم المصَّة والمصَّتين، لأنَّها لا تَسُدُّ الجوع، ولا تقُوت البدن، إنَّما يقوتُه خمس رضعاتٍ، وقالت عائشة وحفصة: عشر، وقال ابن مَسْعودٍ وأبو ثَورٍ: ثلاث، وقال مالكٌ: واحدة.
          وبعضهم أَوَّلَ قولِه: (إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ) عَلَى رَضاعة الكبير، وأخذت عائشة برَضاع الكبير، وخالَفَها سائر أمَّهات المؤمنين، ورأَوه خاصًّا بسالم.
          واختُلِف في آخر وقتِه فعندنا سنتان، وللمالكيَّة في الزِّيادة عليها أقوالٌ: الشَّهر ونحوِه، شهران الثَّلاثة، أيَّام يسيرة، لمذهبنا ستَّة أشهرٍ حكاه الدَّاوُدِيُّ، واختُلِف إذا فُطِم قبل الحولين ثُمَّ عاد اللَّبن في الحولين هل يجزِئُه؟
          فائدة: الرَّضاع والرَّضاعة بكسر الرَّاء فيْهما والفتحِ، وأنكَرَ قومٌ الكسرَ.